أ- تحجيم دور المثقفين الإسلاميين:
ما ساد بين أفرادها وعدد من قيادتها السياسيين، أن العلماء المسلمين يجب أن تنحصر مهمتهم في التوعية الدينية والخلقية والوعظ والإرشاد، مما يبصر الناس بشؤون دينهم، باعتبار أن ما يمتلكونه من معارف ومعلومات، لا يرقى إلى المساهمة، بله البناء، في تصحيح مسار المجتمعات الإسلامية وتحديثها، بل إن منهم من ينكر عليهم جهودهم السابقة في اقتلاع جذور الاستعمار، بحجة أن الشعارات الدينية التي كانوا يحملونها، كانت مهيأة للفشل، وأن التيارات القومية ذات النزعة التقدمية، هي التي حسمت الموقف في القضاء على الاستعمار والتخلص من ربقته، وقد أخلص هؤلاء لهذا الاختيار حينما أخذوا زمام الحكم حيث استبعدوا العلماء والقياديين الإسلاميين من المشاركة في الحكم وإبداء الرأي وتقديم المشورة في السياسات التربوية والاجتماعية والاقتصادية… مما حصر نشاطهم فيما هو ديني تعبدي، لا يستطيعون تجاوزه أو النفاذ منه إلى ما تضطرب به حياة الناس الدنيوية، وما يصطرع فيها من مشاكل ومعضلات، وما يستجد فيها من قضايا ومسائل، للإسلام فيها نظرة وتوجيه، وللعلماء المجتهدين فيها ما يقولون.(1)
وهكذا تعاون “السلف مع الخلف” على تحجيم دور العلماء والمثقفين الإسلاميين، وإشعار الطبقات الشعبية الاجتماعية، بأن مسؤولية هؤلاء محدودة في المسائل الدينية، مما جعل العلماء والمثقفين الإسلاميين يجدون أنفسهم، محاصرين فكريا وثقافيا وحركيا، مبعدين عن المشاركة في تسيير الشأن العام، وتوجيهه من منظور إسلامي، وجعلهم من جديد، في موقع الدفاع عن ثقافتهم وعن الإسلام الحق، وتعاليمه وأهدافه، والتذكير بشموليته، وضرورة اعتماده في تسيير شؤون المجتمعات الإسلامية على اختلاف مشاريعها، وفي كل المجالات التي تتصل من قريب أو بعيد بحياة المسلم، ودخلوا في دوامة من المعارك الثقافية يردون على خصومهم، ويذكرونهم بما غاب عن الساحة السياسية من حقائق وأفكار، وما هو عليه أفراد المجتمع من تخلف اقتصادي، واجتماعي، وانحلال أخلاقي، وفرقة وانكماش، وضعف وتمزق، حتى أصبحوا تبعا للآخرين من خصومهم وأعدائهم، بسبب ابتعادهم عن حقيقة الإسلام وشريعته، وتطبيق تعاليمه وأحكامه في شؤون المال والاقتصاد والاجتماع وحياة الناس عامة واستمرارهم يعيشون على هواهم دون ضوابط أو قيود، ولا اعتبار لوحي السماء، وزاد من انشغال العلماء والمثقفين الإسلاميين، ما يثيره خصومهم من قضايا، ومسائل ومستجدات، ومستحدثات معاصرة تهم حياة الناس، دون أن يقول فيها العلماء وغيرهم كلمتهم، أو يقدموا حلولا لبعضها.
ب- تخلف الفقه عن الركب الحضاري:
تخلف الفقه -لا الشريعة- عن الركب الحضاري للإنسان منذ إغلاق باب الاجتهاد أو النكوص عنه، وسيادة عصور التخلف والانحطاط والجمود.
