نتائج البحث
ولعل أهم ما حققته هذه الدراسة أنها:
1 ـ جربت المنهج الوصفي في دراسة المصطلح النقدي العربي الحديث.
2 ـ أثارت مشكلة المصطلح النقدي العربي الحديث وأثرها في فهم واستيعاب مقولات النقد العربي الحديث وتداعيات ذلك على تواصل النقاد والمهتمين.
3 ـ بينت أهمية المنهج الوصفي في الدراسة المصطلحية، وأكدت على أولويته في الاستعمال.
4 ـ رصدت وضبطت حجم المصطلح النقدي في تراث العقاد الأدبي، باستيعاب وحصر المواد ومستعملاتها الاصطلاحية عن طريق الإحصاء الذي يعتمد على الاستقراء التام.
5 ـ وضعت فهرسا لجميع مواد المصطلح ومستعملاتها، باعتماد التصنيف الاشتقاقي.
6 ـ تعرفت على التصور النقدي القابع وراء الجهاز المصطلحي الذي استعمله العقاد، من خلال دراسة مصطلح الشعر ومشتقاته باعتباره عمود نقده، فقد شغل طوال حياته الأدبية الخصبة، في دراساته ومقالاته وبحوثه الكثيرة بلون واحد من ألوان النقد الأدبي هو نقد الشعر، فلم يكن يعنى بتحليل شيء من تلك الأعمال القصصية والمسرحية التي كانت تموج بها البيئة الأدبية في مصر على أيامه موجا، إذا استثنينا هذا القليل الذي كتبه حول مسرح شوقي، بعنوان “قمبيز في الميزان”. فالدارس لنقده يجد أن معظمه قد انصب على الشعر باعتباره آصل أجناس الأدب العربي وأعرقها. ومن ثم فقد أمكننا أن نتقرب من هذا التصور من جهتين:
أ ـ جهة التنظير: حيث يبدو أنه أسس تصوره للشعر على أساسين: صدق الحس، والتمكن من ترجمته ونقله. والملاحظ أن هذا الإدراك الجديد والمتميز لمفهوم الشعر، لا يستند إلى التعريفات العربية السابقة، ولا إلى التعريفات الأوربية المستحدثة فقط، ولكنه مفهوم يحتوي المفهومين ويقترح تطورا سيراه كفيلا بإنتاج الشعر الحقيقي، وبعث الشاعر الحقيقي. وبذلك فقد رجع العقاد بالشعر إلى صميم التجربة والانفعال الذي يعانيه الشاعر مع الحياة. والبحث في ظواهر الوجود كما يحسها وينفذ إليها من خلال حدسه وتفكيره. وانطلق من النفس الشاعرة للتعبير عن لواعجها وما يعتمل بداخلها كما انطلق من الفكر الواعي في تأملاته وخطراته. فقال:>فما ظنك بالشعر وهو خطرات ضمائر وخوالج شعور وشجون ترجع إلى الإحساس المحض أو إلى الكلام والأنغام؟ كيف تضبط فوائده وقتا لوقت وساعة بعد ساعة<.(1).
في ضوء هذا الاقتناع تتبدى النزعة الوجدانية المسرفة في الذاتية والغنائية تتماهى مع النزعة العقلية التي تجد لذتها في المغامرة والشك والاستبطان الذاتي، ليكونا معا لحاما تتكامل فيه مقوماتهما، ولا يصير ذلك إلى منتهاه إلا بصدق التجربة وترجمة الشخصية بعيدا عن المحاكاة والتقليد وانسجاما مع واقع الطبيعة والحياة.
وعليه فعناصر مفهوم الشعر عنده تكمن في الآتي:
1 ـ التعبير عن الوجدان والفكر.
2 ـ الصدق من التجربة الشعرية والترجمة عن النفس والسريرة.
3 ـ الاستقلال في الشخصية.
4 ـ البعد عن التقليد ومحاكاة الآخرين.
5 ـ اللجوء إلى الطبيعة والحياة.
ب ـ وجهة التطبيق: حيث اتسع مفهوم الشعر عنده بما صوره وعكسه في شعره من موضوعات لم يكن الشعر السابق عليه يضمها.
وعلى العموم يمكن أن نقرر بأن العقاد في شعره كان صدى لصوته النقدي في أغلب الأحيان، مع الفارق في القوة بين الصوت والصدى.
7 ـ اقتربت من اللغة الاصطلاحية التي استعملها العقاد عبر شرح وتعريف مجموعة من المصطلحات.
