في الحاجة إلى دعاة الوسطية والخيرية:
تمر الأمة الاسلامية في المرحلة الراهنة بمرحلة مخاض عسيرة محفوفة بالعديد من التحولات الخطيرة على مستوى العلاقات الدولية بما يؤثر سلبا أو إيجابا على حياة المسلمين بمقدار فقههم لهذه التحولات بموازاة مع بغي السياسة الصليبية الجديدة والهبوط التاريخي للأمة الاسلامية من جهة أخرى ؛ الشيء الذي عرض حياة المسلمين لضروب عدة من التضييق والحرج بما يكفي لتوسيع دائرة إفساد حياتهم وفتنتهم في دينهم ومعاشهم، وتلك إحدى صفات المجتمع المسلم الذي قال فيه عز وجل : {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا، وليعلمن الكاذبين} (العنكبوت : 1-2).
وفي سياق هذه المرحلة الحرجة، تحتاج الأمة الاسلامية قاطبة إلى من يرشدها إلى الطريق المستقيم الذي من أجله بعث الأنبياء والرسل، بل وإلى من يخلصها مما أصيبت به من أسباب الفتن الداخلية والجهل بالاسلام ورسالته ومنهاجه، خاصة وقد تكالبت العديد من العقائد الكفرية المعاصرة على قيمنا وأخلاقنا وسلوكنا في محاولة مستميتة لتحطيم كافة الحصون التي تحمي بيضةالاسلام وهوية المسلمين.
فالأمة في حاجة ماسة وأكثر من أي وقت مضى إلى رجال صادقين يقودونها -قلبا وقالبا- إلى طريق الله عز وجل، وإلى من يرشدها إلى المنهاج العام لتحقيق قوله تعالى : {وربك فكبر}؛ “ولا سبيل لتحقيق هذه الغاية بدون اختيار الربانيين والربانيات، وتعليمهم وتدريبهم؛ تعليمهم العلم الشامل الصحيح، وتدريبهم على حسن التلقي وحسن الأداء والإرسال، وحسن التخلي والتحلي، وحسن التعامل والتحاور والتخاطب، وحسن العرض، وحسن الرد والتحدي. فالدعوة من أحسن الصناعات، بل هي أعظم الصناعات وأفضلها على الإطلاق؛ لأنها تصنع البشر المكرم الذي سخر الله تعالى الكون كله له، وجعله في خدمته لو عرف رسالته.
فتخبط العالم الآن في دياجير الظلم والهوى تقتضي إنهاض الأمة للقيام بدورها، ولا نهوض لها إلا عن طريق العقلاء الحكماء الرشداء المختارين والمنتدبين للأمر الجلل؛ والتبعات والتحديات تقتضي تكوين الدعاة المجندين والداعيات المجندات، والهبوط الحضاري للأمة يقتضي إيجاد الغيورين والغيورات والتفكك الاجتماعي السائد بين أفراد الأمة وشعوبها وقادتها وساستها يقتضي إيجاد المصلحين والمصلحات ليرتقوا الفتق، ويرأبوا الصدع” (1)
إن الأمة الإسلامية في المرحلة الراهنة، مرحلة الوهن والاستضعاف وفساد المنهج، كما العالم برمته المتخبط في أوحال فتن الجاهلية المعاصرة؛ بحاجة ماسة إلى دعاة من طينة خاصة ليكونوا الوجه الحقيقي لرسالة الاسلام ووسطيته وسماحته وشموليته وعالميته يحسنون ولا يسيئون، يبشرون، ولا ينفرون، يعرضون رسالة الاسلام بأسلوبها القرآني الذي يحرص على ترسيخ منهاج الله عز وجل في حياة الناس : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} (النحل : 125)؛ خاصة وقد أصيب حقل الدعوة إلى الله في الكثير من بلدان الاسلام بالعديد من المنفرين والمتشددين والمفسقين والمكفرين بلا منهاج ولا أدلة؛ الشيء الذي أساء إلى صورة الاسلام في أذهان الكثير من الناس، وخاصة منهم العامة والأميون، الذين نظروا إلى الاسلام من خلال فهوم الناس وسلوكهم وتصرفاتهم، فحكموا عليه بالتشدد والتزمت وعدم صلاحيته للانسان. وقد لا نغالي إن قلنا في هذا المقام : إن الخلل في مجموع ما تقدم موجود في منهج الفهم، ولذلك كما يقول د. الشاهد البوشيخي،”عبثا نحاول إصلاح الحال قبل إصلاح العمل، وعبثا نحاول إصلاح العمل قبل تجديد الفهم، وعبثا نحاول تجديد الفهم قبل تجديد المنهج؛ وإن تدبرا يسيرا لأول ما نزل من الهدى – هدى الله جل وعلا- يرشد إلى أن قراءة بمنهج معين، لتحصيل فهم معين، هي أول الطريق، وشرط البدء. إنها القراءة باسم الله(…) فالمنهج الراشد ينتج العلم النافع، والعلم النافع ينتج العمل الصالح، والعمل الصالح ينتج الحال الصالح أو الحياة الطيبة.
