أسباب اختلاف الجيل الثاني
وقد زاد اختلاف الجيل الثاني عن سابقه بفعل عوامل ثلاثة مهمة: الأول هو خبرة الاحتكاك بالعالم الخارجي، وما يضمه من قوى إسلامية وغير إسلامية، وهو ما لم يتوفر للجيل الأول بحكم ظروفه الخاصة والسياق التاريخي الذي نشأ فيه، وبخاصة التعرف على كل من التجارب الإسلامية في إيران وتركيا والجزائر والسعي للاستفادة مصريًّا من نجاحاتها وعثراتها.
وتمثل العامل الثاني المهم في تعرض الجيل الثاني لمؤثرات فكرية جديدة أتته من مصادر ثلاثة رئيسية، وجدت طريقها إليه بعد رحيل الغالبية الساحقة من مفكري الجيل الأول التقليديين من الإخوان. وقد تمثل المصدر الأول في الكُتّاب والمفكرين المستقلين الذين تحولوا إلى الأفكار الإسلامية بعد سنوات طويلة قضوها في تيارات فكرية وسياسية أخرى، والذين زاد ارتباط الجيل الثاني بما يطرحونه من رؤى أكثر عصرية للبرنامج الإسلامي، مثل المستشار طارق البشري، والأستاذ فهمي هويدي، والمرحوم عادل حسين، والدكتورين: عبد الوهاب المسيري، ومحمد عمارة، والمرحومين حامد ربيع وجمال حمدان.
وتمثل المصدر الثاني للمؤثرات الفكرية الجديدة في بعض المفكرين والكتاب من أصحاب التوجه الإسلامي الأصيل غير المرتبطين تنظيمياً بالجماعة وذوي الخبرة الواسعة دولياً أو في علاقتهم بالدولة مثل الدكتورين كمال أبو المجد ومحمد سليم العوا.
وتمثل المصدر الثالث لتلك المؤثرات الجديدة في بعض مفكري الإخوان التقليديين الذين سارعوا بالارتباط بالعصر وقضاياه، وأخضعوا رؤاهم لتغيراته، ويعد أبرزهم الشيخ يوسف القرضاوي صاحب التأثير الطاغي على ذلك الجيل الثاني.
أما العامل الثالث المهم في تكوين الجيل الثاني، واختلافه عن سابقه؛ فقد تمثل في اتساع دائرة النشاط الإعلامي لأبنائه وقياداته، واضطرارهم للتعامل شبه المنتظم مع وسائل الإعلام العامة والموجهة لقطاعات واسعة من الجماهير العربية والإسلامية؛ الأمر الذي أثر كثيراً في شكل ومضمون خطابهم، وبالتالي أفكارهم، وهو ما لم يعرفه الجيل الأول الذي اعتاد على التوجه من خلال وسائله الإعلامية الخاصة ذات الطبيعة الإسلامية وليس الوسائل العامة.
السياق الخارجي :
العلاقة مع الدولة
أحاطت بالتطورات الداخلية السابقة في الإخوان المسلمين ومرحلة “التأسيس الثاني” علاقة مضطربة مع الدولة المصرية، بدت آخر مراحلها تلك التالية لأحداث سبتمبر، والتي شهد كل شهرين منها تقريباً إلقاء القبض على أعداد كبيرة من أعضاء الجماعة، وإحالة معظمهم إلى محاكم عسكرية، تصدر أحكاماً على غالبيتهم تصل إلى السجن خمس سنوات. وفي كل تلك المرات وُجهت إلى أعضاء وقياديي الجماعة المحظورة قانونًا نفس الاتهامات تقريباً (أي تشكيل تنظيم سري مناهض لنظام الحكم، وحيازة وإحراز منشورات تحض على قلب هذا النظام، والإعداد لمظاهرات من شأنها تكدير السلم العام). وإذا كانت معدلات حملات القبض على الإخوان المسلمين قد زادت بصورة واضحة خلال العام الذي تلا أحداث سبتمبر؛ فهي ليست حدثًا جديدًا.. بل هي تعبر عن إستراتيجية ثابتة للحكومة المصرية تجاه الجماعة منذ نهاية عام 1994. وقد سبق للحكومة قبل تبنيها تلك الإستراتيجية التي يمكن تسميتها “إستراتيجية الإجهاض المبكر” أن تبنت إستراتيجيات أخرى مختلفة تجاه الإخوان منذ عام 1981، وهو ما يبدو بحاجة إلى مزيد من التحليل لمعرفة ملامحه ودوافعه.
