أمثلة : القتل الرحيم، قتل الجماعة بالواحد، الاقتراض بالربا
تقديم :
تم التعرض في عدد سابق إلى أن :
1) الكون كله مخلوق بالحق، وأن لكل مخلوق حكمة من خلقه
2) وأن الشريعة كذلك أنزلت بالحق لتحكم سير الإنسان حتى يكون منسجما مع الكون.
وهذا هو مرتكز الصراع بين أهل الحق وخصومه، فالشريعة تهدف إلى ضمان مصلحة الإنسان ودفع المضرة عنه. والذين لا يومنون بهذه الشريعة يدَّعون أيضا أنهم يخدمون مصلحة الإنسان تحت دعاوى عريضة، فباسم المصلحة يتم تحرير المرأة من قيود الدين، وتحرير الإنسان من قيود الدين، فلا معنى للتحكم في شهوات الإنسان مع أن المصلحة المعتبرة في الحقيقة هي المصلحة الشرعية أي المصلحة المعتبرة شرعا، أما غير ذلك فأهواء تتدثر بشعارات الحرية، وشعارات الحقوق، وشعارات المصلحة.
فانظر مثلا إلى المصلحة الشرعية المعتبرة في النهي عن تلقي التجار للركبان في الطريق، وما يترتب عن ذلك التعرض من الاضطراب في الأسواق، وارتفاع الأسعار، وكذلك النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وما يقع فيه من المضاربات قبل وصوله للسوق، إذ لا يصل إلا وقد تضاعف ثمنه، وتلك مسفدة كبرى لاقتصاد المجتمع على مختلف الأصعدة.
وكذلك الأمر بالنسبة لتحريم الخمر فالمصلحة المعتبرة شرعا في ذلك غير ما يتراءى للناس فيها من المنافع التجارية أو السياحية أو الاقتصادية، إلى غير ذلك من المصالح المعتبرة شرعا، وهي الحق الذي أنزله الله تعالى بالحق لينسجم مع الكون المخلوق بحق وهو ما توقف عنده د. بنحمزة من خلال الآية : {خلق الله السموات والأرض بالحق}(سورة التغابن).
واعتبار المآلات والمقاصد الشرعية من أهم المصالح التي تحفظ كرامة الإنسان في نفسه وماله وعرضه وعقله.
التوجه الشرعي عموما يرعى المصلحة العامة والخاصة في توازن دقيق
إنا لو نظرنا في التوجه الشرعي عموما لوجدنا أنه يرعى المصلحة العامة والخاصة، وكلاهما له في الإسلام تنظيم دقيق. فانظر مثلا إلى مقولة الإشتراكيين. قالوا : نحن ضد الرأسمالية، لأن الرأسمالية جاءت لصالح الفرد بالدرجة الأولى، ونحن أقمنا حكما للجماعة والملكية الجماعية ، الوداديات الجماعية، وملكية الدولة لصالح الدولة في مقابل ملكية الفرد. وهكذا فالمجتمع الشيوعي الاشتراكي يستجيب لمطالب الجماعة في مقابل الفرد ، فكانت النتيجة أن أصبح كل واحد يتهرب من العمل بالتواكل على الآخرين لانعدام المسؤولية الفردية. فأصبحت الدولة التي أخذت بالنظام الاشتراكي تموت جوعا، لأن كل شيء ذاب في ا لجماعة، فلذلك وقع ما وقع من الانتكاسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إن الإسلام يوزع الأدوار بين الفرد والجماعة، يعطي الفرد حقه، ويعطي للجماعة حقها، يحفظ مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة في تنظيم عجيب يجب أن نطلع عليه، والاطلاع عليه إنما يكون من خلال معرفة هذه الشريعة بمعرفة الفقه الإسلامي الذي يبلور بدقة أهداف الشريعة الإسلامية.
النظر إلى المآلات من أهمِّ المقاصد التي تحفظ المصلحة العامة
إن الشريعة الإسلامية سواء اهتمت بالمصلحة الجماعية أو بالمصلحة الفردية فإنما هي تنظر إلى أمر أبْعَد وهو انتظام الحياة الاجتماعية، ولذلك نجدها في بعض الأحيان تلغي قضية الفرد لصالح الجماعة وهي في هذه الأمور كلها إنما تريد أن تُيَسّر وتكفل تنظيم الجماعة الإسلامية في أمدها البعيد، وهذا ما يُعرف بالنظر إلى المقاصد أو المآلات لأن الأحكام الشرعية إذا تأملناها تنظر إلى المآلات وإلى المقاصد التي لا تكون حاضرة في ذهن الإنسان الذي يتصرف وفق الدوافع الآنية بدون النظر للعواقب.
