عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة<(متفق عليه).
إذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالصحبة الصالحة، والحرص عليها، وهو النبي المعصوم، فنحن المساكين الذين تحيط بنا الفتن من كل جانب، أولى بهذه الدعوة. قال تعالى : {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تَعْدُ عيناك عنهم تُريد زينةَ الحياة الدنيا}(الكهف : 27).
ولكن من المسلمين من ليست الصحبة الصالحة على باله. وليس لها موضع في اهتمامه وتفكيره، بحجة أنه يعرف مصلحة نفسه، وفي غِنًى عنها ماديا أو معنويا. ومنهم من تجده يعيش مع صحبة وأصدقاء يكاد لا يفارقهم ولا يفارقونه، غير مبال إن كانوا صالحين أو طالحين، وهذا وذاك كلاهما على خطإ، لأن المطلوب أن يكون الانسان اجتماعيا، وإذا أراد أن تكون له صحبة، عليه أن يختارها بعناية فائقة، وشروط دقيقة، حتى ينتفع بها في كل جانب من جوانب حياته، لا أن تكون سبباً في إفساد خُلُقه، وتمييع دينه، وتضييع مستقبله، وإصابته بالهموم والأحزان وعض أصابع الحسرة والندم. قال تعالى : {ويوم يعضُّ الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً}(الفرقان : 26).
شرح الحديث :
لقد بين عليه الصلاة والسلام، أن الجليس له تأثير على جليسه، سلبا أو إيجابا، بحسب صلاحه وفساده حيث شبه الجليس الصالح بحامل المسك، فإنه إذا جالسته لا بد أن يحصل لك منه واحدة من ثلاث :
إما أن يُحْذِيك أي يعطيك ويهدي إليك. أو تشتري منه. أو على أدنى الأحوال تجد منه الرائحة الطيبة المؤثرة على نفسك وبدنك وثيابك. فكذلك جليسك الصالح تنتفع بعلمه وأخلاقه وكلامه الحسن.
الجليس الصالح
وإليك بعض ثمرات مجالسة الصالحين وأهل الخير :
1) أن من يجالس الصالحين تشمله بركة مجالسهم ويعمه الخير الحاصل لهم. وإن لم يكن عمله بالغا مبلغهم كما جاء في الحديث >فيهم عبد خطاء، إنما مرّ فجلس معهم : يقول الله : وله قد غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم،.
2) أن المرء مجبول على الاقتداء بجليسه، والتأثر بعمله وعلمه وسلوكه، فمُجالِسُ أهل الخير يتأثر بهم، قال صلى الله عليه وسلم : >المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل<(أحمد وغيره وحسنه الألباني).
3) أن جليسك الصالح يُبَصِّرُك بعيوبك، ويدلك على جهات النقص عندك ومواطن العلل في نفسك وخلقك، فتنطلق نحو العلاج وإصلاح العيوب. قال صلى الله عليه وسلم : >المومن مرآة المومن<.
4) أن جلساءك من أهل الخير يصلونك بأشخاص آخرين، فتنتفع بهم كما انتفعت بهؤلاء.
5) أن في مجالسة أهل الخير حفظا للوقت الذي هو الحياة، وهو الوعاء لكل الأعمال.
6) أن جليسك الصالح يحفظك في حضرتك ومغيبك، فلا يفشي لك سراً، ولا ينتهك لك حرمة، ويدفع عنك في مواطن تحتاج فيها إلى من يدافع عنك.
7) أن أخُوَّتك ومصاحبتك لأهل الخير سبب في دخولك ضمن الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون يوم القيامة، قال تعالى : {الأخلاءُ يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}(سورة الزخرف).
8) أن المرء بمجرد رؤيته للصالحين والأخيار، يذكر الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم : >أولياء الله الذين إذا رؤوا ذُكر الله تعالى<(الترمذي والحاكم وحسنه الألباني).