وبما أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فلذلك لن يتجدد أمر الدين حتى يتجدد فهم الدين، ولن يتجدد فهم الدين حتى يهتدى في منهج الفهم للتي هي أقوم، وما أشق ذلك في الأمة اليوم، لكثرة الموانع وقلة الأسباب . فكم من ترسبات منهجية فاسدة أفرزتها وراكمتها قرون الضعف والانحطاط في الأمة لا تزال مستمرة التأثير، وكم من مقذوفات منهجية مدمرة صبها الغرب صبا على رؤوس نابتة الأمة، أو نفثها في روعها، فهي فاعلة فيها فعل السحر؛ وليس في الواقع – للأسف- اتجاه عام، أو شبه عام إلى صنع كواسح الركام أو الألغام، ولااتحاد جاد، او شبه جاد، إلى تصنيع ما يخلص العباد من سحرة فرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد” (2).
من هذه المنطلقات وغيرها مما له علاقة بعالم الدعوة والعمل للاسلام، نؤكد – مع المؤكدين- على ضرورة وجود عاملين في حقل الدعوة إلى الله يتصفون بصفات جماعها قوله تعالى : {ولقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة} (الأحزاب : 21) بما يكفي لأن يمنح الاسلام إمكانات معاودة الانتشار في البقاع الاسلامية وغيرها بالشكل المطلوب حتى يتحقق الهدف الأسمى من الدعوة إلى الله، والتي جمعها أبو إسحاق الشاطبي في قوله، في كتاب الموافقات : ” إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا” (3)
ولبلوغ هذا الهدف الأسمى، يتطلب الأمر توفر العديد من الشروط والمقدمات التي تؤسس في مجموعها أرضية الانطلاق الصلبوالخيط اللاحم بين حلقات التواصل بين أجيال الأمة وسنينها، حتى تكون أمة الشهود الحضاري بامتياز في عالم السقوط الحضاري بامتياز كذلك. ولعل من أهم هذه الشروط توفر الداعية الكفء القادر على إعادة تقديم الاسلام بالصورة التي نزل بها أول مرة ليكون لها الأثر البالغ في حياة التائهين في متاهات الثقافات المادية والطينية. إنه الداعية إلى الله با لاسلام الذي يتمثل فيه منهج الأنبياء والرسل إلى الناس، المستوعب لقوله تعالى : {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف : 108).
إنه بصيغة أخرى ، الداعية المستوعب لجماع فقه الدعوة إلى الله تعالى، والذي لخصه عبد الحليم محمود في قوله : ” التعمق والتفقه في فهم تاريخ الدعوة وأساليبها وأركانها وأهدافها وأساليبها ووسائلها ونتائجها، تعمقا وتفقها يمكن الدعاة إلى الله من عرضها أحسن عرض، وأكثرملاءمة لمن توجه إليهم في مختلف بيئاتهم، ومتعدد أجناسهم، ومتباين ألسنتهم ولغاتهم؛ وذلك واجب كل من كان من أتباع محمد [ واجب لا ينفك عنه مادام مسلما، يقوم به حسب قدرته وإمكاناته” (4).
فالدعوة إلى الله مهمة رسالية عظيمة، بها يتم التأليف بين قلوب الناس المتفرقة وجمعها حول الله جل وعلا، جمعا يتقوى الانسان بغيره في معركته ضد كل أشكال الإغواء الشيطانية، فينتصر فيها على الشيطان الذي أخرج آدم عليه السلام من الجنة، فيعود إلى الجنة من جديد، لأنه حقق شرط الاتصال بالله عز وجل، ولا يمكن القيام بهذه المهمة الصعبة ما لم تكن لدى الداعي إلى الله جل وعلا الأهلية الكاملة التي تمكنه من إنجاز الرسالة الدعوية على هدى من الله {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم} (الملك : 22).
في ضرورة التأسي بأخلاق الرسول:
إن الدعوة إلى الله عز وجل في كل مرحلة وفي كل مكان بحاجة ماسة إلى من يبين للناس أن دين الله دين جامع للاخلاق، ودين يرسم الخطوط الكبرى لخلق الانسان، تلك التي ترفعه عن حياة المادة لتسمو به إلى عالم الصفاء الروحي الذي يكشف له عن أسرار تكريم الله جل وعلا له وتفضيله عن كثير ممن خلق تفضيلا.
