رفع النبوة إلى درجة الألوهية إفساد للدين والعقيدة
لا زلنا مع الحجة التي ساقها المشركون بين يدي رفضهم دعوة الأنبياء وذلك قولهم :{ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا}.
والله تعالى قد ذكر مقولتهم وسفهها لأنها تستند إلى اعتقاد قديم يرى أن الأنبياء يليق بهم أن يكونوا من فصيلة أخرى و من نوع آخر، وأن يكونوا متميزين على البشر، ويكونوا منزهين عن كل ما يتصف به البشر، هذه العقيدة الفاسدة ظهرت في الشعوب القديمة عند شعوب كثيرة بدائية انحرفت عن العقيدة الصحيحة وظهر هذا متجليا عند المسيحيين خصوصا بعد أن حرف اليهود الديانة النصرانية وهجموا عليها بالوثنية، وأفسدوها، ومع أن اليهود في أصل عقيدتهم يؤمنون بتوحيد الله عز وجل، إلا أنهم قد انحرفوا عن عقيدتهم وبثوا الوثنية وشجعوا عليها، وقد كان بولس الرسول كما يسمونه هو الزعيم القائم بهذه المحاولة، وقد قالت كتب تاريخ الأديان أن الأحبار اليهود شجعوا بولس على أن يقول أن عيسى ولد الله، مع أن هذا ليس من دينهم، وقد قال الأحبار لبولس قُم بهذا ونحن نتحمل عنك وزْرك، أي الوِزْر الذي ينالك من إفساد العقيدة. المهم أن تفسد المسيحية وأن تتخبط التخبط المعروف عبر تاريخ المسيحية كلها. ثم إن هذا المرض تسرب إلى شعوب كثيرة، ثم تسرب إلى كثير من المسلمين حينما أضاعوا العقيدة و أفسدوها، فالمسلمون أصبحت لهم قابلية واستعداد لتقبل الأفكار التي ترتفع بالبشر عن مستوى الإنسان لتلحقه بدرجة الألوهية، وما يقوم به أتباع أحمد خان من دعوة رفع محمد صلى الله عليه وسلم من درجة البشر إلى درجة أعلى من البشر خيردليل على هذا، وهم يرون بذلك أنهم يمجدونه ويعظمونه، والحقيقة أنهم بذلك يفسدون هذا الدين. أهم ما جاء به هذا الدين رسم الحدود والمجالات بين الألوهية والبشرية، و يبقى مجال الألوهية مجالا نظيفا ويبقى البشر بشرا مهما بلغ من درجة السمو والرفعة، هذه المقولة عبّر الله سبحانه وتعالى عنها بقوله حاكياً قول المشركين : {مال هذا الرسول ياكل الطعام ويمشي في الأسواق}(سورة الفرقان).
عظمة الرسول في بشريته القدوة
حينما رأوا محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى التوحيد. قالوا إن هذا لا يصلح أن يكون رسولا لأنه ياكل الطعام ويمشي في الأسواق، فمشيه في الأسواق بمعنى أنه متواضع ككل البشر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي فعلا في الأسواق ويداخل الناس ويعايشهم ويمضي معهم في حياتهم، ويشتري كما يشتري الناس، ويحمل ما اشتراه بنفسه، ذات مرة أراد بعض الصحابة أن يحمل عنه ما اشتراه فقال لهم : أنا أولى بحملها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغشى الأسواق مرات ومرات ويتجول فيها وينصح ويعظ ويقوم بواجب الحسبة فيصحّح السلوك. هذا أمر لم يقبله المشركون وقالوا إن هذا الإنسان لا يستحق أن يكون رسولا لأنه ياكل الطعام ويمشي في الأسواق، وهذا الأمر ما كان الرسول ليننزه عنه ولا ليخفيه لماذا؟ لأن الشريعة الإسلامية جعلت من أهم الفرائض تأكِيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما هو بشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب أن يوصف بأنه فوق البشر والقرآن سجل له أنه بشر {قُلْ سُبْحَان ربّي هلْ كُنْتُ إلا بشرا رسولا}(سورة الإسراء).
كان الرسول صلى الله عليه وسلم صارما مع الذين
يرفعونه فوق قدره
كان النبي صلى الله عليه وسلم متمسكا بهذا الأصل وهذا الوصف الذي هو وصف البشرية وكلما رأى بعض الناس يرفعه فوق قدره كان يوقفه ويكبت جماحه لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى مزالق خطيرة. مرة كانت بعض الجواري ينشرن شعرا يذكرن فيه أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقبه قالت امراة منهن: >وفِينا رسول الله يَعْلَمُ ما في غَدٍ< فقال يا أمة الله دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين. لكن البشر من غير الرسل إذا قيل لهم تعلمون ما في الغد يُسَرّون ويفرحون، بذلك قال أحدهم لواحد يعتقد فيه الخير.
