… أما الجماهير فما أظنها كانت ستقبل مع إعلان هذه المبادئ !فقد كانت ستعلم أنها قضية أخطر بكثير من مجرد الاستماع إلى الكلام المؤثر، والامتلاء العاطفي، الذي كانوا يسمونه “الروحانية” (1) والمتعة بلقاء الأحباب، والنشوة بالكثرة التي تتكاثر على الدوام.
كانت ستعلم أنه صراع مع الجاهلية يعرض الإنسان لكثير من المخاطر، التي لا ينبغي “للعاقل !” أن يعرض نفسه لها : {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} (القصص: 58).
وعندئذ كانت الحركة ستمضي بطيئة الخطى، و لكن على منهج أصح ! كانت القاعدة الصلبة ستتكون في بطء من رجال يختارون على مهل بعين فاحصة لا تختار إلا أصلح الخامات الموجودة، ثم يبذل في إعدادهم الجهد اللازم ليكونوا نواة صالحة للعمل، بالتربية الروحية، والتربية الخلقية، والتربية الفكرية، والتربية النفسية، والتربية بالعلم الشرعي الصحيح، في ظل المنهج الرباني العظيم: {كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}.
وكانت القاعدة ستتوسع، حين يأتي أوان التوسع، بعد إعداد القاعدة الصلبة، بجنود جندوا أ نفسهم للدعوة على بصيرة بحقيقة القضية ومتطلباتها، ووعي صحيح بحالة الأمة وما لحقها من الأمراض، وتقدير سليم لطبيعة العمل في كل مرحلة من مراحل الحركة، وذلك قبل التوجه لعامة الجماهير لينضموا للدعوة وينضووا تحت لوائها..
وكان “العمل السياسي” بمعنى الاشتغال بالقضايا الوطنية الاجتماعية وما شاكلها، سيتأخر بعض الوقت، ريثما يتم التمكين الصحيح للأساس الصحيح، المتمثل في العقيدة الصحيحة والتربية على مقتضياتها، في محيط الذين استجابوا للدعوة، وجندوا لها أنفسهم (بما يقابل مجتمع المدينة في جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم).
ثم كان سيحدث الصراع ! وهو أمر لا مفر من حدوثه حسب السنن الربانية التي قدرها الله في حياة البشرية ! وهو يبدأ دائما من جانب الجاهلية حين تستشعر الخطر من وجود جماعة مؤمنة في الأرض، ولو كانت قليلة العدد، ولو كانت من جانبها لا ترغب في الدخول في صراع: {إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون} (الشعراء: 54-56).
ولكن كان المتوقع أن يتأخر الصراع عن موعده الذي وقع فيه، بحيث يعطي فرصة أكبر لتربية القاعدة الصلبة، ثم تربية القاعدة الموسعة بالقدر المتاح من التربية، ثم إنه حين كان يقع على قوم كفوا أيديهم، ولم يعملوا شيئا إلا أن يقولوا “ربنا الله”، فإن هذا كان سيعجل في تنمية وعي “الجماهير” بحقيقة القضية، فلا تلتبس في ذهنهم بغيرها من القضايا التي تلبست بها بالفعل، وكان سيصعب على الطغاة تطويع الجماهير لهم من خلال القهر مرة ومن خلال وسائل الإعلام المزيفة مرة، حين تستبين سبيل المجرمين بتفصيل الآيات، على المنهج الرباني القويم، و يعرف الناس على أي أساس يقررون مواقفهم: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} (الأنعام: 55).
الذي حدث بالفعل كان على خلاف ذلك.
تأخر الإعلان عشرين سنة كاملة عن موعده، وفي تلك السنوات كانت جماهير كثيرة قد تدفقت على الحركة غير مستشعرة بما يحيطها من أخطار ! واختلطت الدعوة، وهي لم تخلص بعد للا إلا إله إلا الله، بكثير من القضايا السياسية والقومية والاجتماعية، على ظن من القائمين بالدعوة أن هذا سيمكن للدعوة بتوسيع قاعدتها الشعبية، وأن الجماهير يجب أن تشرك في الأمر، وذلك بتناول القضايا التي تشغل بال الجماهير في ذلك الوقت، حتى كانت القنبلة التي فجرت الموقف كله في فلسطين عام 1948م..
