نفحات – الـمواطن الصالح


تعرف معظم المجتمعات تحولات متعددة على مختلف الأصعدة ، ولا سيما في المجالات الحيوية ذات الصلة الوطيدة بحياة الناس فرادى وجماعات،  وهي مجالات التربية والتعليم والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية وما يرتبط بذلك كله من شؤون،  ويكاد الاتفاق يكون حاصلا على ضرورة تحقيق الطفرة والانتقال من الواقع غير المرضي الذي تعاني منه معظم المجتمعات البشرية إلى مستوى أفضل وأرقى، ولذلك غدا حديث الجميع دائرا حول الكيفية والوسائل الضرورية لتحقيق هذا الهدف،  والوسائل المساعدة على التعجيل بالانتقال إلى الأفضل والأرقى والأصلح

ومن المسلمات أن أي وطن لا يبنيه إلا أبناؤه، غير أن البناء تضحية وتعاون وتفان وصبر، وبناء الأوطان عمل جماعي يقوم على تضافر الجهود والتنافس الشريف في دفع عجلة التطور، كل من موقعه، وبقدر إمكاناته، لكن استيعاب هذه الأمور يتطلب الوعي بطبيعتها لا على الصعيد الفردي فحسب، بل على  الصعيد الجماعي أيضا، وصولا إلى الصعيد الوطني العام،  لأنه هو الهدف الحقيقي لكل ارتقاء، وهذا ما يتطلب أمرا آخر هو عمق الإحساس بالمواطنة، والحب الصادق للوطن، وإنكار الذات، وإيثار المصلحة العامة على ما عداها، والعدل في تدبير مختلف شؤون الحياة،  والمساواة في الحقوق والواجبات، والغيرة على هوية الوطن ومقدساته،  واستنكار كل خطر يهدده ويؤذي أبناءه، ورفض أي تهديد يعكر صفوهم، ويفقدهم الأمن والطمأنينة،  وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالمواطن الصالح،  وبالمواطنة الحق،  وذلك يدفع إلى تجديد التساؤل عن مفهوم المواطنة الحق،  وعن المواطن الصالح، من هو؟ وما مواصفاته؟ هل المواطن الصالح هو الذي يؤدي ما عليه من ضرائب كما هو الشأن في بعض المجتمعات الغربية؟ أم المواطن الصالح هو الذي يسلم الناس من أذى يده ولسانه؟ أم المواطن الصالح هو المسالم غير المشاغب،  أي الذي يقبل كل شيء ويرضى بالنصيب فلا يحتج على أمر ولا يطالب بشيء؟  وتتعدد النماذج بتعدد زوايا النظر وطبيعتها ودوافعها؟ وهل الصلاح يقتصر على المواطن المنتج دون غيره؟ وكيف نبني شخصية المواطن لصالح مستقبل الوطن وأبنائه؟ ومن يتحمل بناء شخصية المواطن أصلا؟ وعلى من تقع هذه المسؤولية الجسيمة؟ أهي مسؤولية البيت والأسرة؟ أو المدرسة؟ أم الجمعيات والهيئات المدنية والأحزاب السياسية على تعددها وتنوع مشاربها واتجاهاتها؟ أم المؤسسات الرسمية الوصية في الدولة من مدارس ومعاهد وجامعات؟ أم هي مسؤولية مشتركة؟ل

وتتوالى التساؤلات وتتناسل، غير أن الأسئلة الجوهرية أبعد وأعمق من ذلك،  ومنها على سبيل المثال: أي تربية نريد؟ ما أهدافها القريبة والبعيدة؟ ما طبيعة محتواها؟ وما هي مرجعيتها؟ أومرجعياتها؟ وكيف يمكن التوفيق بين المرجعيات المتعددة؟ وما علاقة العملية التربوية بالعملية التعليمية؟ وكيف نتمكن من تقديم منظومة تربوية صالحة للحاضر وللمستقبل،  تحقق ذاتيتنا وتحافظ على هويتنا،  دون أن تبعدنا عن سياق عصرنا أو تقطع صلتنا بالآخر أو تعزلنا عن محيطنا الكبير والصغير؟ ودون أن نفقد شخصيتنا أو تجعلنا نذوب في غيرنا؟ بل تسمح لنا بالتعايش والحوار العادل،  حوار الند للند،  لا حوار القوي مع الضعيف، وتدفعنا إلى المساهمة في البناء الحضاري العام للإنسانية جمعاء، بدون أنانية ولا تطاول، وتتيح لنا تحقيق كينونتنا وأداء رسالتنا في الحياة أداء يجعلنا مؤهلين لأن نكون بناة للحضارة بالفعل، قادرين على تحمل مسؤولياتنا في الحياة بجدارة واستحقاق،  وتظل الحاجة ماسة إلى المواطن الصالح، وتظل الأسئلة مفتوحة

 د. علي الغزيوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>