لا شك في أن الكتابة عن قضايا المسلمين في المجتمعات غير المسلمة أمر ضروري وأساسي، لما يحتاجه المسلمون في هذه المجتمعات من مرجعيات فكرية ودعوية وتربوية وثقافية وسياسية تراوح الخطو بين فعل التأصيل الذي يجعلهم أكثر اتصالا و ارتباطا بأصولهم العقدية و الحضارية، وفعل التأسيس الذي يمنحهم القدرة على الانتماء إلى عصرهم المتحرك بوتائر لا تبقي خلفها إلا من حافظ على هويته وفقه لغة عصره.
وقد لا نغالي إن قلنا إن من أهم الأفقاه التي يحتاجها المسلمون في المجتمعات الأخرى ما له علاقة بفقه الأقليات الذي ينصب كل اهتمام أصحابه على المشكلات التي يختص بها مجتمع الأقليات المسلمة – لما تتميز به من ظروف خاصة جدا، تدفع بالمسلمين إلى العيش بداخل دوامةمن الصراع الثقافي، خاصة في المجتمعات العلمانية المتشددة التي لا تنظر إلى فعل التدين من زاوية حرية الاعتقاد، بقدر ما ينظر إليه على خلفية فعل التطرف والتشدد والحفاظ على هوية ما زالت تحتفظ بالمقومات الأساسية للممانعة في زمن التذويب الحضاري العام.
في هذا السياق تكون للكتابة عن الأقليات المسلمة، تأصيلا وتأسيسا، مهمة أساسية هي الوقوف إلى جانب المسلمين في الديار الأخرى، من خلال الاستماع إلى معاناتهم ورصد مشاكلهم وبحث التحديات التي تواجههم جملة وتأصيلا، حتى لا يعيش المسلم فترات زمنية يحس فيها بنوع خاص من الفراغ الثقافي والمذهبي، أو من التيه في دوامة صراع الثقافات والحضارات.
من هنا أهمية الكتاب الذي ألفه الدكتور يوسف القرضاوي (في فقه الأقليات المسلمة: حياة المسلمين في المجتمعات الأخرى)؛ والذي هو عصارة رؤية لأهم المشاكل التي لامسها المؤلف في حياتهم بصفة عامة، بل ويعتبر بحق مشاركة واعية في مسلسل الكتابات التأصيلية والتأسيسية لفقه الأقليات المسلمة، من خلال بحث أهداف هذا الفقه وخصائصه ومصادره وركائزه الأساسية، بل ومن خلال إعطاء جملة من الأمثلة والنماذج التطبيقية سواء في مجال العقائد والعبادات أو في مجال الأسرة أو في مجال العلاقات الاجتماعية.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي في مقدمة الكتاب:”لا ريب أن هناك مشكلات يعاني منها المسلمون في كل مكان، وفي داخل (دار الإسلام) نفسها؛ أي في قلب المجتمعات الإسلامية في العالم الإسلامي؛ بعضها مشكلات فردية، وبعضها مشكلات أسرية وبعضها مشكلات اجتماعية، وبعضها مشكلات اقتصادية. فلا غرابة أن تشكو الأقليات المسلمة في بلاد الغرب ونحوها، مما تشكو منه الأكثريات الإسلامية في بلاد الإسلام نفسها. وهذه المشكلات العامة التي تشمل المسلمين في كل مكان، لا حديث عنها في هذه الدراسة، ولكن حديثنا هنا يتركز حول المشكلات التي تختص بها الأقليات المسلمة لظروفها الخاصة، أو أنها تكون عندها أكثر حدة، وأعظم إلحاحا منها في الديار المسلمة؛ وهو ما جعل المسلمين، في تلك الديار منذ بدءوا يعودون إلى ذاتهم، ويحسون بهويتهم، يعقدون الندوات والحلقات للبحث عن حلول لمشكلات حياتهم المتصلة بالدين، في ضوء الشريعة الإسلامية” (ص5).
ينتمي هذا الكتاب القيم إلى سلسلة الكتب التي ألفت في هذا الباب من جهة، وإلى سلسلة المؤلفات التي أغنى بها الدكتور يوسف القرضاوي المكتبة الإسلامية، وهي جزء من سلسلة الكتابات الخاصة بفقه الواقع الذي يفتح بصيرة الباحث على المشكلات التي يعاني منها المسلمون في البلدان غير الإسلامية. فقد ألف كتابه (الحلال والحرام في الإسلام) وكتابه (فتاوى معاصرة) بأجزائه الثلاثة، ناهينا عن سلسلة المقالات والحوارات والمشاركة في العديد من البرامج الدينية في القنوات الفضائية، مثل (الشريعة والحياة) و(المنبر)، ناهينا عن تخصيصه حيزاً مهماً لهذه القضية في موقعه الخاص على شبكة الأنترنيت، وموقع اسلام أون لاين الذي يتجاوب بشكل كبير مع احتياجات هذه الأقليات.
