4- الرد على المرتكز الثاني :
تنزيل الحاجات منزلة الضرورات في إباحة المخطورات
غالبا ما يقع للناس خلط بين الحاجة والضرورة لذلك وقف الدكتور الصاوي على تعريف الحاجة وعلى شروط تطبيقها والفرق بينها وبين الضرورة.
فالحاجة في اللغة: ما تكون حياة الإنسان بدونها عسيرة شديدة، وفي الاصطلاح الفقهي: ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المصلحة فإذا لم تراع دخل على المكلفين -على الجملة – الحرج والمشقة.
أما عن شروط تطبيقها فقد تحدث أهل العلم عن ذلك، فذكروا منها:
-ألا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، ومن ثم شرع الجهاد مع أئمة الجور، ذلك أن الجهاد ضروري لحفظ الدين، واعتبار العدالة في الولاة مكمل لذلك، والمكمل إذا عاد على الأصل بالبطلان لم يعتبر.
-أن تكون قائمة لا منتظرة، فلا يشرع الأخذ بالرخص إلا إذا تلبس المكلف بأسبابها فعلا، فليس لمن نوى السفر أن يستفيد من الرخص بمجرد النية، بل لابد من التلبس الفعلي بالسفر.
-أن لا يكون الأخذ بها مخالفا لمقصود الشارع، فإذا كانت الرخص قد شرعت للتيسير وتحقيق حاجات الناس فليس لأحد أن يتحيل لإيجاد سبب يترخص بمقتضاه كأن ينشئ سفرا ليقصر الصلاة أو ليفطر في نهار رمضان أو أن يهب ما له فرارا من الحج الواجب.
وأما عن الفرق بين الحاجة والضرورة فإنه يفرق بينها من عدة أوجه، منها:
-أن الضرورة أشد باعثا من الحاجة، لأن الضرورة مبنية على فعل ما لا بد منه، ولا يسع الإنسان تركه، وأما الحاجة فهي مبنية على التوسع فيما يسع الإنسان تركه.
-أن الضرورة تبيح المحظور سواء أكان الاضطرار حاصلا للفرد أم للجماعة، بخلاف الحاجة فإنها لا توجب الترخص والخروج على الأحكام العامة إلا إذا كانت حاجة الجماعة في ذلك لأن لكل فرد حاجات متجددة ومختلفة عن غيره، ولا يمكن أن يكون لكل فرد تشريع خاص به، بخلاف الضرورة فإنها نادرة.
-أن الحكم الاستثنائي الذي يتوقف على الضرورة هو إباحة مؤقتة لمحظور بنص الشريعة، تنتهي الإباحة بزوال الاضطرار وتتقيد بالشخص المضطر أما الأحكام التي تثبت بناء على الحاجة فهي لا تصادم نصا، ولكنها تخالف القواعد والقياس، وهي تثبت بصورة دائمة يستفيد منها المحتاج وغيره.
من أجل ذلك فإن الفقهاء عندما تحدثوا عن هذه القاعدة لم يمثلوا لها في الأعم الأغلب بإباحة محرمات قطعية انعقد الإجماع على حرمتها وبطلان العقد بها، كالزنا، وربا النسيئة، وشرب الخمر أو بيعها، وأكل لحم الخنزير أو بيعه ونحوه مما علم تحريمه من الدين بالضرورة، بل جل ما ذكروه من تطبيقاتها بما يدور في فلك العقود المشروعة ابتداء، و لكن ذكروا أن مشروعيتها جاءت على خلاف القياس رعاية لجانب الحاجة، فقد ذكروا من تطبيقاتها على سبيل المثال: مشروعية الإجارة، والجعالة، والحوالة، والسلم، والاستصناع، وأنها جوزت على خلاف القياس لعموم الحاجة إلى ذلك، لأن الإجارة والسلم والاستصناع، بيع معدوم – وبيع المعدوم باطل- ولكنه جوز لحاجة الناس، و الجعالة فيها جهالة، وفي الحوالة بيع دين بدين وهو ممنوع، وكل هذه العقود سوف تجد من الآثار ما يدعم مشروعيتها ابتداء عند كثير من أهل العلم، فالإجارة والسلم ثبتت مشروعيتهما بالكتاب والسنة والإجماع، ومثل ذلك في الحوالة والجعالة فقد ثبتت مشروعيتهما كذلك بالسنة والإجماع، ومن راجع كتب الفقه عرف مصداق ذلك، بل إن من أهل العلم من نازع في كونها ابتداء على خلاف القياس، ومن يتأمل في هذه الأمثلة يجد أنها تمثل نوعا من التخريج الفقهي لبعض العقود المشروعة بحيث تبدو متناسقة مع الأصول الشرعية والقواعد الفقهية الأمر الذي يظهر معه دقة هذه القواعد واستيعابها بتطبيقاتها واستثناءاتها للأحكام الجزئية.