أمثلة توضح اعتبار المآلات
أ- القتل الرحيم :
وهذا المثال يوضح الأمر: فلو وجدنا إنسانا طاعنا في السن أي، شيخا منهكا، مريضا، لا يبصر، لا يسمع، لا يستمتع بالحياة، فيأتي أحد من أقربائه فيقترح: لو أننا سقيناه سما، لأرحناه لأنه لم يعد يستمتع بالحياة، لأن الحياة بالنسبة إليه عَبَثٌ. فماذا يقول الشرع في هذا الإنسان المصاب بمرض خطير مثلا كالسرطان ، يعوي عواء، يصرخ، لا تنفع فيه الأدوية والمهدئات فيتقدم أحد أقربائه ويقترح لماذا لا نحقنه بإحدى الحقن التي تريحه، فنحن لا نقتله، ولكن نريحه، وهذا ما يسمى: القتل الرحيم، أي القتل بدافع الشفقة. فما قول الشريعة الإسلامية في هذا؟ هل يجوز هذا أم لا يجوز؟ في جميع هذه الحالات لا يجوز، لماذا؟ لأن النظام العام للجماعة الإسلامية يختل لأنه بعد مدة، وبعد الاطمئنان إلى هذا الحكم سيعمد أناس إلى آخرين يرونهم شيوخا أو مرضى يثقل عليهم تحمُّلُهم ليقتلوهم، فكل من ثَقُل عليه والده، أو والدته، يلجأ إلى قتله، ليستريح منه، فينتشر القتل في الناس بهذه الطريقة، فيكون المآلُ هو انتشارَ القتل.
ب- قتل الجماعة بالواحد :
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأخذ من هذا الأصل ” النظر إلى المآل واعتباره” فحينما وقعت قصة في صنعاء اليمن، قصة رجل وامرأة، كانت المرأة متزوجة من رجل غاب عنها وترك معها ابنه (ربيبها)، وفي غيبة الزوج كان يتردد عليها هذا الرجل، فأحَسَّ الطفلُ بما يقع في غَيْبَة أبيه، أي رأى أن زوجة الأب تخُون زوجها، فتذاكرت المرأة وعشيقُها في شأن هذا الطفل. فاتفقا على أن يقتلا هذا الولد ويزعما بأنه مات، فقتلاه، وبعد ذلك كُشِف أمرهما، فرُفع الأمرُ إلى عمر بن الخطاب فقيل له: هل نطبِّقُ النفسَ بالنفس ونقتل بكُلِّ مقتول قاتلا واحدا؟؟! مع أن في هذه القصة قاتِلَيْن لمقتول واحد؟ هل نقتل واحدا منهما؟ أو نعفو عنهما؟… فكان رَدُّ عمر أنه قال: والله لو أنّ أهل صنعاء جميعا اشتركوا في قتل رجل واحد لقتلتهم به جميعا. فالنظر للمَآل والعاقبة هو الذي كان وراء هذا الحكم الصارم. لأننا إذا صرنا لا نقتل المشتركين في القتل، ففي نهاية المطاف ماذا يحدث؟ إن كل من أراد أن يقتل أحداً يكفيه أن يبحث عن شريك، فيُرفع عنهما الحكم، أي إذا قتلت خَصْمَك وحدك ستكون متحمّلا، ويقام عليك الحد، لكن إذا أردت أن تنجو فابحث عن شركاء فيصيرُ القتلةُ ثلاثةً و المقتولُ واحداً، ولا تُقْتَل ثلاثةٌ بواحد، وحينئذ تتأسّس شركاتُ القتل عند المسلمين، أي من أ راد أن ينجو من الحدّ فليجمَعْ معه الآخر، ويعطي الدّية وينجو بالتالي الجميع.
اعتبار المآل الذي رآه عمر هو أن القتل الحد يجب أن يتم، سواء كان قَتْـلَ واحد لواحدٍ، أو اثنين لواحد، أو ألفٍ لواحد، المهم أن يُقْتل القَتَلَةُ، وحينئذ لن يعود للقتل في حياة المسلين مبرّرٌ، وبذلك يسود الأمن الفردي والجماعي.
مثل هذه الأحكام هي التي تعطي هذه الخلاصة : أن الشريعة الإسلامية تؤدي إلى أحكام تنظِّم المجتمع ككل، فالمجتمع الآن نظره قصير، متخلف، ليس له بعد النظر سواء في أحكامه أو تصرفاته، أو مشاريعه.