9) أنهم زين وأنس في الرخاء، وعدة في البلاء، وهم خير معين لك على تخفيف همومك وغمومك، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. عليك بإخوان الصدق. فعِش في أكنافهم، فإنهم زين في الرخاء وعدة في البلاء..
10) أنك تنتفع بدعائهم بظهر الغيب في حياتك وبعد مماتك، فإن من عادة أهل الخير : دعاء بعضهم لبعض، قال صلى الله عليه وسلم : >دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه مَلَك موكَّل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكَّل به آمين ولك بمثل<(رواه مسلم).
11) أن المجالسة والمصادقة والزيارة في الله، سبب لمحبة الله تعالى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : >وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ<(صححه الألباني).
12) أن الله يكرم من أحب عبداً لله. وإكرام الله للعبد يشمل اكرامه له بالإيمان والعلم النافع، والعمل الصالح، وسائر صنوف النعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >ما أحب عبد عبداً لله إلا أكرمه الله<(رواه أحمد)، وقال الألباني اسناده جيد).
اللهم اجمع قلوبنا على طاعتك، ووفقنا للجلساء الصالحين الناصحين الذين يأخذون بأيدينا إلى السعادة الدنيوية والأخروية بإذن الله.
الجليس السوء
وقد شبه صلى الله عليه وسلم الجليس السوء بنافخ الكير، فهو إما أن يتطاير عليك من شرر ناره. فتحرق ثيابك، أو تجد منه الرائحة الكريهة التي تصيب بدنك وثوبك، أو أن تتضرر بمجالسته، والناس قسمان : فمنهم من هو مفتاح للخير دال عليه، ومنهم من هو مفتاح للشر جالب إليه كما قال عليه الصلاة والسلام : >إن من الناس ناساً مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس ناسا مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه<(ابن ماجة وحسنه الألباني).
والجليس السوء مضرة على صاحبه من كل وجه، وشؤمٌ عليه في الدنيا والآخرة. ومما يترتب على مجالسة أهل السوء من المفاسد والأضرار ما يلي :
1- أن الجليس السوء قد يشكك في معتقداتك الصحيحة، ويصرفك عنها.
2- أن الجليس السوء يدعو جليسه إلى مماثلته في الوقوع في المحرمات والمنكرات، ويحب ذلك منه.
3- أن رؤيته تذكر بالمعصية، سواء كانت ظاهرة عليه أم خفية، فتخطر المعصية في بال المرء بعد أن كان غافلاً أو متشاغلا عنها.
4- أنه يصلك بأناس سيئين يضرك الارتباط بهم. وقد يكونون أشد انحرافا وفساداً من هذا الجليس.
5- أنه يخفى عنك عيوبك، ويسترها عنك ويحسِّن لك خطاياك، ويخفف عنك وقع المعصية في قلبك.
6- أنك تُحْرم بسببه مجالسة الصالحين وأهل الخير، فيفوتك من الخير والصلاح بقدر بعدك عنهم.
7- أن مجالسة أهل السوء، لاتخلو من المحرمات والمعاصي كالغيبة والنميمة والكذب، ولعب الأوراق، قال تعالى : {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما يُنسينّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}(سورة الأنعام).
قال ابن حبان : العاقل لا يصاحب الأشرار.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ..لا تتكلم فيما لا يعنيك، واعتزل عدوك، واحذر صديقك، إلا الأمين ولا أمين إلا من يخشى الله عز وجل ويطيعه، ولا تمش مع الفاجر فيعلمك من فجوره، ولا تطلعه على سرك، ولا تشاوره في أمرك إلا الذين يخشون الله.
استنباطات : يستنبط من الحديث :
1- النهي عن مجالسة من تؤذي مجالستُه في الدين والدنيا.
2- الترغيب في مجالسة من تفيد مجالسته في الدين والدنيا.
3- تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الصديق الصالح ببائع المسك، دليل تأثير الأخلاق الحسنة وانعكاسها على الأصدقاء.
4- تشبيه الصديق السيء بنافخ الكير دليل على انتقال الأخلاق الرذيئة الى الآخرين.
ذ. الحسين فلييو