تتحكم في وظيفة التغيير الاجتماعي جملة عناصر، في طليعتها امتلاك القائمين عليها أفرادا أو هيآت لمنهج النظر أو التحليل، إذ لا يمكن أن نتصور نجاح نشاط دعوي تنظيمي معين، إلا إذا كان مؤطرا بمنهجية واضحة، محكمة ومستقلة…
كما أن التقويم الحقيقي والإيجابي لنشاط أي اتجاه حركي، هو الذي ينطلق أساسا من نقد المنهج الحركي للاتجاه ذاته، لأن نشاط أي اتجاه، سياسيا كان أو اجتماعيا أو ثقافيا.. هو في حقيقته ثمرة ومحصلة لرؤية خاصة وتخطيط وتنزيل كذلك، وهذه الخطوات، في مجموعها هي قوام المنهج وجوهره.
وهكذا، فإن أهمية عنصر المنهج وواقعه لدى بعض الاتجاهات الإسلامية المعاصرة، خاصة تلك التي تنهل من المرجعية الإسلامية، شكلا الدافع الأساسي لإثارة هذا الموضوع، وذلك في سبيل رسم معالم منهج حركي إسلامي في مستوى الاستجابة للتحديدات الحاضرة والمستقبلية.
وقد ارتكز مسلكنا في صياغة وبناء هذا الموضوع على ما أنجز من دراسات شرعية حول قضية المنهج بالنظر إلى طبيعة المجال الذي نتحدث فيه وكذا لضرورة الاستناد في كل عمل أو تخطيط أو تصور.. إلى المحيط الثقافي والتاريخي.. الذي نتحرك في أحشائه وتحت ظلاله.
بقلم: ذ. عبد الله بوسعيد
المنهج وحقيقته
يعتبر المنهج ركنا أساسيا من أركان البناء العلمي والحضاري..، فبدونه لا يوجد سبيل يوصل إلى الأهداف، مهما بدل من جهد وقدم من عطاء، وأنه بمقدار التفقه في المنهج والرشد فيه يرقى مستوى الانطلاق كما وكيفا، في أي مجال من المجالات التي تهم حياة الجنس البشري.
والمنهج في عمومه “خطة معقولة لمعالجة المشكلة و حلها عن طريق استخدام المبادئ المبنية على الموضوعية والإدراك السليم “وهو أيضا” فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار الجديدة إما من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين أو من أجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين” ومن خلال هذين الحدين نخلص إلى أن أهمية المنهج يمكن أن تتحدد في الأمور الآتية:
أولا: تحديد المشكلة ودراستها.
ثانيا: المعالجة السليمة والموضوعية للمشاكل والمشاغل الحضارية.
ثالثا: التنظيم الصحيح لما يختزنه الفرد أو المجتمع من أفكار وتصورات.
ولئن اتضحت أهمية اعتبار عنصر المنهج وحقيقته فإن أهمية اعتبار عنصر الخصوصية فيه لا تقل عنه أهمية، فكيف ذلك؟
المنهج والخصوصية
عرف تاريخ الفكر البشري، ولا يزال، عدة مناهج عمل وطرائق تفكير، وهذا التعدد والسيرورة في التجديد، يرجع إلى جملة عوامل:
منها ما يرتبط باختلاف الحقول المعرفية.
ومنها ما يرتبط بالرغبة في الإحاطة الشاملة والموضوعية بموضوع البحث.
ومنها ما يرتبط باختلاف وتنوع القواعد الفكرية والعقدية التي تشكل هوية الباحثين والدارسين.
وأنطلق منهذا العامل الثالث، لتفصيل القول، بضرورة الاهتداء بالمنهج المراعي للخصوصية المحلية والانتماء التاريخي والعقدي… وذلك لاجتناب الإسقاطات الايديولوجية وتشويه الحقائق التاريخية والتحيز إلى واحد من الظواهر الاجتماعية الغريبة أو الشاذة أو المنحرفة.. إذ المنهج ليس فقط مجموعة خطوات وقوانين وتقنيات في البحث أو التحليل بل إنه أيضا مرتبط بالنموذج والواقع الذي تشكل في أحشائه، وعلى سبيل المثال لا يمكن أخذ قوانين المنهج الهيجيلي دون الهيجيلية ككل أو أخذ المنهج الجدلي دون الماركسية ككل، أو أخذ المنهج الوضعي الأمريكي دون النموذج الأمريكي نفسه، “لأن القواعد المجردة لأي منهج لا تعمل خارج حياته الحية الفاعلة في نموذجه المجتمعي، وفي موضوعاته التي جاءت نتائج تطبيقاته فمهما حاول المرء أن يقوم بمثل هذا الفصل فسوف يبقى في الواقع ضمن حدود النماذج والمقولات التي هي جزء لا يتجزأ منالمنهج”.
