رُزئت الساحة الدعوية بموت الواعظة الفقيهة الربانية الأستاذة السيدة ثريا الحمامصي… ولا يسعنا أمام هذا اليقين إلا أن نردد ما أمرنا به في مثل هذا المُلِم الفادح : إنا لله وإنا إليه راجعون.
عرفتُ الأستاذة الفاضلة منذ نحو من ثلاثين سنة طالبة بكلية الآداب مع ثلة من الطالبات الصالحات المتميزات بحسن الخلق وجميل الحياء وعفة اللسان والحرص على طلب العلم والبعد عما يشين والإقبال على الجد والاعتماد على النفس، وكانت رفقتها الصغيرة محدودة العدد عريقة النسب كريمة الحسب طيبة المعشر، وما تزال العلاقة الطيبة فيما بين هذه الثلة القليلة حية متواصلة إلى اليوم…
وغابت عني أخبار الأستاذة الفاضلة حتى بُشِرتُ بأنها تلقي دروسا في الفقه والمواعظ، وقد اكتسبت في برهة وجيزة سمعة طيبة في الأوساط النسوية وإقبالا منهن على دروسها المفيدة ووعظها المؤثر، وكانت تركز على فقه العبادات وفقه القلوب وإصلاح الأسرة وتمتين الروابط بين النساء المسلمات، وتكوينهن على طهارة القلب واللسان، واستقامة السلوك، وتحث على حسن الأدب وعفة الشرف ولزوم طلب العلم والمعرفة واستغلال الوقت في ذكر الله وتربية النشء ونشر الفضيلة، وعلى التوحيد الخالص وحب الله ورسوله وصحابته الكرام، وحب المسلمين جميعا، وعلى خشية الله والحياء منه، وعلى الاقتداء بأمهات المؤمنين وصالحات المسلمين، وعلى السخاء على الفقراء دون منة والتسامح مع المسيئين والدعاء للعصاة من أمة سيدنا محمد … وكان شغلها الشاغل الحفاظ على سلامة الأسرة ومتانة العلاقة بين الزوج وزوجها على أساس الود والرحمة والحب الصادق النابع من حب الله ورسوله، وكل ذلك بأسلوب يتسم بالبساطة والوضوح والصواب والقصد الجميل، مع الحكمة وحسن الحوار والبعد عن المراء والجدل السقيم، وعندما تواجه مأزقا متنطعا وعنادا ملغوما وسؤالا مغرضا تتخلص من الموقف بأدب وحشمة وتلوذ بصمت أبلغ من الرد…
ومن مميزات هذه الأستاذة النادرة، أنها لا تفرق في دروسها ومواعظها بين الأوساط الغنية والفقيرة، بل كانت دروسها في الأحياء الفقيرة أكثر انتشارا، لأنها كانت تتقرب إلى الله بالتزام الوقت معهن ولو كانت على فراش المرض، ولعلها كانت حريصة أن تلتحق بالرفيق الأعلى وهي في حلقة الدرس مع هؤلاء النسوة الفقيرات …يحكي زوجها الفاضل أنها قبل يوم من وفاتها أصرت أن تفي بوعدها فتذهب لإعطاء درسها في حي فقير، التزمت به منذ حلولها بالدار البيضاء، لولا أنه توسل إليها ألا تغادر فراشها لخطورة حالتها المرضية، واضطر أن يقسم عليها أن تلتزم تعليمات طبيبها إلى أن يفرج الله، فاستجابت له على مضض وعيناها تدمعان لأنها كما قالت : “لا أحب أن تشعر النساء الفقيرات بأنني أقصر في حقهن!!”
وقد أكرمها الله، رغم ما كانت تعانيه من مرض مزمن عضال للقلب، فقد استطاعت أن تؤلف كتابا حسنا في فقه العبادات للنساء وكانت، رحمها الله رحمة واسعة، كثيرة التواضع كثيرة السؤال في العلم، فقد عرضت كتابها على بعض الشيوخ الأجلة قبل طبعه وبعد طبعه وهو الآن في مرحلة الطبعة الثالثة والحمد لله.
إن الأستاذة ثريا الحمامصي كانت تعيش في أسرة كريمة، كل أفرادها آباء وإخوانا وأصهارا وأبناء من طينة الخير ومعدن الفضل ولا نزكي على الله أحدا. أما محبة النساء لهذه المرأة الربانية فقد شاهدناه في جنازتها التي كانت أعداد النساء كثيرة في الصلاة عليها، رغم أن خبر موتها لم يشع في فاس، وإلا لكانت أعظم جنازة في تاريخ هذه البلدة من حيث حضور العنصر النسوي.
إن غياب الأستاذة الفاضلة ترك ثغرة في ميدان الدعوة يصعب سدها، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرم نساءنا بأمثالهاممن جمع العلم والخلق والحكمة والورع والزهد ومحبة الفقراء والتسامح، مما أهلها لتكون قدوة صالحة. رحمها الله رحمة واسعة وجعلها في مقعد صدق مع صالحات أمة سيدنا محمد .