حوار الحضارات عنوان كتاب المفكر الفرنسي الكبير جارودي الذي ظهر في السبعينيات، وفيه يؤكد بالدليل القاطع أن صدام الحضارات ليس قدرا مكتوبا على الجبين ولازم تشوفه العين كما يحاول السيد هنتنجتون أن يقنعنا بكل وسيلة.
يبدو أن هنتنجتون من المغرمين بالجيولوجيا، ودليل ذلك أنه يتحدث عن الحضارات وكأنها كتل تطفو على سطح الكرة الأرضية ويفصل بينها انكسار عميق. جيولوجيا(FALL) ووفق النظرية العلمية عن تحركات القشرة الأرضية، من المفترض أن هذه الكتل مستعدة للتصادم في أية لحظة بناء على تزحزح الطبقات الأرضية، هذه الرؤيا التي تسيطر على موضوعية صدام الحضارات تتنبأ بالصدام القادم على أساس التغاير الثقافي والدىني والإثني، الذي يكون الطبقات العميقة لهذه الكتل، فلم يعد الاقتصاد هو الفاصل ولا السياسة، بل العقائد التي هي مركب الثقافات، ولأننا اعتدنا منذ زمن طويل على رؤية مختلفة للثقافات بوصفها بني فوقية، وليست تحتىة، بدت لنا أطروحة الصدام، وبهذه الدوافع غير معقولة.
صاحب أطروحة الحوار فرنسي مسلم، أما صاحب أطروحة الصدام فأمريكي متزمت، وربما يكمن الفرق بين داعية الحوار وداعية الصدام في الفرق بين الثقافتين الفرنسية، والأنجلوساكسونية، على أساس أن الأولى خيالية وأدبية، والثانية عملية ونفعية أكثر من اللازم أيضا، ومهما يكن الأمر، فما يبدو لنا واضحا هو أن أطروحة الحوار جاءت من ثقافة تكاد تنتمي إلى الماضي بحكم التطور المعاصر الذي انتقلت محاوره عبر الأطلسي وتخطته إلى شواطيء المحيط الهاديء الأخرى، أي أنها أطروحة حنين إلى ما لم يحدث وما لم يكن، والتوق إلى رؤيته، ولاشك لدىنا أن أساس أطروحة الحوار سليم من ناحية منطقية، ومن وجهة نظر مفكر إنساني، لكن مجال بحثه كان الماضي إلى حد كبير، والأسف على الفرص الضائعة المكتشفة بعد أن ضاع كل شيء، وذبحت الحضارات المطلوب الحوار معها، واستبيحت وما خلفت غير الحطام.
أما أطروحة الصدام فتأتي من ثقافة تنتمي إلى الآن، وتعتقد أنها بهيمنتها علىه تستطيع اكتشاف مساراته المستقبلية، إنها غير معنية بالنزعات الإنسانية ومخلفات قرنين مضيا بل بالنزعات المنفعية، أو كما تدعي الآن العملية.
وهل هناك أكثر صلابة من علم طبقات الأرض الجيولوجيا؟
اعتقادنا مختلف، وهو أن التماثل بين الجيولوجيا الأرضية والثقافة، يتوقف عند هذا الحد، أي عند حد أن كلا منهما ذو مكونات تحتىة، لكن حركة الطبقات الثقافية، قد لا تقود بالضرورة إلى حدوث تصدعات أو تخليد الصدع الحضاري(FALL) كما هي الحال في الجيولوجيا، بالطبع مثلما هناك جهاز راصد للهزات، يجب أن يكون هناك جهاز راصد للمكونات الثقافية. هذا هو ما تفعله عدة فروع معرفية كعلم اجتماع المعرفة والأنثروبولوجيا والتاريخ.. إلخ، والعنصر الأساسي في كل هذا هو الوعي، فالبشرية أو المجتمعات عموما ليست مجرد طبقات أرضية، تتزحزح أو تنزلق وفق قوانين الحركة والمادة الطبيعية، إنها قادرة على الاختيار، أي حرة، ولماذا يجب أن تتصادم كتل الثقافات؟ ولماذا يجب أن تحل إحداها محل الأخرى؟
في هذا السياق نفسه، يمكن طرح ذات الموضوع على صعيد المجتمعات الوطنية، فكثيرا ما نقرأ عن قرب صدام الكتل الاجتماعية فور أن يقرر راصد أن هذا المجتمع يتكون من كتل إثنية أو طائفية أو قومية، فيبدأ نشر المخاوف من الصدام المحتمل، بل إن بعضهم يمضي إلى رسم خطوط التصدعات بين هذه الكتلة أو تلك، ولماذا؟ هل لأن هذه البني ذات التمايز الثقافي أو الدىني أو الطائفي تحمل استعداد وميول الكتل الأرضية الطبيعية؟ يبدو أن العلمانية تطغي على كل شيء، حتى على علم المجتمعات والسياسة واللغات، والأجناس، فيتعامل الراصد الثقافي مع موضوعه بالثقة نفسها، التي يتعامل بها راصد الهزات مع مقياس ريختر، وهذا يعيدنا إلى الفرنسي الذي لا أعرف أين وصل في حنينه إلى عالم مثالي أكثر حنوا من عالم واثق من رسوخه، إن أطروحته للحوار لاتزال تمتلك رنينها إذا جردناها من مجرد التأسف على الماضي، ودفعنا بها قليلا إلى الأمام.