جـ- الاقتراض بالربا :
وقصة الاقتراض بالربا توضح قصور النظر، احتاجت دولة إلى القرض لا تذهب إلى صندوق النقد الإسلامي، لأنه لا وجود له، ولكن اتجهت الدول الإسلامية إلى صندوق النقد الدولي، وحينما تكثر القروض، وتتوالى الأيام وتبحث عن نفسك إلى أين أنت ذاهب، تجد بأنك بقرضك قد عمَّقْتَ الأزمة (قروض كثيرة: والأزمة أكثر) وهذا هو حال الدول الإسلامية المقترضة بالربا، كل قرض مشكلة لأنه يلزمه ديْنٌ، وخِدْمَةُ الدَّين، وجَدْولة الدَّيْن، والاستشارة مع صندوق النقد في الاستثمار، وتنشأ حينئذ البطالة، وينشأ التضييق وتنشأ أشياء وأشياء. لو أن المسلمين في الأول صبروا على فقرهم لكان أفضلَ لهم من هذه الديون التي يأخذونها بلا حُسْبان ولا تفكّر في العواقب فالأزمة الموجودة الآن يتحمل النظام الربوي فيها جزءاً كبيرا لأن الناس لا يجدون حلاًّ إلاّ الربا، وهذا -كما يقع للجميع- لم تفكر فيه الدول إلا بعد سنوات، والآن هناك بعض الدول منها المغرب أصبحت تقول إننا يجب أن نتوقف في قضية أخذ القروض من الخارج. وهذا هو الذي كان يقوله الإسلام : بأن القروض الربوية ستغرق الأمة – فالإسلام هو المحامي الأول عن الأمة الإسلامية – لكن الإسلام ترك ظهريا وأخذنا بأقوال الاقتصاديين، فإذا بالقروض تؤدي إلى الكارثة. والمشكلة الكبيرة هي عندما تحُلُّ أزمة الجفاف، وأزمةُ البطالة وأزمة الاختلاس و… وهذه الأزمات لا تكون موجودة في صندوق النقد، بل تكون عندك وحدك، مثل الأزمة التي وقعت للناس، المعروفة بأزمة الديون التي غرق فيها الناس، فهناك من بنى فندقا، وآخر قصراً… ومباشرة قلب الله الأحوال، فكان الجفاف، وجاءت الأزمة، وتوقف الناس… وأصبح الفندق لا يؤدي ربحًا لصاحبه، والديون تتضاعف… فأصبح صاحب الدين لا يجد أين يفر، ولا كيف يتصرف، كان الإنسانُ من الأغنياء فأصبح من السُّجناء .
فكان الأحرى بك عوض أن تبني فندقا كبيراً بالديون، أن تبني فندقا صغيراً يُحَرّك مالك ويحفظ رأس مالك. ولكن عدم التفكر في المآلات والعواقب هو الذي يوقع في الأزمات، اقتصادٌ منتفخ مرتفع بالقروض الربوية سرعان ما تعصف به الأزمات، والآن وكما هو حال الكثير من الفلاحين والتجار الذين كانوا أغنياء أصبحوا من أفقر الفقراء المرميِّين في ظلام السجون مع المجرمين السفهاء.
أن الشريعة الإسلامية في أحكامها تنظر إلى المآلات، وإلى مصائر الأمور، وهذا هو الأمر الذي نختلف فيه مع الكثير من الذين لهم قصر النظر، الذين يرون البارقة القريبة فيتصورون أنها يمكن أن تكون حلاًّ، ويمكن أن تكون شفاء لأمراض الأمة. إن الشريعة الإسلامية في أحكامها التي يرى الناس أنها عتيقةٌ أو قاسيَةٌ لا تستهدف إلا خَيْرَ هذا الإنسان في المدى البعيد، وخيره في المآل، وفي النهاية، وكل أحكامها تدور على هذا المحور، محور مصلحة الإنسان العاجلة والآجلة.
أن أحكام الشريعة مدارها ومرجعها على تحقيق المنفعة والمصلحة للإنسان، وهذا متَحَلٍّ في المعاملات وأحكامها فيما منع الشرع في المعاملات وما أجاز في ذلك كله نلحظ أن المصلحة معتبَرَةٌ، فكل شيء أضر بالناس وأساء إليهم وفوت عليهم مصلحة، فالشرع يرفضه، وكل شيء أدى إلى أن تنسجم الحياة وينال كل فرد في المجتمع حقه فالإسلام يقره وبهذه الطريقة استطاع أن يجلب الخير للجميع، وأن لا يراعي فئة على حسب فئة أخرى.
د. مصطفى بنحمزة