8 ـ كشفت عن مجموعة من المفاهيم الجديدة في نقد العقاد ك: “الشخصية” و”العصرية” و”الوجدان” و”الجمال” و”التجديد” و”الطبيعة الفنية” …وغيرها.
9 ـ عرفت بالجهود التي بذلها للاستفادة من الجهاز المصطلحي الذي وظفه في نقده، وذلك ببيان طبيعته .
10 ـ كشفت عن أصول المصطلح النقدي عنده وقد ظهر غلبة الأصول العربية على معظم ألفاظه النقدية.
11 ـ أبرزت اتجاه العقاد في وضع المصطلح، ومن خلاله اتضح التزامه بالمصطلح التراثي، وتغليب الوضع على النقل في تنمية اللغة الاصطلاحية، وتفضيل الترجمة على التعريب في قبوله المصطلح الوافد.
12 ـ رصدت مشكلة التعدد الدلالي للمصطلح في بعض المفاهيم.
13 ـ أثبتت تميز العقاد بجهاز اصطلاحي نقدي خاص به يستمد حضوره من تكوينه الغني بتعدد المعارف والاهتمامات..
14 ـ أوضحت بساطة ووضوح المصطلح النقدي المدروس في كثير من الأحيان إلى حد بسط المفهوم عاريا من المصطلح.
15 ـ محصت قوة اصطلاحية بعض المصطلحات المدروسة وأبانت عن ضعف أخرى.
16 ـ ساهمت في الإقناع بجدوى الدراسة المصطلحية في تعميق النظر في نقد العقاد الشعري وأنبهت على قدرتها في توضيح رؤيته بأبعادها الكبرى: الإنسان واللغة والزمان والمكان في اتجاهاتها الثلاث: الإبداع والمبدع والمتلقي.
ذلكم بعض ما أحسب أن هذه المحاولة قد أنجزته، وأعترف جازما أنه ليس ما كان طموح هذه المغامرة، ولا منى هذه الرحلة ، ولكنه الطبع البشري المحكوم بالضعف، والمجبول على النقص. وهو أيضا الوقت الذي ضغط بوطأته فحول المتعة إلى فزعة، فانثالت على النفس أعراض الملل وسرت في الذهن نوبات الكلل مما أثر على مردود العمل. فصار إلى ما صار إليه.
صعـوبات البحث
لست أريد أن أتحدث عن صعوبات هذا العمل، فأنا مؤمن بأنه ـ وحده ـ كفيل بتقديم نفسه إلى القارئ، فالاشتغال على متن غزير كهذا التراث ودراسة الكتابة الأدبية لشخصية علمية كبيرة كالعقاد، يحيل البحث كله إلى مغامرة. أما إذا أضيف إلى كل ذلك بحث المصطلح في هذه الكتابة وعلى امتداد ذلك المتن، فلا شك أن هذه المغامرة تفقد نسبا كبيرة في النجاة.
وإذا كنت مستعرضا بعض حزون هذا الطريق ـ على كثرتها ـ فلا بد أن أذكر الآتي:
1 ـ صعوبة حصر متن الدراسة: حيث تعذر علي الإحاطة بكل التراث الأدبي الذي أنتجه العقاد، رغم ما تم جمعه. ويعود ذلك إلى الأسباب الآتية:
أ ـ تداخل الإنتاج الأدبي والإنتاج الفكري في تراثه: حيث توجد مجموعة من المقالات والمباحث الأدبية في كثير من كتبه الفكرية والدينية. كما هو الحال في:”إبليس”، و”قيم ومعايير”، و”اليوميات”، و”ردود وحدود”، و”جوائز الأدب العالمية مثل جائزة نوبل”، و”مواقف وقضايا”، و”عبقرية عمر”، وغيرها.
ب ـ فقدان بعض كتبه: مثل كتاب “على الأثير”.
2 ـ صعوبة التأريخ: وذلك لعدم اطراد وضع تاريخ كتابة مقالاته في العديد من كتبه علما بأن أكثرها متعدد الموضوعات كما هو الحال في: “الفصول”، و”مراجعات في الآداب والفنون”، و”يسألونك”، و”بين الكتب والناس”، و”أشتات مجتمعات في اللغة والأدب”، و”دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية”، و”فنون وشجون”، وغيرها.
3 ـ صعوبة الدراسة: وتعود إلى الأسباب التالية:
أ ـ ضعف التوثيق: فمتن تراث العقاد المدروس مليء بنصوص غيره، لكنها غير موثقة، يتساوى في ذلك النصوص الإبداعية والنصوص العلمية. فهي بذلك في حاجة إلى تحقيق.
