لقد كتبت البطار أو البطاريون أو من يكتب لها، أو لعله اسم مستعار، لست أدري، أقول كتبت “تلك” مقالين في الرد علي في “الأحداث المغربية”، فكتبت في الرد “المعركة تحت راية البخاري!!، وأرسلت به إلى “الأحداث”، وانتظرت طويلا، فلم ينشروه، لأن فيه فضيحة لهم ولأعوانهم من شياطين الإنس والجن
لقد وقف شعري، واقشعر جلدي وأنا أقرأ مقالة تلك الطاعنة على الإمام البخاري:”الأطر المرجعية لخطب التجديد والحداثة في الدين الإسلامي”، وجزمت بظن كنت ظننته لأول يوم قرأت فيه: “البخاري كان بينه وبين الحق حجاب” ذلك أنني اليوم مستبصر ومستيقن أن الحملة ليست على البخاري وحده، بل إنها على كل قديم، سواء أكان دينا أو تاريخا أو تراثا أو حضارة.
ولقد أذكرتني هذه الحملة بأُخَيَّتِها التي نجمت في مطالع القرن العشرين، حيث نبتت في مصر نابتة من المفتونين بحضارة الغرب، الصادين عن دين الله، الذين سلكوا في الدعوة إلى التغريب والإباحية شعابا جددا، وللتشكيك في الإسلام طرائق قددا، فمن ذلك: الطعن في العربية ، لغة القرآن والحديث، والجدال في تاريخها ونقلتها، والكفر ببعض المنقول منها، وترغيب الناطقين بها – على منهج البلغاء الفصحاء – في نبذ ما دربوا عليه ألسنتهم إن هم قالوا، أو ساسوا به أقلامهم إن هم كتبوا.
ومن ذلك: الطعن في السنة النبوية الشريفة، والتماري في رواتها من الصحابة المكثرين منها، كأبي هريرة رضي الله عنهعنه، والجدال في كتب الحديث التي بال الدم بعضُ جامعيها في الرحلة من الحفاء والإقواء، والتشكيك في بعض الأحاديث الثابتة الصحاح التي فيها ذكر الجنة والنار، والموت والبعث؛..
وهكذا توالت المطاعن تترى، والأراجيف يأخذ بعضها في رقاب بعض، ويمشي قليلها في ركاب كثيرها.. وتالله ما ترك الطاعنون المرجفون بابا من أبواب العلم إلا أدخلوا منه على الأغمار الفتنة، ولا صفحة من صفحات تاريخنا المشرق إلا شوهوها بالفرية بعد الفرية، ولا علما من أعلامنا الأماجد إلا رموه بالشبهة بعد الشبهة.
ولقد تعلل كثير من هؤلاء الطاعنين المرجفين بأعذار أبرزوها، وبطرائق من المكر والخديعة أظهروها، ومن أشد ذلك إيغالا في الخبث، ادعاؤهم”التجديد” و”التطوير”، وانتسابهم زورا إلى “الاجتهاد” و”التغيير”، شعارات مضغتها ألسنتهم، ولما تعها عقولهم.