لقد تأخر الفقه عن مواكبة الزمن وما عرفته حياة المسلمين من تجدد، وما حدث لهم من قضايا تحتاج إلى الرؤية الإسلامية والحلول الفقهية، مما يمكن القول معه إن هناك نوعا من الفراغ الفقهي في عدد من المشكلات والمسائل المستجدة، أن هناكهوة بين الفقه وبعض مناحي الحياة المتجددة في عصرنا الحالي، تحتاج إلى جهود وإعمال فكر لحلها وقيام العلماء ورجال الشريعة، من موقع مسؤولياتهم، بواجبهم انطلاقا من الأمانة التي طوقهم بها الوحي : {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}(التوبة 122)، >العلماء ورثة الأنبياء< أداء لرسالتهم المتمثلة في إيلاء مزيد من الاهتمام لقضايا المسلمين مما يؤرق عيشهم وما يطرأ على حياتهم من نوازل وأقضية، ودراستها وإظهار وجه الشرع والفقه فيها، سواء أكانت المشاكل والقضايا عبادية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، مع تقديم اجتهادات فقهية جديدة في بعض المسائل القديمة بما يتفق مع تغيير الظروف الزمانية والمكانية، كما حدث في زمن الإمام الشافعي، إذ الاجتهاد حركة دائمة مستمرة، والجهر بين الناس بالقول الصائب في كل ذلك، لا يصدهم عن الحق الذي يدركون صوابه وسداده ونفعه للناس، خوف من سلطان أو حاكم، أو طمع في مغنم أو مكاسب.
إن من شأن هذا السلوك الذي يطبعه الجهر بالحق والانتصار للدين والشريعة، أن يعيد من جديد توثيق الروابط والصلات، بين القيادة العلمية الشرعية، ومختلف مكونات الأمة وشرائحها، ويعمق الترابط بينهما، ويبعث في النفوس توقير العلوم الشرعية والثقافة الإسلامية من جديد، باعتبار أن أصحابها زاوجوا بين الدين كشريعة وعلم، وبين الحياة كممارسة وسلوك.
ج- ابتعاد المجتمعات عن التعاليم الإسلامية في شؤون الحياة الدنيا، واستعداد عقلي ونفسي لتقبل النموذج الحضاري الغربي في حياة الناس، بما يمتلكه من إغراءات وأدوات، وما تميل إليه النفوس من هوى وشهوات، وما تنساق معه من تيارات واردة، وقوانين وضعية غربية دون أن تعرف حكم الشارع فيها، ولا أن تدرك خلفياتها وأبعادها، وذلك بسبب الانحطاط العلمي والثقافي الإسلامي، والفراغ الفكري والخواء الروحي، مما يساعد على إيجاد بيئة بعيدة عن روح الإسلام الحق ومقاصده.
وزاد الأمر سوءً غياب الثقافة السياسية عن الشعوب الإسلامية بسبب ضمور الفقه الدستوري لفائدة فقه العبادات، مما ضاع معه مبدأ الشورى الذي يعتبر أساس الإسلام في الحكم وفق توجيهات الوحي، وسنن الفطرة، واحتياجات الجماعات والشعوب، وهذا بالرغم من أن الشورى ذكرت في القرآن الكريم في سياق مجموعة من التوجيهات الربانية والفرائض الدينية، كلها تعتبر واجبة على المسلمين…{الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحشوإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} حيث إن ما ورد ذكره في هذه الآية الكريمة من سورة الشورى، يعتبر فرائض، ومع ذلك وقع الانسياق في تفسير الشورى على أنها مندوبة مستحبة، غير ملزمة ولا واجبة، مما جعل فقهاء العصور وعلماءه يكتوون بمثل هذا النوع من التفسير.
د- تفرد القيادات السياسية بالتقرير:
لقد تفردت القيادات السياسية وحدها بالتقرير والتطبيق في مختلف القضايا والمستحدثات التي تهم حاضر الأمة ومستقبلها، ويتحدد على أساس الاختيارات المقررة فيها، وجودهاوإبراز كيانها وخصائصها، على الرغم من حرص العلماء على إبداء رأيهم فيها، وتقديم تصوراتهم حولها، ولا يكفي ما بدأنا نلاحظه في بعض البلاد الإسلامية من إقدام بعض القيادات السياسية على ضم بعض العناصر من العلماء والفقهاء إليها، لمشاورتهم إرضاء لها، ولفئات عريضة من الشعب.
لقد أضحى من اللازم البحث عن الوسائل الكفيلة بإعادة العلاقة الصادقة والتعاون الخالص المثمر لخير هذه الأمة، بين أهل العلم والمعرفة : القيادة الفكرية، ورجال الحكم : القيادة السياسية، وتجاوز ذلك الاعتماد الذي يتجاهل الآخر أو يستبعده وينفيه. إذ من شأن التقارب بين القيادتين أن ييسر أسباب التعاون بينهما، بما يخدم مصلحة الأمة، ذلك أن الاستقرار السياسي واستتباب الأمن الداخلي الذي ينشده الحكام، يتحقق بالعمل الجماعي المتمثل في تشاور رجال القيادة السياسية مع أهل العلم والمعرفة والدراية، {وشاورهم في الأمر}.
