وقع كثير من الخلط والتخليط بين الحضارة والدين في برنامج “الإسلام حضارة” الذي بثته القناة المغربية الأولى خلال رمضان المبارك، نتج عنهما تشويه للدين في الكثير من التحاليل التي ينقصها العمق الديني والعمق العلمي، كما ينقصها الكثير من التواضع والتورُّع وإدْراك الإنسان لقدْره مع احترام عقل الجماهير المشاهِدة للبرنامج.
فما معنى الحضارة؟؟ وما معنى الدين؟؟
الحضارة تحمل عدة معان من جملتها :
< أن تُطلق ويراد بها غَيْرُ البداوة، وإن كانت البداوة هي أيضا حضارة الإنسان البسيط.
< أن تطلق ويراد بها المراحل التي قطعها مجتمعٌ ما في ميادين التطور العلمي والسياسي والحُكْمي والعَقدي والاجتماعي إلى غير ذلك من الميادين، فيقال حضارة اليونان أو الرومان أو الصين أي ما تتميز به عن غيرها في جانب من الجوانب.
< ويمكن أن تطلق ويراد بها الفكر الذي أصبحسائداً فارضاً نفسه على كل الأفكار المنافسة له، وخصوصاً في ميدان السياسة والاقتصاد كحضارة الديمقراطية والسوق الحرة التي نحّتْ جانباً الفكر الاستبدادي والاقتصادي الموجّه..
فالحضارة إذن لا تتعدى -مهما تنوعت- أنْماطاً من التجارب البشرية طوال مسيرة التاريخ البشري انطلاقا من المفاهيم الدينية المؤثرة سلباً أو إيجاباً في ازدهار الحياة أو تدميرها.
أما الدين فهو : الخضوع المطلق للمعبود، فإن كان المعبود يستحق العبادة بحق فهو خضوع شرعي، وإن كان المعبود غير الله تعالى فهو معبود مزور، والخضوع له خضوع غير شرعي.
والخضوع الشرعي لله تعالى هو الذي يطلق عليه اسم “الإسلام” الذي يشمل الاعتقاد المبني على العلم اليقيني بالله ربّاً حاكماً مشرعاً مثيباً ومعاقبا… كما يشمل الإقرار بهذا المعتقد لساناً وقولاً وعمَلاً على مقتضى ما يفرضه المعتقد ويوجبه.
وكل أثرنتج عن التأثر بالمعتقد الإسلامي سواء في العلم أو الحكم أو الاجتماع أو الاقتصاد سُمِّي حضارة إسلامية، نظراً للصبغة الإسلامية التي تتحكم فيها وتوجّهُها بشرط أن يكون ذلك الأثر الحضاري منطلقا من المقاصد الإسلامية المشروعة، والوسائل الإسلامية المشروعة، والاجتهادات الإسلامية المشروعة، فالإسلام هو الحاكم على التاريخ، والإنسان، والفكر، والقانون، وليس العكس. وعلى هذا فالحاكم الذي قال >من نَبش قبراً دَفنّاه فيه حيّاً< والذي قال : >من قال لي اتق بعد مجلسي هذا ضربتُ عُنُقه< والذي كان يقتل أو يعزل >كل من لم يقل بخلق القرآن< هؤلاء كلهم ليسوا حجة على الإسلام، بل الإسلام حجة عليهم وعلى سوء فهمهم وسوء مسلكهم، لأن الإسلام هو الميزان الصحيح الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه من عند الله الحق المبين.
والذي وقع في بعض حلقات البرنامج أن بعض المحلِّلات كن يُخْضعن الإسلام للتاريخ حيث تكلمت إحداهن عن النساء في التاريخ العربي، وبالأخص عن الملكات العربيات، فقد تكلمت -بإعجاب- عن هذا الاكتشاف، اكتشاف المرأة العربية الملكة، ويظهر أن الرسالة التي أرادت تبليغها للمشاهد هي أن المرأة يمكن أن تكون ملكة، ووزيرة، وحاكمة، وقوّامة على المجتمع بدون أن تكون تحت أية سلطة، فهي أمّ السلطة وأبوها، وجدُّها وجدتها، وخالتها وعمتها، وعلى الرجال العفاء إن لم يسمعوا ويطيعوا، خصوصاً عندما تردِّد كثيرا الفقه الذكوري -بحنق وسخط وتسخط- جاهلة تمام الجهل أن الفقه في الإسلام ليس ذكوريا، بل هو في أعلى نسبة منه نسوي، ولكنها لُقّنتْ ذلك، فهي تتقيؤه -رغما عنها- من مخزونها المشحون بالتحامل على الإسلام ومحاولة تطويعه للفكر البشري الناقص المتهافت.
إن الإسلام لا علاقة له بالإنسان من جهة الذكورة أو الأنوثة، ولكن علاقته به من جهة العبودية أو التمرد. ثم إن المسؤولية في الإسلام لا علاقة لها -أيضا- بالذكورة أو الأنوثة إلا من جهة حسن التأهيل لها. ألا تعجب المرأة المعوجة الفكر من ثناء الله تعالى على المرأة ثناءً ما بعده من ثناء عندما خلَّد الله تعالى ميزانها الصحيح في القرآن الكريم، حيث قالت بنت الرجل الصالح لأبيها {يَا أَبَتِ اسْتَآجِرْهُ إنّ خَيْرَ من اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِين}(سورة القصص) فالقوة والأمانة هما الشرطان الرئيسان في تحمُّل المسؤولية، ولا عبرة بالذكورة والأنوثة إلا في نطاق اختيار أحسن الميادين لابراز أحسن المواهب الفطرية المبدعة.
ولم يذكر الله تعالى ملكة سبإ في القرآن العظيم لمََلَكَيّتها ولكن لما تميزت به من مواهب في فن الإدارة وحسن التسيير، ولما تميزت به من فقه الخطاب النبوي، وحُسْن الاختبار لمغزاه، وحُسْن الرَّدِّ عليه. فهي لم تُخلد بصفتها امرأة، ولكن خُلّدت بصفتها حاكمة عاقلة -غير طائشة ولا مغرورة- تفرِّق بين الحق والباطل، ولا تجد غضاضة في اتباع الحق إذا ما ظهر واضحا للعيان. بهذه الصفات وغيره خُلِّدتْ، وأجْدِر بالمرأة التي تعيش في بُرج عاجٍ من العظمة الفارغة، والفخفخة الخاوية أن تتنازل وتتواضع وتتبع الحق كما اتبعتْه ملكة سبإ عندما أسلمتْ مع سليمان لله رب العالمين.
أما الفرق الواضح الكبير بين الإسلام والحضارة فهو أن للإسلام أصولا منزهة عن الهوى والنقص والاعوجاج، أما الحضارة فمصدرها الإنسان، ولذلك كانت الحضارات مختلفة ومتعددة، أما الإسلام فهو دين الله تعالى الذي فطر عليه الإنسان، وبعث به كل الأنبياء والرسل، فهو {صِبْغة الله ومن أحْسَنُ من الله صبغة ونحن له عابدون}.