عندئذ بدأ الهجوم الوحشي على الحركة بأبشع صورة يمكن أن تخطر على البال.
نعم كانت الحرب على الدعوة متوقعة، لأنها كما قلنا سنة من سنن الله، وكان الإمام الشهيد حسن البنا يقول لأعوانه وأتباعه: “أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرا من المشقات، وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات” (2).
ولكن الصورة التي تمت بها الحرب لم تكن تخطر على البال.
وتوالت المذابح منذ ذلك الحين وما تزال.
لقد انكشف للغرب الصليبي موضع الخطر على وجه التحديد، إنه الإسلام السياسي الذي لا يقنع من الإسلام بشعائر التعبد ومشاعر القلوب، إنما يريد أن يكون منهجا مطبقا في واقع الأرض، يحكم حياة الناس كلها: سياستها واقتصادها واجتماعها وفكرها وأخلاقها، و كل مجال من مجالاتها ! وهل يوجد- في نظر الغرب – أخطر من ذلك على وجه الأرض؟ (3).
لابد إذن من مكافحته.. لابد من تجنيد القوى كلها ضده.. لابد من متابعته ومطاردته.. لابد من تجفيف منابعه.. لابد من تشويه صورته حتى لا يقبل عليه الشباب فتزيد خطورته !
ولقد أشعل نار الحقد في قلوب الصليبية الصهيونية أمران في وقت واحد: الأول وقع المفاجأة على الصليبية التي كانت تتوقع بعد تخطيط مائتي عام أو أكثر أن تنجح في القضاء على الإسلام، ففوجئت به يستيقظ من رقدته ! والثاني تهيؤ اليهودية العالمية لإقامة دولتها على أرض الإسلام بعد سعيها الحثيث لإماتته، حتى تنشئ دولتها في أمان من الأخطار، فإذا بها تفاجأ بالخطر وجها لوجه ! وتلاقى الأمران معا وتفاهما على ضرورة القضاء على عدوهما المشترك الخطير.
هل كان يتوقع أن تنجو الحركة الإسلامية من عداوة الصليبية الصهيونية وكيدها، ومحاولة القضاء عليها؟
نعتقد أن ذلك محال !
ولكننا نعتقد مع ذلك أن صورة أخرى كانت قمينة أن تقع لو سارت الأمور على المنهج الصحيح، لو كانت “الجماهير” التي أشركت في الصراع قبل الأوان على وعي بحقيقة القضية، وحقيقة الصراع ! ولن تكون الجماهير على هذا الوعي حتى تكون قد تربت من قبل، ولن تتربى التربية المطلوبة حتى تكون القاعدة قد تم إنشاؤها على منهج سليم ! وهكذا أدى النقص في الحلقة الأولى إلى نقص متسلسل في بقية الحلقات !
ثم كان ما أشرنا إليه في الفصول الأولى من ردود فعل للضربات الوحشية من قبل الأعداء، زادت من الغبش سواء في القاعدة أو عند الجماهير، ونقصد بذلك دخول بعض فصائل العمل الإسلامي في البرلمانات، وما صحب ذلك من تمييع لقضية الشرعية، وقضية الإلزام في تحكيم شريعة الله، ودخول فصائل أخرى في صراع مسلح مع السلطات، مما أدى إلى تهميش القضية الأساسية، وتحول الأمر في حس الناس إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب (4).
ثم اشتطت فصائل أخرى من فصائل العمل الإسلامي فدخلت في معارك دموية مع الناس.. مع “الجماهير” على أساس أنهم كفار يجوز قتلهم ما داموا لم يدخلوا في ” الجماعة المسلمة” !
وكان لهذا الأمر أسوأ الأثر على العمل الإسلامي كله. ففضلا عن النفور العام عند الناس من هذه الأعمال التي لا سند لها من شرع الله، فقد وجدت وسائل الإعلام المتربصة بالحركة الإسلامية فرصة مواتية لتلوين الساحة كلها بلون الدم المراق، مع أنه لا يمثل إلا جزءا ضئيلا من الساحة، ووصمت كل عمل إسلامي أيا كان نوعه بأنه عمل إرهابي ينبغي أن يحارب وتجفف منابعه !