فلا دعوة ناجحة بدون دعاة مؤهلين بكل المواصفات الضرورية التي تحبب الاسلام،عقيدة وشريعة إلى قلوب الناس، الباحثين بهذا الشكل أو ذاك، عما يملأ فراغات في حياتهم الروحية ويحقق التوازن المطلوب في حياتهم المادية.
ولعل من أهم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الدعاة إلى الله في زمنناهذا على وجه الخصوص، وفي كل زمان على وجه العموم، صفة الخلق الحسن، تلك التي تسهم بشكل كبير في نجاح دعوتهم للناس، وبما أن الدعاة هم ورثة النبي في كل زمان ومكان، فإن المطلوب هو أن يتمثلوا قوله تعالى وهو يصف خلق الرسول : {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم : 4)، وأن يستوعبوا جيدا قوله : ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” رواه البخاري.
فما نجحت الدعوةالأساسية في بداياتها الأولى إلا لتوفر عدة أسباب لعل من أهمها حسن الخلق الرسول ، الموصوف بالصدق والصبر وجمال الروح وغيرها من الصفات الخلقية التي كان يشهد بها حتى أشدأعدائه من الكفار، وكيف يكون كذلك وهو الرسول الذي كان قرآنا يمشي على الأرض. فالقارئ المتفقه لسيرته العطرة سيرى كيف استطاع القرآن الكريم بناء حياة الرسول بناء جعله نموذجا حيا للصناعة الربانية لمن قيظهم الله جل جلاله لحراسة دينه وتبليغه والدفاع عن حق الناس في اتباعه بإرشادهم إليه وإخراجهم من ظلمات الجهل. وصدقت عائشة رضي الله عنها حينما قالت، وهي تصف خلقه : ” كان خلقه القرآن” {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الاسراء : 9).
الشيء الذي يظهر أن ثمة حاجة ماسة إلى ضرورة التخلق بخلق القرآن الكريم أثناء ممارسةالدعوة، لأن الدعوة دعوة للقرآن، وأسلوبها ينبغي أن يكون بأسلوب القرآن الكريم ، ولا يستطيع الداعي إنجاز هذه المهمة ما لم يستوعب كيف تمثل الرسول أسلوب القرآن ومقاصده وخطابه تمثلا جعله قدوة لكل الناس {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة} (الاحزاب : 21).
إنه بقدر حاجتنا للدعاة المخلصين لله جل جلاله في السر والعلانية، الذين تجردوا من كل ما يربطهم بغير الله عز وجل، تحتاج إلى من تكون أخلاقهم في الدعوة أخلاق الرسول ، فما فشلت دعوة الكثيرين، وما اختلطت على الكثيرين من الناس الصورة الحقيقية للاسلام، إلا بسبب وجود نماذج ممن زعموا أنهم ممن أمرهم الله جل جلاله بالقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما هم بالدعاة إلى الله. إنهم من اولئك الذين قال فيهم جل جلاله : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} (النحل : 125)
يقول أبو بكر الجزائري في كتابه (منهاج المسلم) : “الخلق هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال الإرادية الاختيارية من حسنة وسيئة، وجميلة وقبيحة ، وهي قابلة بطبعها لتأثير التربية الحسنة، والسيئة فيها. فإذا ما ربيت هذه الهيئة على إيثار الفضيلة والحق وحب المعروف والرغبة في الخير، وروضت على حب الجميل وكراهية القبيح، وأصبح ذلك طبعا لها تصدر عنه الأفعال الجميلة بسهولة، ودون تكلف قيل فيه ك خلق حسن. ونعثت تلك الأفعال الجميلة الصادرة عنه بدون تكلف بالأخلاق الحسنة، وذلك كخلق الحلم والأناة والصبر والتحمل والكرم والشجاعة والعدل والإحسان؛ وما إلى ذلك من الفضائل الخلقية والكمالات النفسية (…) ومن هنا نوه الاسلام بالخلق الحسن ودعا إلى تربيته في المسلمين وتنميته في نفوسهم، واعتبر ايمان العبد بفضائل نفسه، وإسلامه بحسن خلقه، وأثنى الله تعالى على نبيه بحسن خلقه فقال : {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم : 4)
————
1- المفضل فلواتي : دروس من سيرة المصطفى : المرحلة السرية وفقه اصطفاء رجالها. ط 1 2001
2- الشاهد البوشيخي : نحو منهج لدراسة مفاهيم الألفاظ القرآنية .جريدة المحجة ع 143 2001 ص 16
3- 1/114 دار الرشاد الحديثة- الدار البيضاء (ب. د)
4- فقه الدعوة إلى الله : 1/18 – دار الوفاء – مصر- 1993