ولتوضيح هذا الأمر أورد الدكتور الصاوي كلام الإمام السيوطي في كتابه الاشباه والنظائر عند حديثه عن القاعدة الخامسة: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.
بعد وقوفه على تعريف الحاجة وشروط تطبيقها والفرق بينها وبين الضرورة، وقف الدكتور الصاوي وقفة أخرى وهي أنه لا مماراة في كون المسكن إحدى الحاجات الضرورية للإنسان التي لابد من توفيرها سواء أكان ذلك بالاستئجار أو التملك، أو بأي صورة أخرى من صور ملكية الانتفاع، فمبدأ وجود (مسكن) يأوي الإنسان إليه حاجة من حاجاته الأساسية بلا نزاع، ولكن المنازعة في الإصرار على كون هذه الحاجة لا تندفع إلا بالتملك، وفي اعتبار التملك بذاته دون غيره من بقية الصور يمثل حاجة أساسية في جميع الحالات، بحيث يتسنى معها الترخص في محرم قطعي علم تحريمه من الدين بالضرورة، وفي الإصرار على أن هذه الحاجة لا تندفع بالإيجار في جميع الحالات.
وإن كل ما سبق وما يمكن أن يساق من أدلة في هذا المقام لا ينصرف شيء منها إلى خصوصية التملك، وإنما تنصرف إلى مبدأ الاكتنان في ذاته، وفرق بين أن يكون الحديث عن مبدأ الإيواء أو الاكتنان في ذاته، وبين أن ينصرف إلى صورة معينة من صوره تملكا كانت أو إيجارا، فالاكتنان في مسكن يقي الحر والبرد وعيون المارة هو الأمر الذي لا بديل منه ولا غنى عنه، وهو الذي تنصرف إليه كل الأدلة التي يحتج بها من يتحدثون عن أهمية السكن ومسيس الحاجة إليه أما أن يجعل التملك في ذاته هو الذي يمثل الحاجة الأساسية بحيث لا تندفع الحاجة إلى المسكن إلا من خلاله فليس في أدلة الشرع ولا معطيات الواقع ما يؤيد ذلك بوجه من الوجوه.
وإذا كان أول الخلل في هذا المقام هو الخلط بين مبدأ الاكتنان في ذاته وبين شكل معين من أشكاله، وتنزيل الأدلة الواردة في الأول على الثاني، فلعل أول الرشد هو إزالة هذا الخلط ورفع هذا الالتباس.
وقد وقف الدكتور صلاح الصاوي أيضا عند قضية مهمة وهي نشأة هذه الحاجة التي يتسنى تنزيلها منزلة الضرورات في إباحة المحظورات، ومدى ما تبيحه من المحرمات. حيث يقول: إن الحاجة إلى الحرام لا تنشأ ولا يتصور وجودها ابتداء إلا إذا انعدم البديل المشروع الذي تندفع به هذه الحاجة، كما أن الاضطرار إلى الحرام لا ينشأ ولا يتصور وجوده ابتداء إلا إذا انعدم البديل المشروع الذي تندفع به هذه الضرورة، فإذا عم الحرام في كل ما تندفع به الضرورات أو الحاجات تحققت هذه الحالة وامتهد السبيل إلى مناقشتها. فإذا قلنا مثلا إن الحاجة إلى (مسكن) يؤوي الإنسان ضرورة من ضروراته، ثم نظرنا من حولنا فلم نجد مسكنا إلا من خلال التملك، ولم نجد سبيلا إلى التملك إلا من خلال القروض الربوية، فهنا يصح القول بتحقق حالة الضرورة التي تبيح لصاحبها المحظور ما يلزم لدفعها، وينشأ في هذه الحالة سؤال: إن الضرورة قد تندفع بأدنى المساكن (مكان مغلق يقي من الحر والبرد..) فهل نكتفي بالوقوف عند مرتبة الضروريات في دفع هذه الحاجة، فلا نأخذ من المساكن إلا أدناها لأن الضرورة تقدر بقدرها؟ أم يمكن أن نتوسع قليلا، فننزل إلى مستوى الحاجيات لما يؤدي إليه الوقوف عند مستوى الضروريات من عنت ظاهر ومشقة بالغة، لا سيما إذا عمت الحاجة واتسعت دائرة الضرورة وطال أمدها؟ هنا تأتي وظيفة هذه القاعدة (الحاجات العامة تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات) لتحدث شيئا من التوسعة الضرورية التي يؤدي غيابها إلى سقوط القوى، وانتقاض البنية، وصد الخلائق عن التصرف والتقلب في أمور المعاش. فيقال إنه لا يلزم والحال كذلك أن يقف المضطر عند حدود الضرورة فقط بل يأخذ ما يؤدي تركه إلى التضرر في الحال والمآل من غير ترفه ولا تنعم ولا خروج عن حد الحاجة إعمالا لهذه القاعدة، وهذا هو الذي ناقشه إمام الحرمين الجويني في كتابه (الغياثي 476- 488) وفصل القول فيه في تحقيق نفيس لم يسبق إلى مثله، ثم جاء بعده من أساء قراءته أو أخطأ تأويله.
