إن من أشد الأمور وطأة على نفس الإنسان أن يرى حبيبا إلى نفسه وقد أحدقت به الأخطار، وأضحى حبيسا بين مخالب الوحوش وسهام الأعداء تتناوشه، وتستهدف منه المقاتل والأحشاء، خالجني هذا الشعور العارم وطافت برأسي هذه الحقيقة المرة وأنا أشاهد بلدتي السعيدية تساق عنوة إلى سوق النخاسة، فرحت أرمقها بإشفاق ينفطر له الفؤاد، وتجري له المدامع ويهتز له الكيان من الأعماق.. ما أفظع أن يرى الإنسان مراتع صباه تتحول إلى مراتع للشيطان يصول فيها ويجول، مبرما حلفه القذر مع شياطين الإنس الذين يخدمونه باستماتة وتفان ويتنافسون في ابتكار أشد الأساليب فتكا بالإنسان وتجريده من أدنى ذرة من الآدمية، وما الآدمية إن لم تكن رداء سابغا من مكارم الأخلاق يدخل فيه الناس أفرادا وجماعات، فتسمو أرواحهم وتحلق إلى ذرىلا تطاول من المهابة والجمال، وتجد الفطرة بين ظهرانيهم أخصب مراتعها وأرحب ميادينها، فتورق أغصان دوحتها، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فترتفع للإنسانية قلعة شامخة في سماء الوجود يشع منها الأنوار للسارين والمبحرين، ويلوذ بها التائهون والمتشردون، طلبا للمحبة والأمان. كم كنت رائعة الجمال قبل أن تهاجمك جحافل الديدان، وأكوام الذباب، فتجثم على وجهك الطاهر، البريء، فتسلبه نضارته وطهره وتحوله إلى مسخ من المسوخ ليعيش بين ثناياه القبح وتغزو تضاريسه المياه الملوثة المسكونة بالوباء..
تفتحت أكمام حياتي بين أفيائك اللطيفة الوادعة، فوجدتني أغرف من بحرك الزخار كؤوس المحبة والوفاء وأقتنص من أعماقه اللؤلؤ والمرجان، وأنظم بها عقدا بديعا أوشح به صدرك المليء بعبر التاريخ وملاحم الزمان، المفعم بحب الخير للإنسان. وترعرعت بين ربوعك الفيحاء، أقطف من أزهارها وأقتبس من أريجها، وأجتني من ثمارها… فاهتزت جوانحي بشحنات عميقة لامست شغاف قلبي، فشدته إلى أشيائك وكائناتك، الحية والجامدة منها سيان، فصرت أختلف إلى بحرك الزاخر آناء الليل وأطراف النهار أبثه ألحاني وأشجاني.. وأسأل الواحد الديان أن يفك أسر قلبي العاني، لم أكد أبلغ الحولين من عمري الفاني، يا فريدة الزمان حتى اخترقت أذني فرقعات الرصاص واقتحمت خياشمي رائحة البارود الممزوجة برائحة حشائشك وأشجارك والتمعت في عيني أنوار الشهب الساطعة تعلن احتدام الصراع واشتعال نار الحرب بين إخوة الدين وعساكر الملحدين من أدعياء حملة رسالة المسيح – عليه السلام – يومها لم أكن أفهم ما يدور على جنبات واديك الذي يحتفظ في ذاكرته بمشاهد الصراع المرير وصور التلاحم الصادق بين الإنسان والوطن. لم أدرك كنه ما يجري يا بلدتي العزيزة حتى استويت واقفا على قدمي، وكنت أطوف ببراءة الأطفال أتصفح وجوها مسكونة بوهج الإيمان والإصرار على رد العدوان، أوزع قطع الحلوى ويسترعي انتباهي ثياب ليست كالثياب يتلفع بها أولئك الأشاوس الشجعان، فتضفي عليهم معاني الفضيلة والشرف والوفاء، وتداخلني الدهشة والانبهار، وأنا أرقب بعين البراءة بقايا البارود يوقدها أحد هؤلاء الرجال المخلصين، فتندلع شعلة من نور تضيء المكان. وعندما تنفلت كتيبة الجهاد نحو مواقع الالتحام، تفعم قلوبنا بخالص الدعاء.
وما أن استوى عودي حتى احتضنتني أمواج بحرك الأزرق الجميل. وما هو إلا زمن وجيز حتى أجزت في السباحة، فكنت أخوض لججك ببراعة واقتدار… ولشد ما كان يروع فطرتي ويخدش عفتي وحيائي، أن أرى رمالك الذهبية الصفراء وقد تلوثت بمشاهد بهيمية رعناء..
