عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته قال: حفظت من رسول الله “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك” (رواه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح)ل
وعند الترمذي وغيره زيادة في هذا الحديث فيكون نص الحديث عندهم على هذا الشكل: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة” أما زيادة ابن حبان فقد جاء لفظها على هذا الشكل: “فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة”.. ويروى الحديث بإسناد ضعيف عن عثمان بن عطاء الخرساني عن أبيه عنالحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال لرجل: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك قال: وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: “إذا أردت أمرا فضع يدك على صدرك فإن القلب يضطرب للحرام ويسكن للحلال، وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة”.. وخرج الطبراني نحوه بإسناد ضعيف عن وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد فيه:” فقيل له: فمن الورع؟ قال : الذي يقف عند الشبهة”.ل
ومن خلال هذه الروايات المتعددة للحديث نعرف أن موضوع الحديث هو الوقوف عند الشبهات واتقاؤها حتى لا يقع المسلم في محظور، فيمتطي فتن الحرام بدون وعي، أو باعتقاد الحلية والإباحة، أما آلة التمييز والنقد والتعبير والغربلة لمعرفة ما يريب وما لا يريب من الأمور والنوازل فهو القلب السليم الخالي من الغرض والهوى ، المخلص الإيمان،المنقاد لطاعة الله والمتقيد بشريعة الله وهديه
وقد فهم المسلمون الأولون هذا الحديث حق الفهم،وتقيدوا به تقيدا تاما،وطبقه الورعون منهم تطبيقا حقيقيا في الكثير من مجالات الحياة الواقعية، وكانوا يجدون في ممارسته خفة،على عكس ما يمكن أن تجد فيه بعض النفوس الضعيفة من الضيق والحرج
قال الفضيل: يزعم الناس أن الورع شديد، وما ورد علي أمران إلا أخذت بأشدهما، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. وقال حسان بن أبي سنان: ما شيء أهون من الورع إذا رابك شيء فدعه قال المؤلف: وهذا إنما يسهل على مثل حسان رحمه الله
قال بن المبارك: كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز أن قصب السكر أصابته آفة فاشتر السكر فيما قبلك، فاشتراه من رجل فلم يأت عليه إلا قليل فإذا فيما اشتريت ربح ثلاثين ألفا، قال: فأتى صاحب السكر فقال: يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلي فلم أعلمك فأقلني فيما اشتريت منك، فقال له الآخر: قد أعلمتني الآن وقد طيبته لك، قال : فرجع ولم يحتمل قلبه، فأتاه فقال: يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه فأحب أن تسترد هذا البيع.فمازال به حتى رده عليه
وكان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع ونفق وأرسل ليشتريه،يقول لمن يشتري له : أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب،وقال هشام بن حسان: ترك محمد بن سيرين أربعين ألفا فيما لا ترون به اليوم بأسا
وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاما إلى البصرة مع رجل أن يبيعه يوم يدخل بسعر يومه، فأتاه كتابه: إني قدمت البصرة فوجدت الطعام منقصا فحبسته فزاد الطعام فازددت فيه كذا وكذا، فكتب إليه الحجاج : إنك قد خنتنا وعملت بخلاف ما أمرنا فإذا أتاك كتابي فتصدق بجميع ذلك الثمن ثمن الطعام على الفقراء والمساكين، فليتني أسلم إذا فعلت ذلك
وتنزه يزيد بن زريع عن خمسمائة ألف من ميراث أبيه فلم يأخذه،وكان أبوه يلي الأعمال للسلاطين وكان يزيد يعمل الخوص ويتقوت منه إلى أن مات رحمه الله. وكان المسور بن محزمة قد احتكر طعاما كثيرا،فرأى سحابا في الخريف فكرهه فقال : ألا أراني كرهت ما ينفع المسلمين؟ فآلى ألا يربح فيها شيئا فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر: جزاك الله خيرا
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن أكل الصيد للمحرم إذا لم يصبه، فقالت: إنما هي أيا م قلائل فما رابك فدعه. يعني ما اشتبه عليك هل هو حلال أو حرام فاتركه فإن الناس قد اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصد هو
ولا ينبغي أن يفهم من هذا الحديث عدم العمل بالرخص التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بل أن العمل بها أولى من اجتنابها، وهذا كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا” ولا سيما إن كان الشك أثناء الصلاة فإنه لا يجوز له قطعا لصحة النهي عنه
وينبغي كذلك أن يتفطن المسلم لأمر هام في هذا الباب وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع. فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبهة، فإنه لا يحتمل منه ذلك، بل ينكر عليه. كما قال ابن عمر لرجل من العراق سأله عن دم البعوض : يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين. وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هما ريحانتاي من الدنيا” وقد سأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها فقال: إن كان بر أمه في كل شيء ولم يبق من برها إلا أن يطلق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها فلا يفعل
وسئل الإمام أحمد رحمهالله عن رجل يشتري بقلا ويشترط الخوصة- يعني التي تربط بها حزمة البقل- فقال أحمد: إيش هذه المسائل؟ قيل: إن إبراهيم بن أبي نعيم يفعل ذلك فقال أحمد: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم هذا يشبه ذاك، وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا. أم الأداة التي بها يستطيع المسلم تمييز ما يريب وينصرف إلى ما لا يريب فهي القلب، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى القلب عند الاشتباه. عن وابصة بن معبد ] قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:جئت تسألعن البر والإثم؟ قلت نعم قال: استفت قلبك: البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك”ل
وقد قرأ بشر بن كعب: فامشوا في مناكبها ثم قال لجاريته: إن دريت ما مناكبها فأنت حرة لوجه الله قالت: مناكبها: جبالها، فكأنما سفع في وجهه ورغب في جاريته، فسأل بعض الصحابة فمنهم من أمره ومنهم من نهاه وعند ما سأل أبا الدرداء وكله إلى قلبه فقال: الخير طمأنينة والشر ريبة فذر ما يريبك إلى ما لا يريبك
على أن القلوب التي يمكن أن تكون مؤهلة للتمييز بين ما يريب وما لا يريب هي القلوب التي يكون أصحابها مؤمنين حق الإيمان وممن شرح الله صدرهم حتى لا يفتح الباب في وجه الكثير ممن ليسوا في العير ولا في النفير. بل نجد أن كثيرا من الجهلة لا تنشرح صدورهم للرخص الشرعية كقصر الصلاة في السفر والإفطار فهؤلاء لا عبرة بهم ولا معول على فتوى قلوبهم