وبعد عرضه لأقوال الإمام الجويني استخرج الدكتور الصاوي بعض الضوابط التي وضعها الإمام بخصوص المسكن وهي:
-أن يعم التحريم طبق الأرض، وتنحسم الطرق إلى الحلال، وإلا تعين احتمال الكَلِّ في كسب ما يحل.
-أن لا يجد الناس متحولا عن ديارهم إلى مواضع مباحة.
-أن لا يتمكنوا من إحياء موات وإنشاء مساكن أخرى.
-أن لا يتمكنوا من الانتقال إلى مواضع أخرى.
-الاكتفاء بمقدار الحاجة وتحريم ما يتعلق بالترفه والتنعم.
بعد هذه الوقفة ينتقل الدكتور الصاوي ليقف وقفة أخرى حول الخلط بين مرتبة الحاجيات ومرتبة التحسينات في سلم تحقيق المصالح، حيث يقول: إن مفهوم الحاجةوفقا لاصطلاح الأصوليين وكما سبقت الإشارة إليه في كلام الجويني هو ما يؤدي فواته إلى الحرج والمشقة، وهي كما يقول الشاطبي: “ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة” (الموافقات: 2/4-5).
ويمكن أن يمثل لها في حالتنا هذه بشخص كثر عياله وضاق به مسكنه المستأجر واستشعر حرجا في مقامه فيه، ومثل هذه الحاجة هي التي يدور الجدل حول إباحتها للمحرم أو عدم إباحتها له، فمرتبة الحاجيات دون مرتبة الضروريات، لأن الضروري هو ما لا بد منه في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، ويمكن أن يمثل لها في حالتنا هذه بشخص غلقت أمامه أبواب الاستئجار وأبواب القرض الحسن، وتقاصرت إمكاناته عن الشراء الحال وأصبح عرضة لأن يهيم على وجهه بلا مأوى، فمثل هذا هو الذي تنطبق عليه حالة الضرورة التي اتفق أهل العلم على أنها تبيح من المحظور ما يلزم لدفعها.
ومما سبق يتأكد أن الحاجة المقصودة في هذا المقام لا يقصد بها بطبيعة الحال مجرد الترفه أو التنعم أو محض التوسع والاستزادة في الملذات فذلك أليق بمرتبة التحسينات التي عرفها الشاطبي بقوله: “الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات” (الموافقات: 2/5).
ويمكن أن يمثل لها في نازلتنا هذه بتاجر يريد أن يقترض بالربا توسعا في تجارته، وتشوقا لمزيد من الربح، أو شاب في مقتبل عمره لم يتزوج بعد، أو حديث عهد بزواج وله دخل مناسب، ويريد أن يتملك مسكنا بدلا من الاستئجار، لأن هذا أحظى له وأنمى لأمواله، ولا يخفى أن أحدا من أهل العلم لم يقل بتنزيل التحسينات منزلة الضرورات في إباحة المخطورات. وبالتالي، فإن ما ذكره المؤتمر من مزايا ومنافع التملك الربوي للبيوت لا يصلح وحده مبررا للترخص، إلا إذا أضيفت إلى ذلك حاجة ماسة تخرج الأمر من نطاق التحسينات إلى نطاق الحاجيات على أدنى تقدير حتى يتمهد سبيل للنظر إلى هذا الاجتهاد باعتباره اجتهادا معتبرا يقف مع الاجتهاد الآخر الذي عليه جمهور أهل العلم من القول بضرورة توافر حالة الضرورة حتى يتسنى الترخص في ربا النسيئة التي اتفقت الأمة كلها على تحريمه تحريم مقاصد وليس تحريم ذرائع !ويكون لصاحب النازلة أن يستفتي قلبه أو من شاء من أهل العلم حتى يرجح له بينهما.
إن التعميم الذي صيغ به قرارا المؤتمرين والذي يفهم من ملابساتهما وحيثياتهما، مما يحتاج إلى تأمل ومراجعة دقيقة، لأنه بتوسعه يشمل المرتبتين معا: الحاجيات والتحسينات، ويفتح الباب أمام تداعيات لا يقول بها السادة الأجلاء أصحاب هذه الفتوى.
إعداد : ذ. عمر داود