الوقفة الثالثة
إن أدلة الحنفية فيما ذهبوا إليه من جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب لا تخلو من مقال، بل هي عند التحقيق ضعيفة ومتهافتة:
- فحديث مكحول ” لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب” والذي يعد عمدة أدلتهم في هذا المقام رده أهل العلم بالحديث والفقه معا، فقد قال فيه الشافعي: “وما احتج به أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت فلا حجة فيه(1)، وقال الزيلغي: “غريب” أي لا أصل له، وقال فيه النووي: “مرسل ضعيف فلا حجة فيه”(2)، وقال العيني: “هذا حديث غريب ليس له أصل مسند” (3)، وقال ابن قدامة في المغني: “وخبرهم مر سل لا نعرف صحته، و يحتمل أنه أراد النهي عن ذلك. ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع علىتحريمه، بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به”(4).
وعلى فرض ثبوته فإنه يحتمل النهي وذلك كقوله تعالى : {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}(5). قال النووي رحمه الله تعالى: “والجواب عن حديث مكحول أنه مرسل ضعيف فلا حجة فيه، ولو صح لتأولناه على أن معناه لا يباح الربا في دار الحرب جمعا بين الأدلة”(6).
والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، أو يفهم في ضوء الأدلة القاطعة التي تحرم الربا، إذا لا يجوز ترك هذه الأدلة لخبر مجهول لم يرد في كتاب من كتب السنة.
- واستشهادهم بعدم رد النبي صلى الله عليه وسلم لربا العباس إلا يوم فتح مكة، رغم أنه كان مسلما بمكة من قبل، وكان تحريم الربا يوم خيبر، ولم يرد ما كان منه من ربا منذ إسلامه بمكة وقد كانت يومئذ دار حرب إلى أن أصبحت بفتحها دار إسلام، وأن في ذلك دليلا على جواز الربا في دار الحرب، موضع نظر كذلك، بل ضعيف، وأول ما يرد عليه: أنه لو صح هذا التخريج وكان العباس يتعامل بالربا في مكة لأنها كانت دار حرب فكيف يفسرون استمراره على الربا بعد فتح مكة وتحولها إلى دار إسلام منذ السنة الثامنة من الهجرة حتى كانت خطبة الوداع في السنة العاشرة؟ ! إن موقف العباس رضي الله عنه محتمل للعديد من التخريجات نذكر منها:
- أن تكون هذه الحالة واقعة عين خاصة بالعباس وحدها لملابسات أحاطت بإقامته في مكة يومئذ وهي دار كفر، وقد أباح له النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أعظم من ذلك كإظهار الشرك وإعلان الكفر في مكة أمام المشركين.
- أن يكون الحديث عما كان له من ربا قبل ذلك، إذ ليس هناك ما يدل على أن العباس رضي الله عنه قد استمر على الربا بعد إسلامه.
- ولو سلم استمراره عليه فقد لا يكون عالما بالتحريم لإقامته بمكة وبعده عن مهبط الوحي بالمدينة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها يومئذ، وقد أشار إلى هذا التخريج والذي قبله السبكي في تكملته للمجموع شرح المهذب”(7).
- أن يكون الربا الذي كان يتعامل به العباس مع أهل مكة يومـئذ هو ربا الفضل(8). وليس ربا الديون(9) الذي استفاض تحريمه، وتحريم ربا الفضل مما أنشأته السنة ولم يكن تحريمه شائعا معلوما لجميع الصحابة، فقد كان تحريمه يوم خيبر في السنة السابعة من الهجرة، يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه من قوله: “لا ربا في بيع يد بيد، إنما الربا في النسيئة” وبهذا فقد يكون تعامل العباس به في مكة لأنه لم يبلغه تحريمه.
-وربما لأن تحر يم الربا لم يكن قد استقر يومئذ حتى نزل قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مومنين} (البقرة:278) وذلك بعد إسلام ثقيف سنة تسع من الهجرة، أي قبيل حجة الوداع، فكان العباس يتعامل به في مكة من قبل حتى أحكم الله تحريمه يوم نزول هذه الآية الكريمة.
