مدخل
يقول الله عز وجل: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} نداء للمؤمنين خاصة بأن نصر الله لن يتحقق إلا إذا حققنا نحن : الشرط {إن تنصروا} وهي التي نريد بإذن الله تحقيقها ونسعى إليها وأما جواب الشرط {ينصركم} فلله عز وجل الإرادة الكاملة في أن ينصرنا كيف ما يشاء ووقتما يشاء. وقبل أن نحققها – أي نصر الله – لنكن أولا في زمرة المؤمنين لأنهم هم المعنيون بهذا النداء. والمؤمنون كما عرفهم الله عز وجل هم إخوة {إنما المؤمنون إخوة…} ولكي نكون إخوة مؤمنين يجب أن يتوفر فينا شرط واحد ووحيد:
-أن ننفع الناس (المؤمنين وغيرهم) بما عندنا من خير ومن موقعنا.
وكي ننفعهم ونجلب لهم الخير يجب أن نعرف موقعنا ونكون فاعلين منه. وكلمتي ستكون بإذن الله عن هذه الأخيرة: ما هو موقعنا – و كيف نكون فاعلين منه؟
-موقعنا كما نعلم – ونطلب من الله عز وجل أن يجعل حقا كذلك – أننا أصحاب عقيدة سليمة صالحة مصلحة إن وجدت السواعد القوية والهمم العالية والقلوب الواعية لحملها.
العقيدة السليمة نور الله في قلب المؤمن
قنديلنا بإذن الله ستكون هي آية النور من سورة النور:
{الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم}(النور: 35).
بدأ المولى عز وجل بنوره وأنه هادي السماوات والأرض من فيهن يحفظهن ويدبر أمرهن بنوره وهداه.
ثم يقول جل وعلا: {مثل نوره…} يقول المفسرون إنه نور الإيمان والقرآن في صدر المؤمن: فهو منور القلب بل هو نور كله.
فالمؤمن يتقلب في خمسة أنواع من النور: فكلامه نور، و عمله نور مدخله نور مخرجهنور ومصيره إلى نور يوم القيامة إلى الجنة كما قال أبي بن كعب.
والآية الكريمة تتحدث عن النور الذي هو كالمشكاة التي فيها مصباح والمصباح في زجاجة… أوعية يقع فيها نور الله عز وجل، ويمكن اعتبار الوعاء الذي يقذف فيه نور الله أي نور عقيدته هو قلب المؤمن والقلوب كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة: عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (>القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر وقلب أغلف مربوط على غلافه وقلب منكوس وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نور. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر. أما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق. ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه<.
وإذا كان نور الله أي عقيدته ثابتة لا تتغير أبدا علينا أن نعرف أولا ما هي وكيف نأخذها حتى تتنور قلوبنا بها بإذن الله.
تعريف العقيدة
العقيدة هي التصديق بالشيء والجزم به دون شك أو ريبة وهي بمعنى الإيمان:
أما مفهومها شرعا فينتظم ستة أمور: (أركان الإيمان)
- المعرفة بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
- المعرفة بما وراء الطبيعة: ملائكة وجن.
- المعرفة بكتب الله التي أنزلها لتحديد معالم الحق والباطل.
- المعرفة بأنبياء الله ورسله دون تمييز.
- الإيمان بالقدر خيره وشره - الإيمان باليوم الآخر.
العقيدة السليمة والسلوك
لنرجع إلى الآية الكريمة من سورة النور: {الله نور السماوات والأرض…. يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار…}
والزيت كما في الآية الكريمة جاء من الشجرة المباركة لا شرقية ولا غربية، وقد توسع بعض المفسرين في هذه (لا شرقية ولا غربية) أنها في وسط صحراء فلاة لا تميل عنها الشمس لا شروقا ولا غروبا، دائما تحت الشمس فيأتي زيتها كأجود وأصفى ما يكون.
فهكذا هو نور المؤمن وعقيدته من عند الله صافية خارجة عن قوانين الزمان والمكان، تعبر عن نفيسها إذا سكنت قلبه {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} فالمؤمن كالشمس تضيء وهي مضيئة في نفيسها وكالمسك يطيب غيره وهو طيب: { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}(الأنعام: 122).
هذا هو حال المؤمن دون أن تنقدح زيته {ولو لم تمسسه نار…} فكيف إذا ترجم عقيدته وإيمانه إلى عمل ظاهر وسعى في الأرض بأمر الله؟ ونشر نوره بين الخلائق فهو يساعد هذا، ويأخذ بيد هذا ويغفر لذاك ويدعو ذاك؟ ماذا لو تفجر نوره سلوكا طيبا وخلقا مباركا كمثل شجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟
>وإذا كان المؤمن أو الإنسان عامة يختار هل تكون له عقيدة أولا تكون فإنه على العكس لا يختار هل تظهر عقيدته سلوكا وأعمالا فالعقيدة إن وجدت فلا مناص من أن تظهر عملا صالحا.
> وأما ارتباط أركان الإيمان بالسلوك فيكفي أن نذكر ما تفعله صفات الله وأسماؤه الحسنى فقط في نفس المؤمن وباقي الأركان لا نذكرها تجنبا للإطالة:
فمن آمن بأن الله عز وجل متصف بالكمال وبأنه موجود لا أول له ولا نهاية وأنه غني مطلقا عن كل ما سواه والكل محتاج إليه. فقط من هذه الصفات تطمئن النفس وتشع نورا و صفاء.