وكانت قرائن الأحوال وسلوك الناس تنبئ أنهم يجترحون ذلك الصنيع وفي وعيهم الزائف أن الانغماس في حمأة العري والاختلاط، هو واحد من صكوك ولوج رحاب المدنية الفيحاء.. وكنت أفزع لرؤية الأخلاق وهي تجلد على رمال الشاطئ ورؤية الحياء وهو يذبح وينكل به دون حسيب ولا رقيب، كنت أطوي نفسي على مرارة مؤرقة بت من هولها كسير الفؤاد وطريح عقد فتاكة مؤلمة، فسلطان الفطرة سلطان عجيب وسياطها لافحة لاهبة، وما أشد حماقة من يخترقون حدودها أو يعترضون سبيلها. ولطالما كنت أجد عزاء لقلبي الكسير في خزان الغضب والاستنكار النابع من أعماق الجنان، فذلك أضعف الإيمان الذي قد يزكو مع الأيام، فتهتز لسلطانه من الظلم أركان وأركان..
لطالما عاودت النظر إلى وجهك المقهور عبر أربعة عقود، مذ وعيت سر هذا الوجود، فكنت في كل نظرة ألمح خطوط الكآبة تزداد تفاقما وتغلغلا في تلافيفه وثناياه. وأفتح عين الأسى على كيانك الذي عهدته طاهرا مسربلا في لباس الحشمة والحياء، فإذا به يئن تحت سياط الظالمين وقد جرد من زينته وألبس لباس ذل وعار، فأقول والحسرة تسري في كياني، يا لذل قومي، ماذا دهاهم يا ترى حتى استرخصوا عرضهم وأرضهم وغاب عنهم أن بطن الأرض أولى لهم من ظهرها إن هم فرطوا فيها لأنها خلاصة الوجود وجوهر الحياة.
ولكم عجبت كل العجب عندما رأيت قومي يبزون المستعمرين في الفساد، فهؤلاء كانوا يجعلون للنساء من الشاطئ نصيبا محروسا، إن أردن تعففا، وربأن عن أنفسهن عن التنازل عن كرامتهن.
أما أولئك فهدموا الحدود وحطموا السدود.. حتى لا ترتفع للفضيلة نموذج أو مثال، فالجميع مطالب بالتهتك.. على كل حال..
ولبلادة حسهم أو سوء مكرهم أن سموك بالجوهرة الزرقاء، فهلا علموا أن الجواهر حقها أن تصان عن كل ابتذال.. وعلى الضد من ذلك راحوا يمرغون عرضك في الأوحال ويبذلونه لكل قاص ودان.. فيا لضيعة قومي من سوء الحال وسوء المآل، إذا عرضوا على العزيز المتعال. صنعوا بك الأفاعيل تحت ستار الثقافة والسياحة، والثقافة منهم براء، لأن الثقافة استقامة وامتثال لا دعارة وانحلال.
ويا ليت قومي يدركون مقداربلادتهم وسخافة عقولهم، وهم يعلنون عن حملة للنظافة على شواطئ البحار تحت شعار سخيف سموه “بونظيف” فهل أدركوا أن الأوساخ الأخلاقية التي ترين على تلك الشواطئ هي أشد نتانة من قمامة الفضلات، فهذه تؤذي الأجساد، وتلك تؤذي الأجساد والأرواح وتغرق الناس في مستنقعات الضلال؟ !
ما أشبه منطق القوم اللئام وهو يحرضون على الفساد وإتيان المنكرات ويحاربون كل دعوة للتطهر والنقاء، بقوم لوط وهو يصرخون: {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}(النمل : 56)
لكم هجرتك وتأففت من دخولك وقت الصيف، وأنت القريبة إلى قلبي ووجداني، بسبب ما يؤتى فيك من معاصي وآثام، ولكم جر علي ذلك التحرج والنفور تقصيرا في صلة أعز الناس إلى قلبي.. أمي التي تشملني بسابغ عطفها وحنانها.. إني لأمتلئ عليك حزنا وإشفاقا وأخشى أن يأتي عليك صبح يوم ما.. يحيق بك فيه وعيد الله : {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون . أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون}(الأعراف : 97-98)، ولو كان باليد حيلة لطهرتك من الأقذار ولطردت منك الأشرار.. ورددت عليك رداء الحشمة والوقار.. فيا رب هيئ لبلدتي وسائر الوطن الحبيب.. من يغسله من الأدران والأوضار.. برحمتك يا جليل يا عزيز يا غفار..
ذ. عبد المجيد بن مسعود