> ومن ناحية أخرى فإنه لم ينقل قط أن الصحابة رضي الله عنهم تعاملوا بالربا بينهم وبين أهل الحرب ولو فهم الصحابة رضي الله عنهم جواز التعامل بالربا مع الحربيين لنقل ذلك عنهم، فدل عدم النقل على عدم دلالة هذا الحديث على الجواز.
> ومما هو جدير بالتأمل في هذا المقام أن الأحناف يعتبرون دلالة العام على أفراده دلالة قطعية ولا يجيزون تخصيصه ابتداء بالدليل الظني كخبر الواحد أو القياس لأن عام القرآن والسنة المتواترة قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، وما كان كذلك لا يصح تخصيصه بالظني ولأن التخصيص عندهم تغيير، ومغير القطعي لا يكون ظنيا، وقد ردوا بهذه القاعدة كثيرا من النصوص الصحيحة والصريحة كردهم ما جاء في حديث فاطمة بنت قيس من أن النبي صلى الله عليه وسلملم يجعل لها سكنى ولا نفقة، و ذلك إعمالا للعموم الوارد في قوله تعالى بشأن المطلقات {أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجْدِكُم}(الطلاق:6) ولسنا هنا بصدد مناقشة هذه القاعدة وبيان أن جمهور أهل العلم على خلافها، ولكن السؤال الذي نطرحه في هذا المقام: لم خالف الأحناف في هذه المسألة مذهبهم في دلالة العام فقبلوا بتخصيص العمومات القاضية بتحريم الربا بأدلة لا ترقى إلى مستوى الاحتجاج بها ثبوتا أو دلالة؟
> أما استشهادهم بأن أموال الحربيين على أصل الحل، فهي مباحة للمسلم بلا عقد فأولى أن تباح بالعقد الفاسد، لأن هذا على رضا منهم ولا يتضمن غدرا بهم، فهو بدوره ضعيف وموضع نظر، ووجه ضعفه ما يلي:
> أنه منقوض بأن الحربي إذا دخل دار الإسلام بأمان فلا يجوز للمسلم أن يعامله بالربا اتفاقا، ولو صح ما ذكروه لكان مطردا في دار الإسلام وفي دار الحرب على حد سواء، فإن قالوا: إنه قد استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام فأصبحت أمواله معصومة وخرجت بذلك عن مقتضىالإباحة الأصلية التي أباحت للمسلم أخذ الزيادة منه في دار الحرب، قلنا: وكذلك الأمر عندما دخل المسلم دارهم بأمان، فإنهم يستفيدون العصمة بذلك وتصبح أموالهم في مواجهة الأموال المعصومة، فإن رفعها الرضا هنا فليرفعها كذلك في دار الإسلام و إلا فهو التناقض الذي لا مهرب منه ! وتفريق الأحناف بين الأمانين: أمان الحربي في دار الإسلام، وأمان المسلم في دار الحرب، حيث يجعل الأول العصمة متبادلة بينه وبين أهل الإسلام، ويقصرها الثاني على عصمة أموال المسلم فقط في مواجهة الحربيين بينما تبقى أموال الحربيين بالنسبة له على أصل الإباحة لا وجه له.
- أنه يلزم من إباحة أموالهم بالاغتنام إباحتها بالعقود الفاسدة، فإن أبضاع نسائهم تباح بالاغتنام ولا تباح بالعقود الفاسدة، وقد نوقش هذا الجواب بالتفريق بين الأبضاع وبين الأموال، فالأبضاع لا تباح إلا بالطريق الخاص، ولا تستباح بالإباحة بخلافالأموال فإنها تستباح بالإباحة أو بطيب أنفس أصحابها.
- أن هذا التعليل – إذا سلمنا بصحته جدلا-قاصر على حالة أخذ المسلم الفضل من الحربي، ولكنه لا يصلح إ ذا عكس الأمر وكان الحربي هو الذي يأخذ الفضل من المسلم، كما هو الحال في هذه النازلة: شراء البيوت عن طريق الاقتراض الربوي من الحربيين.