كيف؟
-لأن النفس على ما فيها من ضعف فهي مربوبة لرب قوي جبار قادر. وعلى ما فيها من نقص: فقد خلقها إنه كامل.
وعلى ما فيها من عجز فلها سند دائم لا ينقطع.
ومن آمن بالله وحده لا شريك له فهو لا يعبد أحدا سواه
وبأنه هو وحده العليم بكل شيء، فلا يعرض مشاكله إلا عليه
وبأنه هو وحده القادر على كل شيء، فلا يستغيث ولا يستعين إلا به.
وبأنه هو وحده الرحمان الرحيم بكل شيء، فلا يرجو ولا يقصد في كل أموره إلا إياه
وبأنه هو وحده الرقيب والحسيب على كل شيء، فلا يعد الجواب إلا له وحده.
فالمؤمن من الله وبالله وإلى الله وهذا هو التوحيد في القصد والوسيلة والمآل.
نظرة في واقعنا العقدي
بنظرة سريعة لابد وأن نطرح السؤال: (لم لا يشع نورنا على أنفسنا وعلى غيرنا؟ لم لسنا أنوارا تمشي كما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألسنا إخوانه صلى الله عليه وسلم : آمنا به ولم نره؟ ألسنا ممن بشر الله عز وجل بهم الملائكة حين قال: {إني أعلم ما لا تعلمون}؟
أين الخلل إذن؟
ربما قد يكون الخلل في العقيدة، ليس السؤال: موجودة أو لا ولكن: مشوبة أم خالصة؟
والشائبة الأولى هي الهوى: فبقدر حظ الهوى في القلب بقدر ما تضعف العقيدة وتخفت جذوتها، والله عز وجل لم يطلب شيئا من المؤمنين إلا خلوص دينهم وخلوه من حظ النفس: {وما أمروا إلا ليعبدوا ا لله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة وذلك دين القيمة} فالدين القيم الفاعل المغير لا يمكن أن يكون إلا خالصا لله. وباختصار الإيمان الخالص الخالي من الهوى هو فقط المقبول في ميزان الله عز وجل >أنا أغنى الشركاء عن الشرك…<.
فالله غني وبقدر ما هو غني عنا بقدر ما نحن فقرا له.
فاللهم اجعلنا نقدر غناك حق قدره وفقرنا حق قدره آمين. ولكن يبقى السؤال: كيف يخلص الدين؟
لنرجع إلى الآية الكريمة: {وما أمروا… ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة…} فالصلاة في بداية الأمر تكون قهرا للنفس عن حظها في “الراحة”: {مر أهلك بالصلاة واصطبر عليها…} اصطبر.. اصطبر… حتى تكون… {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يعلمون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون…} فقط في عبادة الصلاة يحصل لديك ارتقاء، ارتقاء حتى تفلح {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون}، إذن ارتقاء في الإيمان بسبب الارتقاء في الصلاة ثم لا يبقى للارتقاء إلا أن يفيض عملا وأوله {عن اللغو معرضون} كل اللغو وكل الفضول، ويشتغل بالذي ينفع الناس لا يرض إلا بقول الشاعر:
كن رجلا إن أتوا بعده
يقولون مر وهذا الأثر
وحتى نخرج بنقط عملية لمعالجة شوائب العقيدة والتي تنحصر في الهوى أي تفضيل حظ النفس وما يدور في فلكها على أمر الله.
فالداء إذن هو الهوى، والدواء هو المجاهدة وقهر النفس.
والطريقة هي العبادة الخالصة خصوصا: الصلاة ثم الصلاة ثم الصلاة.
وربما كانت العقيدة خالصة ولكن مأخوذة بضعف أو وهن أي: موجودة في القلب ولكن تزاحمها أشياء أشياء…. فالقلب المضغة هو ملك الجوارح و بمنطق “فوق كل ذي ملك ملك”، فملك ملك الجوارح هو الإيمان والملك لا يرض إلا التربع على العرش لا يكون إلا وسط قصر وقصر الإيمان وعرشه هو القلب.
فإيماننا هل هو وسط قلوبنا أم لا زال يحوم حولها ولم يسكن فيهابعد؟
{قالت الأعراب آمنا، قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} لماذا يدخل؟ لأن القلب مملوء بشيء آخر، ونفسك -كما تعلم- إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، فهي لا تعرف الحياد ولا الفراغ، فإما حياة بالإيمان واشتغال به وإما موت وبوار، فالله عز وجل حسم الأمر مع الأعراب ورد عليهم: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}. إيمان بيقين وعمل بصدق وإخلاص ومنه استمرار الاستقامة بعد أن يوجد ابتداءا في القلب الاعتراف بربنا الله {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا} فاستمرارية الاستقامة لا يضمنها إلا قولنا: ربنا الله، ولكن كيف نقولها يوميا: بالصلاة أولا ثم بالرجوع إلى الله كل حين بالدعاء و التوبة ثانيا وبقراءة القرآن ثالثا.
وبخصوص قراءةالقرآن ففيها أنواع وأشكال: فإما أن نكون أحياء القلب والجوارح ونقرأ القرآن فنزداد حياة على حياتنا ونورا على نورنا {نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء}.
وإما أن يقرؤه علينا لساننا ونحن أموات لا ينقصنا إلا الكفن والحنوط.
إذن اقرأ القرآن بحياة يهب لك رب الحياة حياة ولا تقرأه بموات فيزيدك موتا على موت. أعاذنا الله وإياكم من موت القلوب.
مريم الضعيف