في إحدى الندوات الفكرية المنعقدة مؤخرا بمدينة فاس تحت إشراف جمعية معروفة، تدخلت (إحداهن) تبدو عليها آثار الفرنكفونية معلقةً على مداخلة لأستاذة باحثة من المغرب، أكدت هذه الأستاذة على ضرورة اتخاذ القرآن الكريم مرجعا ساميا في التربية لمواجهة مآزق العولمة. وكان تعقيب (الإحداهن) يتجه نحو “فكرة أن القرآن أضحى متجاوزا ولا يمكن أن يُعتمد قانونا في العصر الحالي”.
وإذا كان رد الأستاذة الباحثة على مثل هذا الكلام الخطير قد شفى واشتفى.. فإن أمثال هذه النفثتات -التي تصاعدت وتيرتها في الأيام الأخيرة- يَدعوني إلى أن أرتب بعض الأوراق وأربط بين الوقائع والدواعي.. حاولت أن أستحضر ظروف تنامي مثل هذه (الفِطريات) في مجتمعنا، وأن أجد خيطا رابطا بينها، وأن أبحث عن علة وجودها.. وتاه بي الفكر بين سجف التاريخ القريب فتراءت لي فلول الماركسية وما كان لها من مدٍّ في الجامعات المغربية.. ولاح لي الاستعمار وجريانه منا مجرى الدم ثم ذلك الوهن الذي استشرى في الذات المسلمة بسبب البعد عن المعين الصافي.. وتلك الأيدي الخفية التي امتدت للعبث بمنابع التدين مع الاستعمار وأذنابه وأوليائه، وما تعاقب من منظومات تربوية مستوردة لم تمجد من الهُوية غير الشعار..
لقد تعددت أدوات الخطاب المعادية للإسلام والممجدة لحداثة وعولمة الاجتثاث، حينما تكالبت قوى الاستكبار العالمي مفتعلة التصادم مع من رفضوا قانون الاحتواء خصوصا أن هذه القوى وجدت في قلب المجتمعات المستهدفة أصواتا نشازا تردد صدى دعواتها؛ وهكذا انتظمت تلك الدعوات في عِقدٍ واحد، فمن دعوة إلى تجاوز القرآن، إلى منع بيع المصحف، إلى التطاول على شخص الرسول صلوات الله عليه، إلى زرع كل عوامل التمييع وبذر ثقافة التطبيع مع المنكر.. إلى غير ذلك من (الفطريات) التيتناسلت يوما بعد يوم لأنها وجدت غطاءً ملائما يفرزها، فإذا تعالت أصوات صادقة للاستنكار اتهِمت بالتطرف أو التحجر أو الظلامية أو الإرهاب الفكري.. وما إلى ذلك من المصطلحات العدائية النضالوية المكشوفة.. لكن أليس من التحجر الفكري أن نجد من نسائنا -وهن المنتميات إلى بلد مسلم- والمسؤولات عن تربية أجيال والمصنفات في سلم التحضر من لم تتدبر القرآن والسنة ولم تطّلِع على حكم شرعي وربما قد لا تملك نسخة من المصحف الشريف.. أو لا تعرف حتى أحكام الوضوء.. تدعو إلى استبعاد القرآن من حياتنا؟!.. إنها لعمري دعوة الجاهل المستكبر الذي ينعق بما لا يفهم ويعجب به.. وإن شر ما ابتلينا به بعض النساء اللواتي يجهلن الدين وأحكامه ولا يدركن جهلهن.. بل يتوسطن المجالس مطالباتٍ بإلغاء نص شرعي أو تعديله، ناسيات أنه من كتاب ٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه محكم من لدن عزيزخبير.. بهذه الصورة -التي عاينتُها مرارا- يتم التطاول على الخالق، حتى إذا ما بان عجز هؤلاء النسوة استخذَيْن أو أصررن على مناصبة العداء جهراً وخفية..
وإذا كان القرآن الكريم يتضمن قوانين علمية وآياتٍ كونية أثبتها العلم الحديث والمعاصر بعد أربعة عشر قرنا، فكيف نستبعد قوانينه الاجتماعية التي نظمت الحياة البشرية أحسن تنظيم وعلى نسق سليم؟! وما انهزام بعض المجتمعات المسلمة في حقب معينة من تاريخها إلا لِما اعتور نفوس المسلمين من نكوص عن هذا الدستور السامي.. ويوم كان المنهاج الرباني سائدا والاحتكام إلى أمر الله ساريا علا لواء المسلمين وانهزم أعداؤهم.
إن (العولمة) التي تكبرها بعض المتشدقات بفضلة الغرب ويصفقن لها منبهرات، ليست إلا استلابا وتبعية ونمطا فكريا ماديا يسعى إلى احتواء من سهل هضمه من المستَلَبين والمستَلَبات ولذلك يعتبرها الدكتور المهدي المنجرة في كتابه (انتفاضات من زمن الذلقراطية) مرادفة للأمركة ونتاج سلالة الاستعمار وجنس الإرهاب)(ص 87).