> أما استدلالهم بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: “أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية”‘ وقولهم إنما وقع في دار الجاهلية من قسمة الميراث فإنه يمضي وإن كان مخالفا لأحكام الإسلام، ويقاس على ذلك المعاملة بالربا، فهو استدلال ضعيف، لأنه يحتمل أن معناه أن ما تم بين المشركين من عقود قبل الإسلام لا تنقض ولا يعرض لها، فيخرج بهذا الاحتمال عن موضوع النزاع، ومما يدل على هذا الاحتمال ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنه: “كل قسم في الجاهلية فهو على ماقسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام” (سنن أبي داود: 2/114).
إذا فهذه جملة أدلة الأحناف على ما ذهبوا إليه، وقد رأينا ما فيها من ضعف، الأمر الذي لا يصح معه تقييد النصوص الجلية القاطعة الواردة في تحريم ربا النسيئة بمثل هذه الاحتمالات الضعيفة. ومن أجل هذا لم تقبل المذاهب المتبوعة رأي الأحناف في هذه المسألة. بل رده كذلك أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله.
الوقفة الرابعة
ما يتضمنه مذهب الأحناف (جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب) من الأحكام واللوازم الفاسدة التي تنقض عرى المحرمات عروة عروة، والتي لا يقول بها من تبنى مذهبهم في هذه النازلة من المعاصرين، من ذلك على سبيل المثال:
>جواز التعامل بالربا مع من أسلموا في دار الحرب ولم يهاجروا شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الحربيين فقد جاء في الدر المختار: “وحكم من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر كحربي، فللمسلم الربا معه خلافا لهم، لأن ما له غير معصوم، فلو هاجر إلينا ثم عاد إليهم فلا ربا اتفاقا” (حاشية ابن عابدين: 5/186)، في بدائع الصنائع للكساني عند حديثه عن شروط جريان الربا (ومنها: أن يكون البدلان متقومين شرعا، وهو أن يكونا مضمونين حقا للعبد، فإن كان أخذهما غير مضمون حقا للعبد لا يجري فيه الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل المسلم دار الحرب، فبايع رجل أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهما بدرهمين أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام، أنه يجوز عند أبي حنيفة، وعنده ما لا يجوز، لأن العصمة وإن كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده) (بدائع الصنائع: 5/192.
فهل يلتزم بذلك من تبنى مذهبهم في هذه النازلة فيحل للمسلمين الوافدين أن يتعاملوا بالربا – إذا كانت الزيادة لهم – وغيره من العقود الفاسدة مع إخوانهم من المسلمين الجدد في هذه المجتمعات؟
> ومن ذلك أيضا ما يتضمنه مذهبهم من جواز تعامل المسلمين الجدد في هذه البلاد بالربا أخذا وإعطاء ما داموا لم يهاجروا، سواء أكان ذلك مع نظائرهم من المسلمين الجدد أم مع بقية الحربيين، وذلك لارتباط العصمة عندهم بالدار ابتداء وقد أشار إلى ذلك ابن عابدين في الحاشية في قوله: “يعلم مما ذكره المصنف مع تعليله أن من أسلما ولم يهاجرا لا يتحقق الربا بينهما أيضا” (حاشية المختار: 5/187). ولا يخفى أن الهجرة لا سبيل إليها في هذه الأيام في الأعم الأغلب فيتدينون طيلة حياتهم بدين لا أثر فيه لحرمة الربا !
> ومن ذلك أيضا ما يتضمنه مذ هبهم (جواز العقود الفاسدة في دار الحرب) من جواز القمار مع الكفار وجواز بيع المحرمات إليهم كالخمر والميتة ولحم الخنزير ما دامت وسيلة للحصول على أموالهم التي هي مباحة في الأصل، فهم لا ينظرون إلى فساد العقد في ذاته وإنما ينظرون إلى كونه وسيلة إلى الحصول على أموال القوم و هي غير معصومة ولا متقومة ابتداء، وما هذه العقود إلا وسائل يسترضيهم بها، ويتجنب من خلالها الوقوع في العذر في حصوله على أموالهم.