يتكون الكتاب من مقدمة ومجموعة من المباحث، خصص أولها للحديث عن المقصود بالأقليات، وتطور صلة الأقليات الغربية المسلمة بالإسلام، مع الإشارة إلى قضية المشكلات الفقهية لهذه الأقليات.
وفي المبحث الثاني، تحدث القرضاوي عن أهداف هذا الفقه وخصائصه ومصادره، في حين جعل المبحث الثالث خاصا بالحديث عن الركائز الأساسية لهذا الفقه، والتي بين من خلالها أن لا فقه بغير اجتهاد معاصر قديم يجمع بين فقه الواقع المعيش وتبني منهج التيسير ومراعاة سنة التدرج والأخذ بقاعدة تغير الفتوى بتغير موجباتها، هذا بالإضافة إلى ضرورة الاعتراف بالضرورات والحاجات البشرية ومراعاة القواعد الفقهية الكلية والتحرر من الالتزام المذهبي.
بعد هذاالشق النظري ذي الطابع التأصيلي، انتقل الشيخ يوسف القرضاوي إلى معالجة القضية من خلال مجموعة من النماذج التطبيقية، وقد اختار لذلك أربعة نماذج تطبيقية، ناقش في أولها المشاكل المتعلقة بمجال العقائد والعبادات، كالتقريب بين الأديان وقضية صلاة الجمعة والجمع بين الصلاتين في الصيف، وبناء المراكز الإسلامية من أموال الزكاة، ودفن المسلم في مقبرة النصارى، وترك الأضحية في أوربا لانتشار الأمراض الوبائية في البقر والغنم.
بعد ذلك انتقل إلى محور فقه الأسرة، فتحدث عن بطلان الزواج من الشيوعي، وزواج المسلم بغير المسلمة، وإسلام المرأة دون زوجها، وميراث المسلم من غيم المسلم.
أما النوع الثالث من هذه النماذج فخصصه القرضاوي لمناقشة جملة من المشكلات المتعلقة بالأطعمة والأشربة، كالخل المصنوع من الخمر، والأنزيمات التي أصلها من الخنزير.
ثم ختم المؤلف كتابه القيم بمناقشة النموذج الرابع والمتعلق بفقه المجتمع وعلاقاته ومعاملاته، حيث تحدث عن قضية تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم، والتعامل مع الجار غير المسلم في بلد غير إسلامي، وشراء بيوت السكنى في الغرب عن طريق البنوك.
وعلى الجملة يمكن القول: إننا أمام كتاب يسد ثغرة في الثقافة التأصيلية لفقه الأقليات المسلمة في المجتمعات الأخرى، الذي هو جزء من الفقه العام “ولكنه – وكما يقول المؤلف – له خصوصيته وموضوعه ومشكلاته المتميزة، وإن لم يعرفه فقهاؤنا السابقون بعنوان يميزه، لأن العالم القديم لم يعرف اختلاط الأمم بعضها ببعض، وهجرة بعضها إلى بعض، وتقارب الأقطار فيما بينها، حتى أصبحت كأنها بلد واحد، كما هو واقع اليوم” (ص32). وقد ذكر القرضاوي سبعة من الأهداف، نذكر، بدورنا، أهمها: أنه يعين هذه الأقليات المسلمة، أفرادا وأسرا وجماعات، على أن تحيا بإسلامها، حياة ميسرة، بلا حرج في الدين، ولا إرهاق في الدنيا. وأن يساعدهم على المحافظة على جوهر الشخصية الإسلامية المتميزة بعقائدها وشعائرها وقيمها وأخلاقها وآدابها ومفاهيمها المشتركة، بحيث تكون صلاتها ونسكها ومحياها ومماتها لله رب العالمين، وبحيث تستطيع أن تنشئ ذراريها على ذلك.
- يوسف القرضاوي : في فقه الأقليات المسلمة : حياة المسلمين وسط المجتمعات الأخرى.
- نشر : دار الشروق – القاهرة – الطبعة الأولى 2001.
- 204 صفحة.
عرض : ذ. عبد العزيز انميرات