وسار -بِأَخَرَةٍ – على درب أولئك الطاعنين القدامى فِئَامٌ من قومنا: لهم ألسنة كألسنتنا بيد أنها لم تؤت حظا من بيان العربية، ولم تفز بسهم رابح من سحر المضرية، ولهم قلوب كقلوبنا بيد أنها لم يستحكم فيها الإيمان، ولا نورت فيها الحكمة والهدى والفرقان، ولهم عقول كعقولنا بيد أنها لا تفقه ما “التقليد”، ما “الاستلاب”، ما “التبعية”، ما “الولاء” ما “الذوبان”؟؟
وتنادت هذه الطائفة من الفئام: أن هذا عهد جديد، وعلى كل اختراع منكم شهيد فتداعت إلى شيء دَعِيٍّ نقلته من غيرها، وتواصت بأمر غريب سرقته من أسيادها، قالوا فيه: “حداثة” وهو في الحق:”شطارة”، ووسموه بميسم “العقلانية” وهو عند النظر هوس وغباوة
ومضى “الحداثيون” في الدعاية لنحلتهم، وأمعنوا في بث مقالتهم، وركبوا في ذلك الصعب والذلول، وتوسلوا إلى ذلك بضروب شتى من الوسائل: فالمتصدر للتدريس منهم في مقامه من جامعة أو معهد أو مؤسسة تعليمية، والصحفي منهم في مقامه من صحيفة أو مجلة أو إذاعة مرئية أو مسموعة، والأديب منهم في فنه من قصة أو رواية، أو قصيدة أو إبداع والمفكر منهم في نظره من مقالة أو دراسة أو كتاب، ونما شر هذه النِّحلة واستفحل أمرها، حتى فرقت جماعة المسلمين، وشتتت كلمتهم، ووهنت أمرهم، وأشمتت فيهم عدوهم، فهو ماض يضحك منهم، ويستهزئ بهم لما رأى من تنابزهم بالألقاب، كـ”الماضوية”، و”الرجعية”، و”الظلامية”، ولما عاين من اختلافهم وتنابذهم ورمي بعضهم لبعض بـ “الكفر” و”العمالة” للاستعمار.
وحين نجم هذا الداء (الحداثة)، واستحكم أساسه، وبسق رأسه، تلطف في إذاعته بعض المبتلين به، فأعملوا آراءهم في ذلك بضروب من الحيلة والمكر، وفنون من الخديعة والتخاتل، فذهبوا يتألفون أشباه المشتغلين بالعلم وضَعَفة المنتسبين إلى التعليم الديني، وزينوا لهم أن “الحداثة” “تطوير” “للإسلام”، و”العقلانية” “تثوير” (كذا) للدين، وأن ما بأيديهم يوافق ما عندهم، لكن بضرب من “التلفيق”، ويناسب ما لديهم، لكن بشيء من التوفيق ولما كان هؤلاء الضعفة من أخمل الناس ذكرا، وأطلبهم لعزة الرياسة، وحب الشهرة، أفلح الحداثيون في استمالتهم وتألفهم، وصار الأولون للآخرين “صنائع”، و”ربائب”، فإذا تكلم أولئك فكأن هؤلاء نطقوا، وإن كتب أولئك فكأن هؤلاء ألفوا !!
وسار الضَّعَفَة من المتشرعين بسير الحداثيين: فمن شدا منهم طرفا من الحديث وعلومه، قيل له: استدل على المخالفين من”المقلِّدة” “الحَرْفيين”، “الرجعيين” بكل حديث يوافق ما عندنا، وإذا عرض لك ما يسفه أحلامنا، ويدحض ما عندهم فدونك “التأويل”، وضروب “التحليل”، و”مناهج النقد الحديثة”!!
فإذا استعصى عليك ذلك، واستصعبت الخطة فيه، فلا أبرد على القلب، ولا أقر للعين، ولا أسهل على اللسان من أن تقول في كل حديث يناقض صريح المعقول:إنه موضوع ولم يصح عن محمد الرسول، وإن استحكمت له الصحة من “الصحيحين” البخاري ومسلم!!
ولم يقنع الحداثيون بذلك، ولم يطمئنوا إليه، بل زينوا للضعفة من المتشرعين أن يتجاسروا على “الصحيحين”، وظنوا أنهما كتابان كبقية الكتب، يعرضان على “موازين البحث الحديثة”، فما ثبت منهما بعد، فقد ثبت، وما ذهب منه فقد ذهب!!