وهذا النهج هو الذي سلكه رسول الله في تصريف شؤون الدنيا حيث كان المنهج الجماعي التشاركي المتمثل في التشاور مع أهل العلم من صحابته، هو سبيله فيما لم يرد فيه وحي سماوي، وقد سلك صحابته ] هذا النهج، حيث يمكن القول بأن القيادة ذات البعد الواحد لم تكن تستأثر وحدها برسم معالم سياسة الأمة في مختلف مجالات حياتها.
ويوم تعي القيادات السياسية الحاكمة فاعلية هذا النهج وأثره في تسيير شؤون الأمة، فإن الاستقرار السياسي والأمني، وما اصطلح عليه بالسلم الاجتماعي…سوف يعم الأفراد والجماعات ويسود أرجاء البلاد وينعم به العباد في المعاش بما يهيئهم لخير المعاد.
هـ – اعتماد النظم التعليمية والمناهج التربوية الغربية، القائمة على الفلسفات الوضعية المادية، التي تفصل بين العلوم والمعارف الكونية، والشرعية الدينية، وبين ما هو دنيوي وديني، وروحاني ومادي، مما أثر بشكل مباشر في تشكيل نظرة الإنسان المسلم إلى نفسه وإلى الكون والحياة، واصطبغ كل ذلك في ذهنه بالانشطار والثنائية، بينما نظام المعرفة في الإسلام متناسق متكامل، لا يفرق بين المعارف والعلوم، سواء كانت كونية أو إنسانية أو دينية، ومن ثم فإن الإسلام لا يفرق في حياة المسلم بين حياته الروحية والخلقية والعقلية والوجدانية، ولا ما بين هو ديني ودنيوي.
و- تعزيز مكانة العلماء:
إن استبعاد العلماء والفقهاء عن مجتمعهم، وتهميش سلطتهم بحجة أن ثقافتهم وتخصصاتهم لا تساعدهم على إبداء الرأي وتقديم المشورة والنصح، واقتراح الحلول لكثير من المشكلات، لا يتفق مع نصوص الكتاب والسنة، ويكفي التذكير بقول الله تعالى :
{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولائك هم المفلحون}(آل عمران : 104)، مما يدل على أن هناك طائفة من ذوي العلم والرأي، مامورون بذلك، قال الرسول >فيما رواه سعيد بن المسيب عن علي ] أنه قال : قلت يا رسول الله : الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه منك سنة؟ قال : اجمعوا له العالمين، أو العابدين، من المومنين، فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد<.
ولتجاوز هذا الواقع الذي لن يفضي إلى خير الأمة، والذي لا يعكس التصور الإسلامي للحكم، والذي لم يخرج الأمة الإسلامية مما هي فيه، نرى أنه أضحى من الضروري تدعيم مكانة العلماء بالاستماع إليهم والأخذ بمشورتهم في مجال تخصصاتهم، وجعل كلمتهم نافذة ومسموعة ورأيهم محترما باعتبار أن ما يمتلكونه من نفوذ وثقل في قلوب الناس، من أكثر الوسائل وأشدها تأثيرا في تغيير المنكرات والقضاء على الانحراف وفساد الأوضاع وانعدام الشعور بالمسؤولية، وذلك بالطرق الحكيمة المدروسة القائمة على الدين وشريعة الله تعالى، إذ لم تفد في التخفيف من كل ذلك وغيره توجيهات التيارات السياسية وإرشاد المسؤولين الإداريين، كما أن تطبيق الشريعة الإسلامية من لدن المسلمين في مفهومها الكلي، بعد الابتعاد الملاحظ عن بعض فروضها، سيكون للعلماء فيه الدور الإيجابي الفعال.