الدولة والإخوان.. من التسامح إلى الإجهاض
فقد مرت علاقة الجماعة بالدولة المصرية في عهد الرئيس مبارك منذ عام 1981 بثلاث مراحل: امتدت المرحلة الأولى -التي يمكن وصفها بمرحلة “التجاهل والتسامح”- منذ اغتيال الرئيس السادات وحتى عام 1988 تقريباً، وكان الهدف الرئيسي فيها للدولة هو تفكيك حالة التوتر التي واكبت وأعقبت الاغتيال، على أن يتضمن ذلك خلق شرعية جديدة للحكم تقوم في جوهرها على فكرة المصالحة الوطنية، والتفاعل مع القوى السياسية المصرية الرئيسية. وقد أدى ذلك إلى تمتع الإخوان المسلمين بقدر واسع من حرية الحركة والتعبير دون أن يصل ذلك إلى الاعتراف الرسمي بشرعية وجودهم. وتلك المرحلة هي التي أتاحت للإخوان دعم وجودهم السياسي والشعبي في مصر ومد نفوذهم إلى مؤسسات وقطاعات سياسية ومهنية لم يصلوا إليها من قبل؛ مثل مجلس الشعب، والنقابات المهنية، واتحادات الطلاب بالجامعات، ونوادي هيئات التدريس بها.
وبانتهاء انتخابات مجلس الشعب لعام 1987 التي وضحت للدولة فيها القوة الكبيرة الكامنة للإخوان في ظل تحالفهم مع حزبي “العمل” و”الأحرار” تحت شعار “الإسلام هو الحل”، بدأت المرحلة الثانية في علاقتهم مع الدولة، والتي يمكن تسميتها مرحلة “التخوف والاحتكاك”، وهي التي بدأت فيها الدولة محاولة إيقاف زحف الإخوان بداخل النقابات المهنية عن طرق تجميد بعضها، وإثارة المشكلات بداخل بعضها الآخر، والتي بدأ الإخوان يتصرفون خلالها باعتبارهم قوة سياسية شبه شرعية في البلاد.
وفي عام 1992 استطاع الإخوان السيطرة على مجلس نقابة المحامين الذي ظل حكراً طيلة تاريخها تقريباً على التيارين الليبرالي والحكومي؛ مما زاد من تخوف الدولة منهم. وفي منتصف نفس العام اندلعت الموجة الأكثر شراسة للعنف الإسلامي التي قام بها كل من “الجماعة الإسلامية” و”جماعة الجهاد”، والتي أخذت الدولة على الإخوان أثناءها ما أسمته عدم إدانتهم لها، والاكتفاء ببيانات عامة فضفاضة. وهكذا انتقلت علاقة الإخوان بالدولة منذ بداية عام 1993 وحتى الوقت الحالي إلى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة “التدهور والصدام”. ويمكن إرجاع قرار الدولة الدخول في مواجهة واسعة مع الجماعة إلى تزامن انتشارهم في مختلف قطاعات المجتمع السياسي والنقابي مع موجة العنف الإسلامي الواسعة الحادة؛ الأمر الذي رأت فيه الدولة وجهين لظاهرة واحدة هي الصحوة الإسلامية التي لم ترَ بداخلها فروقاً بين الإخوان وجماعات العنف الإسلامي. كذلك فقد رأت الدولة في الجماعة المحظورة فوق ذلك خطرًا سياسيًّا زاحفًا يهدد سيطرتها على مقاليد الحكم في البلاد، وبخاصة بعد النجاحات التي حققتها في عديد من الانتخابات العامة والنقابية؛ وهو ما اعتبرته نواقيس خطر لا بد من الالتفات إليها والتعامل مع الإخوان على أساسها؛ باعتبارهم منافسًا سياسيًّا للدولة يمكنه إذا توافرت الظروف الملائمة أن يهدد تلك السيطرة.
