كان رجلا مختلفا عن كل الرجال! نظرته المبتسمة أبدا لم تكن لتفارقه حتى في لحظات موته! نظرة جمعت بين براءة الأطفال وعمق الحكماء! وبين هدوء الإبصار ونفاذ الإدراك! ما نظر إليه أحد إلا هاب فيه جلال القرآن! ناطق بصمته، بليغ بإشارته! وكأن الذكر الحكيم كان يتدفق بين عينيه نورا يبهر الأبصار!
أب ولا ككل الآباء! ربى رجالا أصلب من الجبال؛ ولكن بكلمات قلائل، وبنظرات متدفقة بالمحبة الصادقة. وجاهد بصمت زمنَ المكر والفتن، في رحلة العمر من واحات سجلماسة وصحاريها إلى سهول الغرب ووديانه! راحلا؛ لا خلف أذناب البقر، ولا طلبا للقناطير المقنطرة من الذهب والفضة؛ وإنما سار خلف لوح القرآن يبحث له عن ظل آمن! عسى أن تورق جناته بنين وحَفَدَة تزهر أفئدتهم ببصائره وأنواره، وكذلك كان! فهذا بيت آل العمراوي يرفعون راية القرآن من فوق خيمة كبرى، عمادها ابنه الأكبر، صديقنا وأخونا المحبوب الشيخ الفقيه بحق؛ أبو سلمان محمد العمراوي الأستاذ والداعية المربي. وما أخطأ الشيخ الأب رحمه الله مسلك التربية بالقرآن إلى أي أحد من أبنائه البررة، بل أزهرت بين يديه حفيدات حافظات، أديبات مصونات، وحفدة بررة، فاجؤوا الزمان بحفظ القرآن على تخوم الست سنوات! يخرج أطفال الدنيا من بعد لعب إلى لعب يعقبه لعب؛ ويخرج الحفيد صهيب بن عبد العزيز العمراوي مع أبيه راكبا خلفه على دراجته الهوائية البسيطة، يتلقى عنه القرآن غضا بقلب غض!
ويبقى الشيخ الأب خلفهم جميعا، يرقب الجيلين معا: الأبناء والحفدة، بابتسامته المعهودة، راعيا مسيرة القرآن! حتى ختم الله له بالحسنى! بصبيحة كانت في الأرض حزن فراق، وكانت في السماء سرور لقاء! على موعد قدر الله تاريخه باليوم السابع عشر من ربيع الثاني لعام أربع وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى ، بما يوافق الثامن عشر من يونيو للسنة الثالثة بعد الألفين للميلاد.
وإني وإن كنت أنسى وما أكثر ما أنسى! فإنني لا أنسى أبدا ليلةَ عرسِ حفيدته لابنه الفقيه محمد، وقد كانت وليمةً للقرآن، ولأهل القرآن وخدام القرآن من أهل الفضل وأهل العلم؛ إذ اقتربت من الشيخ الأب لأسلم عليه وقد اعتم بعمامته الفيلالية، ينبض وجهه بنور غريب؛ فلم يزد بعد أن رد سلامي بحب غامر أن قال لي: يا فلان! إني أشهدك الله فاشهد علي أنني أحمد الله جل وعلا وأشكره! فتراجعت وجِلا! ووقع بقلبي نحو ما وقع بقلب أبي بكر الصديق رضي اللهعنه لما نزل قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} ففرح بها المسلمون وبكى لها أبو بكر! إذ أبصر فيها نعي رسول الله! لقد ظننت أن تلك الكلمات من أبي محمد العمرواي رحمه الله هي آخر عهدي به؛ وكذلك كان!
وقد حدثني – قبيل تشييع جنازته – ابنه الفقيه أبو سلمان؛ أنه لما اشتد عليه المرض في الأيام الأخيرة قبيل وفاته رحمه الله؛ كان إذا أفاق في هدأة من الوجع؛ ما كان يزيد على أن يطلب شيئا واحدا: (نادوا أمكم تحضر لي وَضوءاً!) فلله در محمد العربي العمراوي أيَّ رجل كان!
قدوة الآباء، ومثال الأجداد، ونموذج المربين، في زمان تهافت فيه الناس على التكاثر في الأصفار! فرحمة الله عليه في العالمين! وجعلنا الله وإياه من أهل الفردوس الأعلى مع الشهداء الأبرار، والمصطفين الأخيار!
اللهم ارحم هذا الرجل واغفر له
وتجاوز عن سيئاته وتقبله عندك
الله انك انت الغفور الرحيم فاغفرله وارحمه
يا آ الله اللهم انعم عليه برضاك ياكريم