واسترجاع المكانة والاحترام، والأخذ بمبدإ مشاورة العلماء والفقهاء، والمثقفين الإسلاميين في أمة الإسلام، لا يتم إلا بتوفر هؤلاء على جملة من الخصائص والمميزات العلمية والصفات الحميدة التي تجلهم في عيون القيادات والشعوب، من مزاوجة في الثقافة والمعرفة بين العلوم الشرعية، وبعض العلوم الحديثة والكونية الدنيوية، في مجال التخصصات المختلفة والكثيرة، أي ما يعرف اليوم بالعلوم العصرية كعلم الاجتماع والنفس والتربية وغيرها مما يساعد على فهم طبائع الناس ونفسياتهم وما تمور به الساحة الإسلامية من أحداث ومستجدات لمناقشتها والبحث عن حلول لها في ضوء الشريعة الإسلامية ومتغيرات العصر وتطوره، دونما تفريط أو انفراط، فضلا عن الاستمرار في التحلي بحميد الصفات ومكارم الأخلاق، والاتصال بالناس والمجتمعات والتنبيه إلى الظلم وما قد يصيب الناس من عسف وقهر، وبذل المزيد من الجهد في الدفاع عن الحقوق والواجبات لإقامة مجتمع الفضل، والخير، وإحياء السنة النبوية الصحيحة والتعاليم والقيم الدينية، حتى تباشر في الأقوال والسلوك والأفعال، والحث على الترغيب فيها، والعمل على إماتة البدع ومحاربة الضلالات، وما ألفه الناس من عادات استمرأوها طويلا حتى حسبوها من العبادات الروحية التي لا تتصادم مع الشريعة وتعاليمها ومثلها، سبيلهم في ذلك كله الكلمة الطيبة الهادفة، والدعوة إلى الله تعالى بالحسنى عن طريق التأليف والنشر والمحاضرات واللقاءات العلمية والحوار الهادئ، مستلهمين في ذلك قول الله تعالى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}.
إن العلماء متى توافرت فيهم المميزات والخصائص المطلوبة وفي الظروف العصبية التي تجتازها الأمةالإسلامية، الطائفة الأكثر اقتدارا ومعرفة بشؤون الشرع لمدارسة القضايا والمشاريع التصحيحية المطروحة على الساحة الإسلامية -فيما يتعلق بالقضايا الشرعية، والتي للإسلام فيها أحكام-وكذا تجديد الدين والاجتهاد في فهم أحكامه ومقاصده، بما يحقق مصالح الناس في المعاش والمعاد، ولكن في بعد عن التأثيرات السياسية والانحياز المذهبي والطموح الشخصي.
إنها الطائفة المهيأة لتنفي عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين حتى لا يتخذ الناس رؤوسا جهالا فيفتون بغير علم، إنها مسؤولية الفقهاء ورسالة العلماء يبصرون الأمة الإسلامية بأمور دينها، يقول الرسول : >لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون<(رواه البخاري).
تحمل العنت:
والقيام بأعباء الرسالة والاستمرار في تحمل مصباح التنوير والإرشاد في مجتمع ضمرت فيه إشراقة العقيدة، وفقدت فيه العبادات مقاصدها، والشريعة هيمنتها على حياة الناس وتأثيراتها على الأفراد والجماعات، وخفتت أو غابت في الأمة نداءات التصحيح، سيعرض دعاة الإصلاح وحاملي مشعل التنوير من العلماء والفقهاء والدعاة من أفراد الطائفة المنصورة، لأنواع من المقاومة وأنماط من الظلم والقهر، وسيتلمظون المرارة في سبيل أداء الرسالة التي كلفت بها “الطائفة المنصورة” الجماعة القائمة بأمر الله العاملة بكتابه والمهتدية بسنة رسوله.
لكن أمانة التصحيح وإشاعة التنوير لإنقاذ هذه الأمة، لا يترك للعلماء والفقهاء -أمام ما آلت إليه الأوضاع من فساد وانحراف، وتمزق وضياع- خيار التقاعس والانزواء، واستمرار الصمت إزاء ضغوط التحجيم والإبعاد، ذلك أن الخيار الذي يفرض نفسه لتبرئة الذمة هو الإقدام والمشاركة الإيجابية، وعدم ترك الجماعة والأمة في غفلة من أمرها يقودها الجهلة بالدين والطغمة الباغية من العصرانيين العلمانيين.
