قال تعالى : {ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}(سورة ص آية : 26).
العدل أساس الملك، عبارة سارت بها الركبان، وحقيقة لا يختلف حولها اثنان، فالعدل هو الطريق الأسلم لبقاء الحكام في مناصبهم، وكسب محبة شعوبهم، ذلك لأن الرعية لا تريد من حكامها إلا العدل في حكمهم، فإن هم عدلوا فلا خوف عليهم ولو ناموا على قارعة الطريق! ألم يأت من يسأل عن أمير المومنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإذا به يجده نائما خارج المدينة بدون حارس ولا بواب؟، فما كان منه -وهو العارف بما يعيش فيه حكام الفرس والروم من رعب وخوف لظلمهم وجورهم- إلا أن قال عند رأس الخليفة النائم في الهواء الطلق >عدلت فنمت<!.
إن العدل مبدأ من مبادئ الإسلام الأساسية، وخلق من أخلاقه العظيمة، أمر به الله تعالى في كتابه، وحض عليه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، وقامت عليه حضارة الإسلام في المشرق والمغرب، وعاش الناس في ظله أرغد ما يكون العيش وأهنأه وأسعده.
وبنظرة سريعة في كتاب الله تعالى نجد أن الأمر بالعدل يعم كل فئات المجتمع : الحكام، والمحكومين، والمصلحين وغيرهم، قال تعالى : {إن الله يامركم أن تودوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نِعِمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيراً}(النساء : 58) وقال تعالى : {إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}(النحل : 90) وقال جل شأنه : {ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله…}(ص : 26).
وليس العدل الذي أمر به كتاب الله تعالى مقتصرا على الصديق والقريب، وإنما يعم العدو والبعيد، وقد نبه على ذلك القرآن الكريم مبينا أن العدل ولو مع الأعداء هو طريق التقوى، وسبيل الفلاح، قال تعالى : {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(المائدة : 8)، فإذا ظُلم شخص، واعتُدي على حقوقه، فإن له أن يرد الاعتداء ويعاقب ولكن بالعدل، {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم بهم ولئن صبرتم لهو خير للصابرين..}(النحل : 126)، {وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين}(الشورى : 40) وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم من الأمر بالعدل والحض عليه مثل ما في كتاب الله، وفيها من النماذج العملية الكثير الكثير، والمثالان الآتيان يبينان ذلك :
1) روى البخاري ومسلم أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن امرأة من بني مخزوم سرقت، فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبا وقال : >يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها<.
2) ذكر أصحاب السير أنه لمّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوف جيشه المسلم قبيل انطلاق غزوة بدر، أصاب بقدح كان بيده يعدّل به الصفوف بطن سواد بن غزية، وقال : استو يا سواد، فقال سواد : أوجعتني يا رسول الله فأقدني، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال : استقد!..<
إنه العدل الذي قامت عليه حضارة الإسلام، وامتدت في المشارق والمغارب، عدل تساوى فيه الرجال والنساء، والسادة والعبيد، واستفادت منه كل الكائنات. ولا يسعنا ونحن في أيام التنافس على كراسي الحكم إلا أن نهمس في أذن مسؤولينا برسالة عمر بن عبد العزيز لأحد عماله وقد كتب إليه يقول : >إن مدينتنا قد خربت فإن رأى أمير المومنين أن يقطع لنا مالا نرمها به، فعل<، فكان جوابه : >إذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل ونقها من الظلم فإنه مَرَمَّتُهَا والسلام<! ونذكرهم بقول الله تعالى لداود عليه السلام : {ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} هذا داود النبي، فما بالكم بمن دونه من سائر الناس؟
إنها آية عظيمة كان للخليفة المعتضد ولإسماعيل القاضي معها موقف سجله التاريخ، فقد ذكر الدولابي في كتابه عن أبي ذر أن المعتضد كانت له حظية يحبها، ولها ابن أخت حجر عليه إسماعيل القاضي بعد موت والده، فشكت أمه ذلك إلى أختها، ورغبت سؤال المعتضد ليأمر القاضي بفكه من الحجر، فلما جاء المعتضد إلى حظيته سألته ذلك فكتب رقعة بخطه إلى إسماعيل يأمره بفك الحجر عن الغلام وختمها ووجهها مع وزيره إليه.. فلما وصل به إسماعيلَ، فكه، وكتب على ظهره، وختمه ورده مع الوزير.. فلما وصل به الخليفةَ وفتحه ونظر فيه، بكى، وكان بعيد الدمعة، ثم رمى به إلى الوزير، وقال : انظر بما كتب إلينا إسماعيل، فإذا هو قد كتب إليه : >بسم الله الرحمن الرحيم، ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، وقال : قل لإسماعيل : يعمل ما يرى فلا اعتراض عليه< ترتيب المدارك 286/4.
امحمد العمراوي