أهداف الإجهاض المبكر
من هنا فإن تلك التخوفات السياسية والأمنية من الجماعة دفعت الدولة إلى تبني “إستراتيجية الإجهاض المبكر” التي سبقت الإشارة إليها في مواجهتها منذ نهاية عام 1994. وتتضمن تلك الإستراتيجية توجيه ضربات متتالية متفرقة للجماعة بإلقاء القبض على مجموعات منها، وإحالتهم إلى المحاكمة بحيث تصدر على غالبيتهم أحكام بالسجن من سنة إلى خمس سنوات. وهذه الإستراتيجية التي تمت صياغتها قبل عام من انتخابات مجلس الشعب التي جرت في نوفمبر 1995 كانت تهدف -ولا تزال- إلى تحقيق هدفين رئيسيين: الأول هو إنهاك الجماعة المحظورة بجرها إلى ساحة القضاء، والحكم على قيادييها وأعضائها بسنوات سجن متفاوتة المدة، والاستفادة في ذلك بالوضع القانوني للجماعة؛ باعتبار أنها لا تملك تصريحًا قانونيًّا بالتواجد والعمل؛ وهو ما يضع أي نشاط لأعضائها تحت طائلة القانون.
ويترتب الهدف الثاني على الأول، وهو حرمان الجماعة من القدرة على التحرك بكامل قوتها، خاصة في الحملات السياسية والانتخابية الرئيسية مثل مجلس الشعب والنقابات المهنية، والمشاركة في المناسبات السياسية العامة المصرية والعربية والإسلامية؛ نظرًا لانشغالها في الاضطرابات الداخلية التي تخلفها وراءها حملات القبض والمحاكمة، وأيضاً لفقدانها عددًا مهمًّا من قياداتها الرئيسية في تلك الحملات؛ مما يحرمها من القدرة على الاستفادة بهم في الحملات الانتخابية والنشاطات السياسية، سواء كمرشحين أو كفاعلين قياديين. وقد ركزت الحملات الحكومية بصفة خاصة على الجيل الثاني من الإخوان، الذي أنجز لها انتصاراتها السياسية والانتخابية سواء في البرلمان أو النقابات المهنية وصاحب “التأسيس الثاني” لها، في حين لم تقترب -إلا نادرًا- من الجيل الأكبر صاحب “التأسيس الأول” لها الذي تراجعت أهميته في نشاطها الواقعي لصالح الجيل الثاني .
وبالإضافة لهذين الهدفين المباشرين لتلك الإستراتيجية، فهي أيضاً تتضمن هدفًا آخر أكثر عمومية ومحورية، وهو توجيه رسالة سياسية واضحة سواء للجماعة أو للقوى السياسية الأخرى، أو للأطراف الخارجية المهتمة بأوضاع “الإسلام السياسي” في مصر؛ مضمونها هو أن الدولة مصممة على موقفها من عدم السماح في أي وقت وفي ظل أي ظروف بإعطاء الجماعة المحظورة وضعًا قانونيًّا شرعيًّا يمكنها من التفاعل في الساحة السياسية والاجتماعية كغيرها من القوى السياسية الشرعية الأخرى. وقد زاد لجوء الدولة إلى تلك الإستراتيجية بعد نجاح الإخوان في الحصول على 17 مقعدًا في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة عام 2000، في الوقت الذي لم تحصل فيه كل الأحزاب الشرعية إلا على 16 مقعدًا. ثم أتت بعد كل ذلك أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما بعدها؛ وهو الأمر الذي قرأت فيه الدولة المصرية إمكانية تكثيف حملاتها ضد الجماعة في مصر دون أن تتعرض لضغوط خارجية رسمية أو من جمعيات حقوقية وقانونية بسبب تلك الحملات.
