الصوم فريضة إسلامية عظيمة، وركن يمتثل فيه المسلم أمر الله في طاعة وإذعان، وقد يتوهم البعض أن هذه العبادة غايتها الكف والامتناع عن شهوتي البطن والفرج في موسم محدد وأيام معلومات، وعند هذا الحد تقف الغاية من الصيام.
والحقيقة أن الصيام لا يقتصر تأثيره على موسم محدد بل نجد من خلال النصوص أن الصيام يستوعب حياة المسلم كلها الماضي منها والمستقبل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >من صام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه<(متفق عليه).
هكذا يُغفر الذنب الماضي، وفي رواية : >الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر<(رواه مسلم)، وهكذا يُغفر الذنب في المستقبل فهو إذن مدرسة تستوعب عمر الإنسان ماضيه ومستقبله، وتربيه على الفضائل وترك الرذائل، قال تعالى في الحديث القدسي :
>.. الصيام جنة : أي وقاية من المعاصي- فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم..<(متفق عليه).
إنها تربية تعمل على ضبط النفس والغرائز، قال صلى الله عليه وسلم : >يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام فإنه له وجاء<(رواه البخاري). والمسلم إذا لم يترك القبائح فإن الله لا حاجة له في ترك مجرد الطعام قال صلى الله عليه وسلم : >من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه<(رواه البخاري).
ويزيد صلى الله عليه وسلم في التوكيد على هذا المعنى فيقول صلى الله عليه وسلم : >ليس الصيام من الأكل والشرب، وإنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل : إني صائم<رواه ابن خزامة). والمعاصي مفطرات في رمضان جاء في الحديث : >أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهدهما الجوع والعطش في آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا فبعثا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذناه في الافطار فأرسل إليهما قدحاً وقال صلى الله عليه وسلم قل لهما تقيئا فيه ما أكلتما فقاءت إحداهما نصفه دماً عبيطا ولحما غريضاً، وقاءت الأخرى مثل ذلك، فعجب الناس من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم : >هاتان صامتا عما أحل الله وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، قعدت إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تغتابان الناس فهذا ما أكلتا من لحومهم<(رواه أحمد).. قال سفيان الثوري : الغيبة تفسد الصيام. وقال مجاهد : خصلتان تفسدان الصيام الغيبة والكذب. فلهذا قال صلى الله عليه وسلم : >كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش<(رواه النسائي).
ولو كان الكف عن الأكل والشرب هو الغاية من الصيام ما تساهلت الشريعة مع من أفطر ناسيا، قال صلى الله عليه وسلم : >إن نسي أحدكم فأكل، أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه<(متفق عليه).
ولو كان الغرض من الصيام هو الجوع ما رغبت الشريعة في الإفطار السريع، جاء في الحديث الإلهي : >أحب عبادي إلي أْعجلهم فطرا<(رواه الترمذي وحسنه).
وبقدر ما رغب الشرع في الإفطار السريع، رغب كذلك في تأخير السحور فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مؤذنان أحدهما بصير والآخر أعمى فجعل صلى الله عليه وسلم المؤذن البصير يؤذن بليل، والأعمى يؤذن للفجر، فقال صلى الله عليه وسلم : >لا يمنعكم آذان بلال من سحوركم فإنه ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا آذان ابن أم مكثوم -الأعمى- فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر<(رواه البخاري).
ففي تقديرنا نحن المؤذن البصير أولى بالآذان للفجر، ليتحرى طلوع الفجر ببصره، والأعمى يؤذن بليل لأنه لا يرى إلا الظلام لكن النبي صلى الله عليه وسلم عكس الأمر. فجعل الأعمى هو الذي يؤذن الآذان، الذي يحرم به الطعام والشراب، وفي ذلك من التوسيع على الأمة فتنبه أخي المسلم.
ومن أراد صيام الأبد ظنا منه أن ذلك في العبادة ردت عليه الشريعة صيامه لما في ذلك من تعذيب النفس، والغرض من الصيام تربيتها لا تعذيبها، قال صلى الله عليه وسلم : >لا صام من صام الأبد<رواه ابن ماجة وبنحوه في الصحيحين).
إذن فرمضان مدرسة تقوي الإرادة على الخير وتضاعف الطاقة في النفس على البر فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان..<(متفق عليه). وصدق الله العظيم حين قال : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} أي فرض لغرض التقوى، والتقوى ملكة طيبة يصدر عنها كل عمل صالح.