إنك رجل فاضل وإنك وإنك تعلم العيب وأنك تكشف عن الناس وتعلم خباياهم و تعلم ما في قلوبهم، وتعلم ما سينالهم، فاستبشر ذلك الإنسان واطمأن بهذا الكلام، فهذه بداية الدخول في عالم الشرك وهذا بداية تَأْلِيه الإنسان.
فالإنسان إنسان، والبشر بشر، يجب أن يبقى في مكانه حتى تبقى هذه العقيدة عقيدة صافية سليمة.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم منع كل السلوكات التي تؤدي إلى رفع البشر فوق دائرة البشر، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطى المثال من نفسه فمنعهم بأن يرفعوه فوق درجة البشرية وهو نبي وهو خير خلق الله ومع ذلك فهو بشر، وهو متواضع. لهذا السبب كانت التشريعات الإسلامية تصب كلها في هذا الاتجاه حتى لا ينحرف الناس، ولكن الناس مع ذلك قد زاغوا، وقالوا بنظريات غريبة جدا ربما استندوا إلى أحاديث ضعيفة، أو إلى التأويل الفاسد وانتهوا إلى أخطاء كثيرة منها قولهم بالحقيقة المحمدية، وهذه الكلمة شائعة عند كثير من الكتاب وكثير من القدماء وكثير من المحدثين وهم يستندون إلى حديث ليس بالقوى.
لا أصل لما يفعله المسلمون في المولد النبوي من رفع النبيّ إلى مرتبة الألوهية، ولا أصل لما يُفعل في المآتم
ويقولون استناداً إلى الأحاديث الضعيفة : “لولا محمد لما خلق الله الجنة والنار، والشمس والقمر< يُسمع مثل هذا الكلام في المولودية.
إن هذا الكلام لا أصل له، وفيه نوع من الغلو والمبالغة لا يتطابق مع العقيدة الإسلامية.
لقد نهى الفقهاء وعلماء المسلمين أن يُرْفع الرجل فوق مكانته نهوا أن يؤذّن على المنابر بموت فلان. إذا مات فلان يُعْلَم به أقرباؤه، ولكن لا يُجْعَل ذلك مهرجاناً ويُجْمَع الناس، لأن ذلك يؤدي إلى الكذب والنفاق، كما تعلمون في سائر المآتم، كلما مات إنسان وأقيمت له حفلة لتكريمه، أو حفلة أربعينية ينطلق بعض المادحين في ذكر مناقبه.
هذا يأتي بقصيدة، وهذا بكلمة، ويكثر الكذب ولكن الناس يتسامحون في هذا الباب ويطلقون لأنفسهم العنان في هذه المناسبات، وكثيرٌ من الكلام يكون كذباً وهذه هي الكارثة العظمى، ومن هذا أيضا أن تُجَسّم صور الزعماء والقادة هذا نهى الإسلام عنه نهيا باتّا أنه لا يجوز نصب تمثال مجسم لأي إنسان، لا تنجز للإنسان صورة ذات ظل، الإسلام لا يسمح بهذا لأن هذا يؤدي مع مرور الزمن إلى تقديسهم وتأليههم.
ذكر بعض الذي زاروا قبر لينين في مدة نشاط الشيوعية وارتفاع شأنها من الصحافيين العرب حيث ذكروا أنهم رأوا الناس يقفون أمام قبر لينين طوابير طويلة وينتظرون دورهم ليزوروه، وقد كانوا يخشعون كما لو كانوا يزورون قبرامن قبور الأنبياء، وما زال قبر لينين يومئذ يكلف الاتحاد السوفياتي نفقة طائلة من أجل الحفاظ عليه، هذا كله الإسلام لا يؤمن به ولا يسمح به، فالإنسان الصالح يقام له نوع واحد من التماثيل وهي الأعمال الصالحة التي ينجزها على الأرض، إذا بنى شيئا، أو أنشأ شيئا، أو عَلَّم أو كَوّن أو رفع مُسْتَوَى الأمة، فهذا الواقع كله تمثال يشهد، له أما أن يجمع الحديد والنحاس والمعادن النفيسة وتوضع لصنع تمثال لشخص من الأشخاص فهذا كله يذيب الأمة في شخص معين، وربما مع توالي الأجيال يؤدي هذا إلى فساد العقيدة، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفكره الثاقب إذا رأى أن الأمة توجهت إلى شخص ما بِنظرة إعجاب مبالغ فيه كان ربما يزيله من الساحة أو يزيله من الواجهة لتتوجه الأمة إلى ذاتها.
د. مصطفى بنحمزة