كان يقال لنا إلى درجة الملل إن لكل ثقافة خصوصيتها، مكونات أولى وتاريخا وجنسا ولغة، وما إلى ذلك، وأن المولود في ثقافة ما من الصعب أن يستوعب مناخ ثقافات أخرى، وجاءت البنيوية الأنثروبولوجية بالضربة القاصمة، حين تحدثت عن البني العقلية المختلفة بين الشعوب، وزاد بعضهم الأمر حدة فحلل سمات العقلية الخرافية الثابتة وسمات العقلية العقلانية الثابتة، لكنني أتساءل الآن: وبعد خمس سنوات تقريبا تحت السماوات الغربية، ألم يكن الثلج المتساقط غريبا عني في الماضي؟ فلماذا أشعر بالحنين إلىه؟ ولماذا أحببت كثيرا أوراق الخريف المتساقطة في شوارع العواصم الساكنة التي كان يقال لنا إنها باردة طوال أيام السنة؟ ولماذا لم أشعر بأنني مختلف عن البشر هناك، وأن ما يهمني في النهاية هو جزء من اهتمامهم؟
ربما يقال هذه تجربة شخصية ولا تصلح للتعميم، لكن أليس مصدر الانطباعات التي تتولد لدى كل كتلة ثقافية، هو التجارب الشخصية، وربما القليلة إلى حد كبير؟
إن الآراء المسبقة والتحيزات والأحكام السريعة، لم تكن في يوم من الأيام نتاج رصد ثقافي شامل، وحتى لو كانت كذلك، فإن رصد ابن فضلان مثلا للروس الذين شاهدهم يفدون بالسفن بتجاراتهم إلى نهر إتل في القرن العاشر الميلادي لم يعد سليما لوصف الروس المعاصرين، وهل يمكن الثقة إلى الأبد بالراصدين الغربيين الذين سجلوا انطباعات الوهلة الأولى عن شعوب وحضارات غريبة عنهم؟ الوثائق التاريخية، وهي نادرة بعد محو هذه الحضارات، تثبت أن هذه الانطباعات لم تكن علمية أي موضوعية، بقدر ما كانت نتاج أفق الراصد ومحددة بثقافته ومصطلحه وعقائده وأهوائه.
ليس من الضروري أن تتصادم الحضارات لأنها ليست تكوينات جيولوجية بالمعني الحرفي، ولأن مادتها البشر وليس الحجارة والتراب، وليس من الضروري أن تتصادم الفئات الاجتماعية المختلفة ضمن المجتمع الواحد للسبب نفسه، والأرجح أن الحوار ممكن بين المختلف والمتعدد، وهل يمكن أن يقوم حوار بين المنسجم والمؤتلف؟ إن مبدأ الحوار يفترض التعدد والاختلاف والتنوع، وهكذا فمن الأمور المزعجة أن يحاور إنسان آخر فيكتشف أنه يسمع صدي نفسه، الأحري أن يسمع شيئا مختلفا يتحداه أو يحفزه، ويزيده معرفة بنفسه، وإنني لأتذكر الشاعر البلغاري الكبير يانجشيف الذي بلغ السبعين من عمره الآن، وهو في شقته الصغيرة محاطا بذكرياته الباريسية في خمسينيات هذا القرن، حين كان بين أصدقائه الكبار، بيكاسو والبيرتي وأوكتافيوباث، وبقية مبدعي القرن الأخير من الألف الثاني، لقد أحببت التقاطاته البارعة للمشترك الإنساني، وفهمت آلامه العظيمة وفراره من بلده قبل سنوات بحثا عن أفق آخر يمكن أن يبدو فيه مفهوما القول إن السلاحف لا علاقة لها بالشعر، مثلا يانجشيف هذا رغم اختلاف اللغة لم يكن يبدو لي إنسانا مهيأ للصدام أو كتلة بتعبير هنتنجتن، بل حكيما كبيرا ترد على لسانه أسماء المفكرين والشعراء الشرقيين، وكأنهم كانوا في ضيافته بالأمس، ومثلما بدا يانجشيف هذا صديقا، كذلك بدت أشجار الكستناء التي تتساقط ثمارها صيفا بين الفينة والفينة، ونتف الثلج المتساقط شتاء على الوجوه والمعاطف والأرصفة، وبياض السطوح والأشجار فجرا بعد ليلة سيطر فيها الثلج، صحيح أن الإنسان منا هنا قد يلمح بخياله الغيوم البيضاء العالية وضوء الفجر الملتمع على المنائر وأشجار النخيل، وكثبان الرمل خلف جبل فيتوشا المغطي بأمطار هاطلة لا تتوقف، إلا أنه يستطيع أن يرسم من كل هذا لوحة رائعة تتدفق بالعذوبة.
محمد الأسعد