نعم قد تضطر الطائفة المنصورة من العلماء والفقهاء إلى تقبل نوع من التنازلات مرحليا، -مهما انتهجت المرونة والحسنى في التبليغ والتصحيح- بما لا يمس بالجوهر والأصول، والمبادئ والمرتكزات، إذ الواجب أن يعمل العلماء ودعاة التصحيح، حسب الوسع والاستطاعة.
في مركز القيادة وصنع القرار:
• لا ثيوقراطية ولا علمانية:
وهذا يقتضي تحمل المسؤوليات وتسنم مراكز القرارات للمشاركة في صياغتها من منظور إسلامي، وتنفيذها وفق مقتضيات الشريعة، بل الواجب على العلماء والفقهاء أن يشاركوا بفعالية واقتدار في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانلتغيبهم عنها خطر كبير على هذه الأمة. إن المسؤولية في مثل هذه الظروف، تصبح فريضة يجب تحملها : تبليغا للرسالة، وواجبا -لاحق- يمكن التنازل عنه، تحقيقا لأمانة التصحيح والتنوير.
والسعي إلى تحمل المسؤولية والحرص عليها لتحقيق التحول المنشود وإقامة شرع الله في مجتمعاتنا، لا يعني السعي إلى إقامة سلطة سياسية ودينية يهيمن عليها العلماء ورجال الثقافة الشرعية، ذلك أنه لا توجد في شريعتنا مثل هذه السلطة الكهنوتية -التيوقراطية- ولكن استبعاد رجال الثقافة الشرعية من علماء وفقهاء من دنيا الحكم والسياسية والتأثير في الحياة العامة، يعتبر أمرا دخيلا على حياتنا وشريعتنا، وعلمانية sécularism ترى أن الدين لا دخل له في السياسة والحكم وشؤون الدولة والأخلاق والتربية… وأن أنصار هذه التعاليم والقيم يجب إقصاؤهم عن ذلك كله، وأنه لا يمكن إقامة دولة أو نظام حكم إسلامي تكون للتصورات والقيم الإسلامية والتعاليم والتوجيهات الربانية، أثر فيه.
إن المقصد الشرعي من وجود العلماء وأنصار الثقافة الشرعية في مراكز القيادة وصنع القرار لا يعني هيمنة أو استئثارا بالحكم أو السلطة، ولكن الحرص على تطبيق الشريعة الإسلامية بمعناها المتكامل الديني الدنيوي، والعمل على إرساء نظام للحكم يقوم على مبادئ الإسلام وتعاليمه، تنطبع فيه المؤسسات والمجالس النافذة المسيرة للشأن العام، بأنساقه الفكرية والأخلاقية وتوجيهاته السماوية -عكس ما هو قائم الآن في الكثير منها، وفيما يصدر أحيانا من أدبيات وتوصيات ووثائق، عن الهيئات والمنظمات المهيمنة على الحكم الموجهة للسياسة والمجالس في عدد من البلاد الإسلامية- التي تريد أن تفصل السياسة عن الشريعة.
تبقى الإشارة أخيرا إلى أن الحرص على تحمل المسؤولية، لا يتنافى مع نهي السنة النبوية عن طلبها فيما روى عن رسول الله جوابا لرجلين طلبا الإمارة : إنا لا نولي هذا من سأله أو حرص عليه (صحيح البخاري)، “ذلك أن من قام بالأمر عند خشية الضياع يكون كمن أعطي بغير سؤال لفقد الحرص غالبا عمن هذا شأنه، وقد يغتفر الحرص في حق من تعين عليه لكونه يصير واجبا”(2).
——–
(1) – هذا على عكس ما هو قائم في أنظمة الحكم عند الغرب والأمريكان إذ على الرغم من اقتدار الحكام عندهم على الرأي السديد، فإنهم يستشيرون قيادتهم الفكرية والثقافية، ويستمعون إلى آرائهم ونصائحهم، ويأخذون توجيهاتهم مأخذ الجد، ونحن نذكر كيف اقتبل السياسيون الأمريكيون نظرية “صراع الحضارات” لأستاذ العلومالسياسية “صمويل هانتجون” الذي أعلن بداية الصراع بين الغرب النصراني وحضارة الغرب، وبين الشرق المسلم وحضارته الإسلامية.
(2) – ابن حجر – فتح الباري ج 13 ص 126