ب ـ تكرار النصوص: هناك مجموعة من النصوص ليست بالقليلة تتكرر في مواطن مختلفة من المتن المدروس تحدث تشويشا كبيرا على توظيفها واعتمادها.
كل هذا يوضح أن تراث العقاد الأدبي غير معد الإعداد العلمي اللازم لإقامة الدراسة المصطلحية عليه.
ج ـ غياب التأريخ في مجموعة من المقالات: كما أسلفت هذه الصعوبة أعجزتني عن ترتيب متن العقاد تاريخيا، ومن ثم حرمتني توظيف المنهج التاريخي الذي كان أملي أن يمد في نفَس هذه الدراسة، ويزيد في إغناء نتائجها.
وإذا كانت كل هذه الصعوبات قد حالت دون تحقيق ما طمحت إليه الدراسة في منطلقها، فأملي أن يهيء الله عز وجل الأسباب مستقبلا لتذليلها ومعاودة النظر في العمل بغية تطويره واستدراك ما فاته. وحسبي أنني بذلت فيه من الجهد ما وفقت إليه، وسعيت إلى أن أجعل منه جدًّا لا هزل فيه، وأخلصت فيه للبحث والعلم ما وسعني الإخلاص ولسان حالي يردد قول أبي الطيب:
ولـم أر في عيوب النـاس عيبـا
كنقـص القادريـن علـى التمـام (2).
وإذا كنت قد حصلت من هذا العمل على شيء، فإني اكتشفت أن رحاب العلم شامخة عالية، وقطوفه قاصية، والتجرد له حلية غالية. وأن الهازل فيه بائر المسعى، وأن الصابر فيه بالغ المنى..وليس كل ذلك إلا بتوفيق العليم الخبير جل وعلا.
وإذا كان من كمال الفضل شكر ذويه، فالفضل كل الفضل في إنجاز هذا البحث ـ بعد الله عز وجل ـ يرجع إلى أستاذي المشرف فضيلة الدكتور الشاهد البوشيخي الذي تعهدني بالرعاية العلمية، ونشّأني على الدراسة المصطلحية بعدما كنت منها في حكم العماء، فحباني المولى ـ سبحانه ـ بإشرافه في مناسبتين؛ أولاهما في إشرافه الأول على رسالة دبلوم الدراسات العليا، في موضوع:”المصطلح النقدي في كتاب “البرهان في وجوه البيان” لابن وهب الكاتب”، وثانيهما في هذا البحث بالذات. ولا أقصد إلى المجاملة في شيء حين أعلن أني لمست فيه صدق الأصفياء، وتواضع العلماء، ودقة الجهابذة الخبراء..
فوالله إني، لمحظوظ بمعرفته، فخور بالتتلمذ على يديه، مزهو بشرف الانتساب إلى معهده(3) فالله أسأل أن يبارك في عمره، وأن يديم عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وأن يزيده من فضله، ويمتعه بالصحة والعافية، حتى يبقى ـ جزاه الله خير الجزاء ـ ملاذا للعلم والعلماء، وقبلة للتوجيه والاهتداء..
ويقول في الختام:لا يفوتني في هذه المناسبة المباركة أن أتقدم بخالص شكري، وعظيم امتناني إلى أساتذتي الفضلاء أعضاء اللجنة العلمية المحترمين: الدكتور حسن الأمراني، والدكتور عبد الرحيم الرحموني، والدكتور محمد علي الرباوي، والدكتور فريد الأنصاري، على ما أحاطوني به من كرم العناية، وفضل الاهتمام، فقبلوا قراءة هذا العمل، وتقويم صاحبه بما يخدم المصلحة العلمية، والبحث الجاد..وأدعو الله عز وجل أن يحتسب هذا الجهد وما استلزمه من مشقة ومعاناة في ميزان حسناتهم، وأن يبارك في علمهم وعملهم ويزيدهم علما..آمين.
د. عبد الحفيظ الهاشمي
——-
1- “ساعات بين الكتب” _ ص:182
2- البيت من قصيدة مطلعها
مَلومكما يَجِلّ عن المَلامِ
ووَقُع فِعالِه فَوُقَ الكَلامِ
( ن:شرح ديوان المتنبي”، عبد الرحمن البرقوقي، ج/4 ص:275 )
3- أقصد معهد الدراسات المصطلحية بكلية الآداب، ظهر المهراز، جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس