يعلم الله وحده كم من الناس مثلي، فرض عليهم أن يقضوا ليالي بيضاء لا يغمض لهم فيها جفن، لا لعلة أصابتهم أو هم ثقيل أناخ عليهم بكلكله أو حتى لمجرد رغبة جامحة في السهر، بل لأن البعض فسدت ضمائرهم واستولى عليهم سلطان الأهواء، تهيأ لهم أن إقامة عرس بدون زعيق وهياج وقعقعة توصلها مكبرات الصوت القوية إلى كل الأنحاء لا قيمة له ولا وزن في عرف المدنية المعاصرة، وللناس في ذلك فنون ومذاهب.
ليس من قبيل الصدفة أن يكون مفهوم العرس -بل الفرح نفسه وربما حتى الحزن- قد تغير، في وقت نشهد فيه تحولات متسارعة في اتجاه شمولي في كثير من المفاهيم والمعايير والقيم، وإن كانت لا تتطلب الكثير من النباهة لفهم ملابساتها وتبين أسبابها والتنبؤ بنتائجها. فطوفان المادية، فرض منطقه على سير الحياة في كل جوانبها، وجعل الناس- وهم يعيشون أسوء حالاتهم على المستوى الروحي- ينجرفون في تياره القوي مجردين من كل أسلحتهم، فكانت النتيجة سقوطا مهولا والمجتمع الإسلامي الذي حفظ له هذا الدين تماسكه، بعد أمد طويل من البعد عن المنهج الرباني، فقد كثيرا من خصائصه المميزة، وبهذا غدا محضنا لمجموعة من الظواهر الشاذة التي لم تكن معهودة من قبل وأصبحت لازمة من لوازمه، تبدو متجسدة في كل مظاهر الحياة الفردية والجماعية، من خلال الاعتقادات والأفكار والممارسات اليومية.ومن ذلك ما نشاهده في أعراسنا، مما نرى فيه تجسيدا عمليا لواقع سمته الغالبة انهيار أخلاقي وتفكك اجتماعي.
السفه في الإنفاق:
أول ما يصدم ذا العقل الرشيد، هو حجم التبذير والإسراف الذي يميز هذه المناسبات، حيث يصرف الواحد من أولئك المترفين الملايين من الدراهم مما يكفي لتزويج حي بكامله، والغالب أن يكون في أمور يراد لها أن تعكس المستوى الاقتصادي والوضع الاجتماعي لصاحب العرس، وهنا تشتعل حمى التنافس بين الأسر، حيث تسعى كل واحدة لإبراز إمكاناتها المادية وحجم ثرائها، فتسجل أعلى الأرقام القياسية فيما يتعلق بالتكلفة النهائية للعرس ومستوى الإنفاق ونوعية “الخدمات”. بل ترى بعضهم يكلف نفسه فوق طاقته ويعمل على إتلاف ما أنفق الأيام والليالي في جمعه، وربما استدان لأجل ذلك، لا لشيء سوى شهوة الظهور وتطبيق مبدأ “افعل فعل جارك أو حول باب دارك” ولو كان في مقدرته ما فوق ذلك لتمادى في الإنفاق إلى أبعد الحدود، حتى يكون في مستوى أغنى الأغنياء، ولا يهمه بعد ذلك أن ينفق عمره في تسديد الديون المتراكمة عليه.
ليلة شعارها المجون:
الأمر الآخر الذي يميز هذه الأعراس، الأجواء الصاخبة بل والماجنة في الغالب الأعم التي تدور فيها، نتيجة فهم خاص لمعنى الفرح والمرح و”النشاط” الذي أصبح من الضرورات اللازمة لأي عرس حتى يسمى كذلك، ويتحقق ذلك من خلال الحضور الواجب والمؤكد للموسيقى والطرب والغناء والرقص، إذ لابد من وجود مجموعة غنائية، يكون لها شرف ممارسة عملية الإزعاج على أوسع المستويات، لأن أصحاب العرس غالبا- وحسب قواعد السلوك الاجتماعي الجديدة أو أعراف المجتمع “المتفتح والعصري”- لا يكتفون بإمتاع الحاضرين من المدعويين وحدهم بل يصرون على إشراك غيرهم في ذلك رغما عنهم، ومكبرات الصوت تفي بالغرض وتؤدي المهمة المطلوبة بكفاءة عالية، فتكفي نظرة إلى أولئك الراقصين الهائجين المائجين، وأغلبهم في أعلى درجات السكر يترنحون في حالة من الغياب التام عن الوعي، فتسمع الكلمات البذيئة الفاحشة، وترى التحرش بالجنس الآخر في أجواء من الاختلاط الفاحش، والواقع أنك في مثل هذه الأجواء ترى كل المناكر مجتمعة في صعيد واحد، وكأن العرف قضى بأن تكون هذه الأعراس مناسبات للهو والمجون والخلاعة بكل أنواعها.
تلك هي الصورة الحقيقية لأعراسنا في زمن العبث والاستهتار بالقيم، وهي صورة لا تعدو أن تكون ترجمة صريحة وتعبيرا أمينا عما يعيشه مجتمعنا من ترد وهبوط يمثل عرضا من أعراض سقمه ووهنه المتعدد الأوجه، وحالة من حالات قصوره السائرة به في طريق الانهيار الشامل، إذا لم يبادر المصلحون والدعاة والمسؤولون وأرباب الفكر بالعمل الجاد لوقف هذا الانهيار.
مقترحات حلول:
أما الحل فهو واضح والطريق إليه سالكة، للقيام بالإصلاح والحيلولة دون الوصول إلى نهاية غير مأمونة. وهكذا يجب تحديد المسؤوليات، ثم بناء الواجبات عليها تبعا لما يقتضيه موقع كل واحد وما تتطلبه المرحلة في ذلك.. فالدولة – كجهاز سلطوي- لها مسؤوليتها ما دامت تعزف على نغمة الإسلام في كل مناسبة وتدعى أنها دولته التي تحمي بيضته وتدافع عن حماه، بل وينص على ذلك في دستورنا، فهي تبعا لذلك مدعوة إلى منع كل ألوان التسيب الأخلاقي، على الأقل وفق ما تمليه القوانين التي ترتب عقوبات زجرية بشأن كثير من المخالفات التي يعرفها المجتمع والتي تظهر بوضوح في أعراسنا، ومسؤوليتها أيضا تأتي من كون سلطاتها التنفيذية هي المخولة بإعطاء الرخص لأي نشاط من قبيل ما يحدث في هذه الأعراس، ومن هنا فهي تساهم بشكل كبير -بقصد أو بغير قصد- في إشاعة الفساد وفي إهدار أبسط حق من حقوق الإنسان حين تسمح بإيذاء الناس علانية وإزعاجهم وإقلاق راحتهم بمثل تلك الممارسات العابثة.
أما المجتمع، فمسؤوليته لا تقل عن مسؤولية الدولة، وهي تتخذ أبعادا متعددة، منها ما هو تربوي خالص، من خلال ترسيخ دعائم صحيحة للتنشئة الاجتماعية، تقوم على مراعاة الضوابط الأخلاقية، ومنها ما هو إصلاحي في إطار أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة وتفعيل فضيلة التناصح بين مكونات المجتمع المختلفة، ومنها ما هو سياسي ينبع من حق المجتمع في ممارسة الرقابة على الدولة وأصحاب القرار.. وهذا كله يتأتى من وعي هذاالمجتمع برسالته في المحافظة على كيانه من التفكك والانهيار، وواجبه في التصدي لكل انحراف يصيبه كما هو مبين في حديث السفينة المشهور. وفي السياق نفسه تبرز مسؤولية العلماء والدعاة والمصلحين باعتبارهم الهيئة المؤهلة لتصدر الصف الأول في معركة الإصلاح الشامل بما أوتوه من علم وفهم وقدرة على رصد مواقع الخلل وممارسة النقد الإيجابي وتقديم العلاج المناسب لآفات المجتمع وأمراضه عن طريق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن. والواقع أن مسؤولية العلماء في هذا الإطار جسيمة بالنظر إلى كونهم يمثلون منارات الهداية الحاملين لتركة النبوة والحريصين على ميراثها العظيم، وهم متى تراخوا في أداء رسالتهم والقيام بأدوارهم وانسحبوا إلى الصفوف الخلفية والزوايا المظلمة وانشغلوا بتوافه الأمور؛ إلا انطفأت الشعلة وساد الظلام وأطبق الجهل وتهيأت الأجواء لدعاة الباطل ومشيعي الفاحشة للعمل بقوة على نشر باطلهم والترويج لمفاسدهم؛ فتكون النتيجة مجتمعا منخورا من الداخل متآكل البنيان سرعان ما ينتهي إلى هاوية سحيقة ما لها من قرار..
وإذا كان حديثنا مقصورا هنا على جانب من جوانب الانحراف في حياتنا المعاصرة، فالأمر لا يخرج عن كونه محاولة لتشريح الواقع عن طريق عرض جزئياته في إطار رؤية شمولية غايتها كشف مواطن الداء كإجراء أولي لمحاولة تقديم البديل الإسلامي.
البديل المنشود:
ويتجسد هذا البديل من خلال إعادة صياغة المجتمع الإسلامي وفق محددات المنهج الرباني، ومن ثم ضبط عملية التغيير الاجتماعي في اتجاه الالتزام بالمنطلقات العقدية والفكرية والتربوية والأخلاقية والاجتماعية التي تمثل الهيكل العام للتصور الإسلامي في شموليته وتوازنه وتكامله.. وهذا يتطلب مبدأ الأمر الوعي الكامل بالواقع المهترئ والجرأة في تقييم الوضع بشكل موضوعي بعيدا عن التسطيح والبهرجة والتغطية على العيوب والتعريف بها والاعتراف بها كما هي لا محاولة تبريرها وتزيينها بل العمل على إعطائها نوعا من الشرعية، انطلاقا من الدفع التعميمي القائل “كلنا مسلمون وإسلامنا على خير ما يرام”.
الخطوة الثانية تتمثل في بلورة منهج تربوي شامل غايته بناء الشخصية المسلمة الصالحة والفاعلة، سواء من خلال الأسرة أو المدرسة أو المسجد أو غيرها،وهذا يتوقف على العودة الواعية والفاعلة والكاملة إلى الإسلام وتحكيم شريعته وتنزيل أحكامه ومبادئه على واقع الحياة للأفراد والجماعات وتطبيقه بشكل شمولي في جميع شؤونهم.
إن أسلمة حقيقية تقوم على إعادة صياغة المجتمع وفق المنهج الإسلامي، وتفعيل حركيته في اتجاه السير على هدي هذا المنهج، هي الكفيلة وحدها باجتثاث جذور الفساد وتهيئ الأرضية الصالحة لحياة طيبة أساسها التعاون على البر والتقوى ونبذ كل مظاهر الانحراف والزيغ وإحياء كل سنة وإماتة كل بدعة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي أسلمة يجب أن تسير وفق منهج تدرجي قائم على فقه الأولويات، متبصر بشروط التغيير الاجتماعي ومستوعب لضرورات الواقع وتحولات العصر.
ولعل أي تغيير في الاتجاه الصحيح يمس المجتمع وأفراده، ينعكس بشكل ملموس على كافة أوجه النشاط فيه، ويكون له أثر إيجابي في توفير حصانة كافية تولد لديه حساسية شديدة تجاه كل انحراف مهما كانت درجته يكون معه حرصه على ثبات ميزان قيمه كاملا. ولذلك فإن أي نشاط أو توجه أو سلوك اجتماعي لا بد أن يكون محكوماً في جملته بالضوابط الشرعية خاضع للرؤية الإسلامية من جميع جوانبه، ومتى شابه أي انحراف فإن المجتمع بكامله يتحرك لتصحيحه دون إبطاء.