وما كانت و سائل الإعلام العالمية في حاجة إلى من ينبهها أو يحفزها إلى انتهاز الفرصة، فهي -بموقفها المعادي للإسلام أصلا- جاهزة لتلقف مثل هذه الفرصة واستغلالها إلى أقصى حدود الاستغلال !
كما كان رد الفعل سيئا بالنسبة للغبش الذي يحيط بقضية لا إله إلا الله، سواء بالنسبة للقاعدة أو بالنسبة للجماهير، فقد انبرى أصحاب الفكر الإرجائي ينافحون عن فكرهم بشدة، وينشرونه بكل وسائل النشر، بل وقع في الدوامة “علماء” ممن يعتبرهم الناس من أهل الذكر الذين يرجع إليهم، فراحوا ينفون الوقوع في الشرك عن الواقعين فيه بحرارة وبضراوة، ويمنحونهم شهادات موثقة بالإيمان ! ويهونون في حس الناس هذا الجرم الهائل في حق الله، وهو الإعراض عن شريعته، وتحكيم الشرائع الجاهلية بدلا منها، على أنه مجرد معصية لا تستحق حتى أن يشار إليها بالإنكار ! ولقد كان الأحرى أن تأخذ القضية مسيرة أطول على الخط التعليمي، تبدأ بالقاعدة ثم – على مهل- تتوسع بتوسع القاعدة، دون الدخول في معركة مع “الجماهير”.
ثم تشرذم العمل الإسلامي لأسباب متعددة.. منها غياب قيادة كبيرة تضم العمل الإسلامي وتوحده، أو في القليل تقرب بين مختلف اتجاهاته، ووجود قيادات صغيرة، كل منها يعتد بنفسه ورأيه، ويرى أنه وحده على صواب والكل غيره مخطئون.
ومنها أن كثيرا من الشباب القائم بالدعوة لم ينشأ في داخل تجمع يربى فيه روح الأخوة وترابطها، إنما نشأ على ترابط فكري هش، يسهل فسخه عند وقوع أي خلاف في التفسير أو التأويل أو الفهم، فسرعان ما تنقسم الجماعات، وينقلب بعضها على بعض.
ومنها نقص في العلم الشرعي الذي يشكل الضوابط الضرورية للفكر وللسلوك..
ومنها بطبيعة الحال، العمل الدائب من الأجهزة المعادية للإسلام، لتعميق الخلافات وتقطيع الروابط بين الناس.
هل يرجى لهذا الحال إصلاح؟ هل يرجى من الذين تعجلوا في شتى الاتجاهات أن يراجعوا المسيرة، ويصححوا ما وقعوا فيه من أخطاء، ويبدءوا من جديد على هدى من المنهج النبوي السديد؟
إن ما وقع بالفعل هو قدر من أقدار الله… ولكنا تعلمنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بقضاء الله و قدره لا ينفي مسؤولية الإنسان عن خطئه حين يخطئ، ولا يمنعه من السعي إلى تصحيح ما أخطأ فيه.
فهل يرجى أن يصحح العمل الإسلامي مساراته، ويبدأ جولة جديدة أقرب إلى السداد؟ !
إن تصحيح المسار واجب على كل حال.. ولكن ربما يقول قائل: إن الأعداء لن يتركوا العمل الإسلامي يصحح مساراته، وسيعالجونه بالحرب قبل أن يتمكن من التصحيح. ونقول لهم إن الحرب لن تكف، ولكنها لن تقضي على العمل الإسلامي، بل قد تكون من عوامل الشحذ، وزيادة الوعي عند الناس بحقيقة المعركة بين الجاهلية والإسلام.
ويظل واجب النصيحة واجبا في جميع الأحوال : >الدين نصيحة، قالوا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم<.
ذ محمد قطب
——
1- الصحيح هو “الروحانية” بضم الراء نسبة إلى الروح.
2 – مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر، بيروت، ط 3، 1403هئ، 1983 م ص: 108.
3 – يزعم الغرب أنه يحارب” الإسلام المقاتل”
4- راجع فصل “أسباب التعجل” في أول الكتاب.