ثم أليس من الإرهاب الفكري أن تحاول شرذمة فرضَ نظم وأخلاقِ دولةٍ لم تفرّخْ إلا الإرهاب الكوني، وليس لها من معالم الأخلاق إلا ما أسس على شفا جرف هارٍ.. إن مثل هذا الخطاب الاستعماري البائد الذي ترتدي به بعض الفرنكفونيات لباس التقدم المصنوع والحداثوية والتفرد المهزوم لا يمكن أن يستوعبنا ولا أن يُقنعنا، ولا يزيدهن في نظرنا إلا ضآلة “في الفكر وعجزاً في التصور وغثاثة في المنطق، فضلا عن تهافت الأطروحة التي يروجن لها،
لا عاقلة اليوم يمكن أن تستبدل في تربيتها للنشء فكرة طاعة الله الخالقِ الواهب الجبارِ الخيِّر بفكرة طاعة أمريكا الطاغية، ولا عاقلة اليوم يمكن أن تستقطبها أضواءُ العولمة وفقاقيعُها البراقة لتخدع بها الأجيال وتترك وراءها حرفا واحداً من آي القرآن الكريم يضع البشر جميعا على الصراط السوي.. صراط التقوى والصدق والحلم والعدل والتواضع.. ولا عاقلة اليوم يمكن أن تأخذ في مسؤولية الاستخلاف بما هو ظلامي مادي متعفن متهافت يعِد بالوبال وتتخلى عما هو رباني نوراني طاهر يعِد بالفوز وحسن الحال والمآل. ولا يمكن لامرأة مستخلفة في أمتها أن تختار حضارة العنف ومنطق الإرهاب بدعوى التحديث والتطور بديلا عن دستور القرآن الحكيم الطافح بمعاني الحق والخير الصالح لكل زمان ومكان..
وإذا كانت (المُتَغَرِّباتُ) الجديدات و(المُتَعَوْلمات) الناشئات من بنات جلدتنا ممن اخترن الغثاء على ما ينفع الناس، قد أعْلَن جهارا ودون مواربة تحت أستار الشعاراتية الممهدة لاحتواء العالم، أن العوْلمة خيار جديد متطور يمكن أن يصْلُح نهجاً لحياتنا وحياةِ أبنائنا ويُمكن أن يتفوق على القرآن.. فقد أخطأن الخطاب وعدمْن المخاطب لسبب هو أننا لن نقبل بما هو إنساني زائل مدنس بديلا عما هو نوراني رباني مقدس في تأطير حياة الأبناء.. فإذا كُنّّ يستمتن في الظاهر والباطن من أجل (عوْلمة الحياة) فإننا بثقة المؤمن بنصر الله وفتحه القريب لا نبغي عن (قرأنة) العالم… بديلا أي أن يظل دستوره القرآن وخلقه القرآن ومعاملاته القرآن وهواءَه القرآن.. أما (العولمة) فتلك تجارة المتأمركات المتغربات البائرة.. وما عند الله خير وأبقى.
ويكفي سلعتهن بواراً -لدَيْنا- أن يعلمن ونحن في يوم عيد المرأة، أنه لو جُمعت كل نساء الغرب الصليبي المتغطرس منذ بدء الخلق إلى عصر شيخوخته الراهن، وبما امتلكن من قدرات.. لما عدلن مجتمعاتٍ في كومة واحدة قُلامةً ظُفْر إحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن من زوجات الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.. أولئك اللواتي تربين في كنف النبوة وتشربن أخلاقهن السامية من معين القرآن الخالد، وقانونه النوراني العظيم..
ويكفي (المتعولمات) بوارا لدينا أنهن مهما تفَنَّنّ في أساليب الاستقطاب أو الدعاية من أجل فرض قانون (العوْلمة = الأمركة) من خلال منابر وأبواق مأجورة فإن ذلك لن يزيد المرأة المغربية المسلمة المؤمنة إلا عضا بالنواجد على العقيدة السمحة الغراء وإصرارا على التشبث بأمر الله والاحتكام الى شرعه والسير على هدي قرآنه وطلبا لحرث الآخرة قال تعالى : {من كان يريد حرث الآخرة نزدْ له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نوته منها وما لَهُ في الآخرة من نصيب}(الشورى : 20).
وتحية إسلامية طيبة إلى الأستاذة الجليلة التي أفحمت بعض أذناب المُتَعَوْلمات، وتحية إلى أولئك الحاضرين الذين ساءهم التطاول على الحرمات… وتحية إلى كل الجنود المخلصين الذين قيضهم الله للوقوف في وجه المتنطعين والمتنطعات..
ذة. أمينة المريني