وما يمكن قوله بالنسبة للمناهج، كنماذج حضارية يصدق عليها أيضا، باعتبارها أدوات ووسائل لتفسير النصوص التي تقوم عليها معرفة الثقافات وعملية الاستثمار من أجل صياغة وبناء المشاريع التنموية… إذ المنهج كأداة لتفسير النصوص، كما جاء عن الأستاذ ادوارد سعيد نشاط”.. لا يحدث في مختبر محصن بالأمان العيادي، كما أنه لا يدعي النتائج الموضوعية بل هو نشاط اجتماعي لا يمكن فصم ارتباطه بالوضع الذي نشأ فيه أولا، ولا يمكن لأي تفسير أن يهمل هذا الوضع”(1).فمنهج التفسير حسب ادوارد سعيد، وأنه كذلك، صناعة لأنه يعتمد “النشاط الإداري القاصد الذي يقوم به العقل الإنساني مقوليا ومشكلا ومكونا الأشياء التي يهتم بها بعناية ودراسة ويتم مثل هذا النشاط بالضرورة في زمان محدد ومكان محدد وينهمك في أدائه شخص محدد المكان، ذو خلفية خاصة، في وضع خاص، تحقيقا لعدد من الغايات الخاصة المحددة”(2).
المنهج وجهود العلماء المسلمين
يمكن القول، أن هذه الاعتبارات لم تغب عن وعي علماء الأمة الإسلامية، خاصة وأن المستهدف الرئيسي من هذه العملية هو النص الشرعي المقدس، باعتباره منطلق أي بناء عمراني إسلامي، كما أن البناء ذاته لا يتحقق إلا عبر فهم النص واستخلاص دلالاته القريبة والبعيدة، وأن هذه العملية التوليدية لا تخلو من مخاطر، فقد تتحول إلى عملية ذاتية يحكمها الهوى والرغبة في أن يؤدي النص الشرعي بعض الفهوم التي تخدم بعض الرغبات السياسية أو الإيديولوجية… الغير مسؤولة..
وهكذا ، فقد اجتهد علماء المسلمين في صياغة مجموعة من الضوابط والمبادئ الأصولية استنادا إلى النهج التشريعي النبوي، ومنطق اللغة العربية على أساس أن النص الشرعي، قد نزل بلسان عربي مبين، وقد جمعوها في إطار علم أصول الفقه، وهذا التوجه، لمزيد بيان وتأكيد، كانت تحكمه جملة أهداف، في طليعتها، كما أسلفنا “حماية النص وحفظه حتى لا يصير مجالا للتزيد والإقحام أو أن يصير مطية للاسقاطات والعسف الذي لابد أن يتعرض له أي نص لا تحميه ضوابط قارة “(3).
كما كان التوجه الأصولي مدفوعا أيضا بالرغبة في توحيد الخطة التشريعية، والفعاليات الفقهية خاصة بعدما بعد العهد بفجر التشريع، إذ صار لكل فريق مذهبه الخاص، وخطته التشريعية وعن هذا الوضع يتحدق الأستاذ عبد الوهاب خلاف قائلا: “لما آلت السلطة التشريعية في القرن الثاني الهجري إلى طبقة الأئمة المجتهدين اتسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع و صار لكل فريق منهم مذهب خاص يتكون من أحكام فرعية استنبطت بخطة تشريعية خاصة”(4).
ويستخلص من كلام خلاف، أنه لم تكن للأئمة المجتهدين خطة تشريعية موحدة وجامعة، ويرجع ذلك كما يوضح إلى “اختلافهم في أمور ثلاثة:
الأول: في تقدير بعض المصادر التشريعية والثاني في النزعة التشريعية والثالث في بعض المبادئ اللغوية “(5). وقد دعا كل ذلك إلى وضع ضوابط وبحوث في الأدلة الشرعية واللغوية وفي شروط وكيفية الاستدلال بها، وأول من قام بهذه العملية كما هو معلوم، الإمام الشافعي رحمه الله، وذلك من خلال رسالته الأصولية الشهيرة “الرسالة” .
وسيأخذ المنهج الأصولي من بعد الإمام الشافعي في النمو والتطور، على يد عدة أعلام كالحسن البصري وابن حزم الأندلسي والإمام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الشاطبي وغيرهم وذلك من أجل ضبط علم أصول الفقه وجعله أكثر فاعلية من حيث مسايرة الوقائع المتجددة من جهة أولى وأكثر ضبطا لعمل الفقيه المجتهد من جهة ثانية حتى لا يخرج عن الجادة والصواب، وأخيرا من أجل أن يكون أقدر على رد الخلاف أو تقريب أطرافه وتفهم مسائله وقضاياه.
-يتبع-