فاحتال الضعفة من المتشرعين، لإنفاذ أمر كبرائهم بضروب كثيرة من الحِيَل، منها: تذرعهم بأقوال الطاعنين قديما وحديثا في الحديث وأهله، ومنها: الاحتجاج بكثير من آراء أهل الشذوذ، الذين عرفهم أهل التحقيق، والأثبات من ذوي التدقيق، ومنها: التذرع بمخالفة الأحاديث لصريح القرآن الكريم، قالوا لأن معارضة كتاب الله مَدْرَجةٌ إلى مخالفة ما فيه، ومخالفة ما فيه مَدْعَاة إلى إبطاله والعياذ بالله!! ومنها: التحاكم إلى سلطان العقل فما قبله عمل به وقبل، وما رفضه طرح وأهمل!! ومنها الاسترواح إلى شعارات ذهبت في إقرارها المُهَجُ؛
ومنها:”حقوق الإنسان”، وحقوق المرأة التي من حقوق الإنسان و”حقوق الحيوان”… حتى إذا خيل إلى هؤلاء الضعفة بوحي من أولئك المردة أن ثمة أدنى تناقض بين هذه الشعارات، وبين بعض السنن، انبرى لَطِيفٌ من الضعفة يدفع في صدور تلك السنن، بالتماري في تصحيحها، والتكذيب في ثبوتها… دع عنك ما ابتلي به هؤلاء الضعفة مع إخوانهم المردة، من البعد عن البيان الناصع الذي هو مِلاَكُ فهم أسرار الكتاب والسنة، فهيهات هيهات أن يأتينا هؤلاء وأولئك بمن له بسطة في العربية، واستبحار في البصر بأسرارها، ثم هو يماري في حديث لم يفهمه عقله،أو سنة لم يستسغ لفظها بيانه، فدون “ذلك درج الشمس وهي أم الحياة في كفن، وإنزالها بالأيدي وهي روح النازل في قبر من كهوف الزمن”!! وأنت إذا رمت الوقوف على صحة ما ذكرناه، فتأمل لغة الطاعنة على الإمام البخاري، هل تجد فيها من نصاعة بيان القرآن، وبلاغة حديث رسول الله ما يرشدك إلى أنها “محدثة”، أو “عالمة”، أو “مسندة”، أو “مفتية”؟!!
بلى إنك واقف من لغتها على استعجام لسانها، وفساد سليقتها، ودخول الآفة على عربيتها، وهجوم الإسفاف على منطقها، حتى إننا نقرأ لها على تكره منا، فما هو إلا أن نقرأ لها، حتى نبادر بعض ما تطاله اليد من الكلام الفصيح، والبيان الرائق الجميل، نطهر به ما عساه يعلق بنا من درن صاحبة اللسان المرقع!!
وعسى أن يبعثها هذا الذي ذكرناه، على أن تعرض بعض ما تكتبه على بصير بالعربية وأسرارها، يصحح لها أخطاءها وينقح ويهذب، ويزخرف بيانها بالألفاظ العذبة، لينزلها منزلة البلغاء – التي لم تشم رائحتها – فلو أنها حدثت نفسها بذلك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لتفضحن نفسها بنفسها، إذ صار لنا بصر بلغتها، ومعرفة بلسانها، بحيث لو كتبت من غير دلالة على اسمها لتهدينا إليها، ولو حال بيننا وبينها ألف حجاب!!
عنوان بلا موضوع،
وموضوع بلا عنوان!!
وإنك لتحار ويصيبك الدهش عندما يطالعك هذا العنوان العظيم الوقع، الكبير الخطر، الرفيع الشأن: “الأطر المرجعية لخطاب التجديد والحداثة في الدين الإسلامي”!! فيخيل إليك أن “مفكرا كبيرا” يحذيك بدقائق فكره، أو “منظرا عبقريا” يتحفك بثاقب نظره!! حتى إذا أمعنت في القراءة – على التكره الذي وصفت لك قبل – تبدى لك حال منتسبة إلى الحديث زورا، لابسة ثوبي زور: أحدهما: “التجديد والآخر: “التحديث”!!
فالكاتبة “الألمعية” ههنا تسير بسير من وصفنا حالهم قبل من الحداثيين، وتنسج على منوالهم؛ وتمسك بأذنابهم، عساها تلحق بضعافهم، فتحشر معهم فيقال: “محدثة حداثية” و”مسندة عقلانية” و”راوية من آخر طراز”!!
في العدد المقبل :
محدثة بلا حديث، ومجددة من غير تجديد
د. محمد بن زين العابدين رستم