فهل يقبل إخواننا المجيزون لهذه النازلة بهذا القول، ويجيزون للمسلم أن يتعامل في بيع المحرمات من الميتة والخمر ولحم الخنزير أو يجيزون له القمار في هذه المجتمعات؟ وهل لقائل أن يقول: إنه إذا أعيد الاعتبار لاجتهادات الأحناف في هذا الباب فلن يمضي عقد من السنين حتى يتم تطبيع الحس الإسلامي وتطويع الضمير الديني للمقيمين في المجتمعات الغربية من المسلمين والمسلمات للتعامل بالربا، والتصالح مع الميسر والتجارة في الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وغيره من سائر المحرمات.
0يرى الدكتور صلاح الصاوي أن القول بمذهب الأحناف في هذه المسألة يؤدي إلى هروب رؤوس الأموال الإسلامية خارج بلاد الإسلام ليستثمرها غير المسلمين، وتبقى بلاد المسلمين في حالة فاقة وضعف اقتصادي، فالأمان الذي توفره البنوك الأجنبية أكبر والعوائد الربوية التي تقدمها لعملائها أكثر، فإذا فتح هذا الباب على مصراعيه فلن تبقى في بلاد المسلمين من فضول أموال أبنائها باقية. وهذا ما جعل الدكتور مصطفى الزرقا يرى أن أبا حنيفة لو كان على قيد الحياة لما أباح هذا التعامل في هذا العصر.
الوقفة السادسة
حول مدى ملاءمة مذهب الأحناف للاستدلال به في هذه النازلة (أي القول بحل شراء البيوت عن طريق القروض الربوية) وقد أورد الدكتور صلاح الصاوي على هذا الأمر عدة ملاحظات نذكر منها :
> الأولى : أن القائلين بالترخص في هذه المعاملة لا يوافقون الأحناف في حكم التعامل بالربا في دار الحرب : فالأحناف يقولون بحله ابتداء في حال السعة والاختيار، والمترخصون، يقولون بحرمته ابتداء أخذا بما عليه الجمهور، ولا يجيزونه إلا للضرورات، أو ما قام مقامها من الحاجات العامة، فافترق السبيلان فتنبه!
>الثانية : أن المسلم في هذه النازلة هو الذي يدفع الفضل للمربي، و ليس هو الذي يأخذه منه، فهو الذي يقترض بالربا من المربي ويدفع القرض أضعافا مضاعفة، فهي إذن عكس الصورة التي أجازها الأحناف واتجهت إليها تخريجاتهم الفقهية، ذلك أن قول الأحناف باطل إنما هو ما كان فيه الفضل للمسلم، والصورة التي معنا على نقيض ذلك، فافترق السبيلان مرة أخرى فتنبه !
ولا يغني في هذا المقام أن يقال: إن مذهب الأحناف جوز ذلك فيما كانت المنفعة فيه للمسلم فإذا انعكست الآية وصار أخذ القرض منهم وإعطاؤهم الربا أوفر للمسلم كما في هذه النازلة وجب أن ينعكس الحكم بناء على أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، لأن مذهب الأحناف في جواز أخذ الزيادة الربوية من المربي معلل بأن أموالهم على أصل الحل، وأن الاستيلاء عليها برضاهم من جنس الاستيلاء على المباحات، فهو حكم مرتبط بتخريجه وعلته، و لا يخفى أن أموالالمسلم بالمسلم بالنسبة للمربي ليست على أصل الحال، بل الأصل فيها الحرمة والعصمة، ومن ثم فلا يصح القياس العكسي في هذا المقام لوجود الفارق فتنبه!
إعداد : ذ. عمر داود
——–
1 -سير الأوزاعي للشافعي: 7/359.
2 -المجموع للنووي: 9/392.
3 -الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/158.
4 -المغني لابن قدامة: 4/46.
5 -البقرة: 196.
6 -المجموع للنووي: 9/392. // 7 -9/392.
8 -ربا الفضل هو بيع النقود بالنقود أو الطعام بالطعام مع الزيادة، وهو محرم بالسنة والإجماع.
9 -ربا الديون أو ربا النسيئة: هو الزيادة المشروطة التي يأخذها الدائن من المدين نظير التأجيل ( النسيئة في اللغة التأجيل والتأخير).