وقد أدى هذان المتغيران إلى زيادة معدلات تلك الحملات وأعداد المقبوض عليهم، وكذلك الأحكام الصادرة في حقهم بصورة أكبر بكثير مما شهدته السنوات السابقة منذ نهاية عام 1994 الذي بدأت فيه الحكومة تطبيق “إستراتيجية الإجهاض المبكر”.
اليوم وغدًا
تقاطعت التطورات الداخلية في جماعة الإخوان المسلمين خلال الأعوام الثلاثين السابقة مع السياق الخارجي المحيط بها في نفس الفترة؛ لكي ينتهي المشهد إلى ما هو عليه الآن بعد رحيل المرشد الخامس الأستاذ مصطفى مشهور. فالضغط الخارجي المحلي والدولي يتزايد على الجماعة في نفس الوقت الذي يبدو الخُلف بين “الشرعية التاريخية” التي يمثلها الجيل الأول و”الشرعية الواقعية” التي يمثلها الجيل الثاني آخذ أيضاً في التزايد. فأصحاب الشرعية الثانية وأصحاب “التأسيس الثاني” للجماعة يطمحون إلى إضفاء شرعية تنظيمية ولائحية على شرعيتهم الواقعية بالحصول على مزيد من المواقع الرئيسية في مستويات وهياكل الجماعة القيادية، بينما يتمسك أصحاب “التأسيس الأول” بما يرون أن شرعيتهم التاريخية تعطيه لهم من سيطرة على تلك المواقع والمستويات والهياكل. وبينما يخشى الجيل الأول على الجماعة من قفزات الجيل الثاني غير المأمونة -حسب رأيه- ويطرح “الاستقرار” هدفًا رئيسيًّا له في الوقت الحالي الحرج؛ فإن الجيل الثاني يرى ضرورة التجديد في فكر الجماعة وحركتها، والدفع بها نحو الحصول على الشرعية القانونية التي يرى أنها المخرج الوحيد لتفاعلها الصحي مع الدولة والمجتمع في مصر، واستمرارها حية مؤثرة فيهما.
ولا شك بذلك أن الحركة الإسلامية السياسية الكبرى في مصر والعالمين العربي والإسلامي تمر بمرحلة دقيقة في تاريخها الطويل الذي يشارف على ثلاثة أرباع القرن سوف تسفر عن ولادة جديدة لها. ولا يعني ذلك أن تغيرات فجائية سوف تشهدها الجماعة خلال الشهور القادمة؛ حيث من المتوقع أن تظل القيادة العليا للجماعة في أيدي الجيل الأول صاحب “الشرعية التاريخية” مع إفساح مساحات أوسع تدريجيًّا للجيل الثاني صاحب “الشرعية الواقعية” لكي يضفي عليها مزيداً من الشرعية التنظيمية واللائحية. إلا أن الأكثر توقعًا هو أن تعرف الجماعة خلال السنوات القليلة القادمة بعضًا من التوترات الداخلية التي قد تسفر عن خروج بعض من أبناء الجيل الثاني منها لصياغة مشروعات إسلامية أصغر بكثير من الجماعة الأم على غرار مجموعة حزب الوسط، بينما سيتقدم الباقون منهم تدريجياً بداخل الجماعة -وهم الغالبية الكبرى- نحو تحويل شرعيتهم الواقعية إلى شرعية تنظيمية ولائحية تكرس مرحلة “التأسيس الثاني” الذي أقاموه، بل وأيضاً صياغة شرعيتهم التاريخية الخاصة إذا ما نجحوا في الحصول على الشرعية القانونية للجماعة التي لم تتمتع بها حتى الآن إلا لفترة لا تزيد عن ثلث عمرها الطويل
ذ. ضـيــاء رشــوان