العلاج المادي لمشكلة الفقر
ويهدف إلى رفع المعاناة عن الفقراء ومدهم بالمساعدة الكافية لسد حاجياتهم الضرورية العاجلة والآجلة واعطائهم ما يحافظون به على كرامتهم وشرفهم وعفتهم حين يعطون قوتهم وقوت عيالهم وما يتزوجون به وما يشترون به ما يركبون ومن يخدمهم إذا احتاجوا لذلك.
وقد رصد الاسلام موارد مالية مهمة ومتنوعة لتطبيق هذا العلاج وضمان نجاحه واستمراريته ودوامه تتمثل في الموارد التالية :
أولا : الحقوق والواجبات التي فرضها الإسلام للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء من زكوات قارة وثابتة تتجدد بتجدد الأعوام وتتكرر بتكرار السنين وتتنوع بتنوع الأموال من جهة، وما أوجبه من كفارات تتعدد أسبابها ويكثر وقوعها من جهة أخرى، وتحويل الدولة حق جبايتها واستخلاصها من الملزمين بها بالقوة إن اقتضى الحال وتوزيعها على الفقراء والمساكين.
وهي موارد قد يعتبرها البعض قليلة وغير كافية ولكنا نعتقد أنها موارد لا يستهان بها تستطيع أداء هذا الدور إذا ما جمعت بأمانة ووزعت بنزاهة كما شهد بذلك التاريخ الإسلامي والسنة النبوية الشريفة منها قوله صلى عليه وسلم : ))إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، وله يجهد الفقراء إذا ماجاعوا أو عروا إلا بما يمنع أغنياءهم((. ففي عهد عمر رضي الله عنه بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه -وكان واليا على اليمن- بزكاة اليمن إلى المدينة المنورة مقر الخلافة الاسلامية فأنكر عليه عمر ذلك وقال له : لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية. ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد في فقرائهم، فقال معاذ : أنا ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحدا ياخذه مني.
حدث هذا في فترة وجيزة من ولاية معاذ، وفي بلد فقير بموارده قضت زكواته على الفقر بين سكانه، ولم يوجد بينهم من يطلب الزكاة الواجبة أو يأخذها عند عرضها عليه. فكيف في وقتنا الحاضر الذي كثر فيه الانتاج وفاضت فيه الأموال. وتدفقت سيولها وأنهارها. وأصبحت المواشي تعد بمآت الملايين، والانتاج الفلاحي بملايين الأطنان، والأرصدة النقدية والأموال التجارية تفوق الحصر ولا يحصيها العد.
ولا تكتفي زكوات هذه الثروات الخيالية لضمان الحد الأدنى للحياة الكريمة للفقراء والمساكين إذا جمعت ووزعت بأيد نظيفة عفيفة؟
الجواب نعم وألف نعم، وقد تُحقِّق فائضا يدخر للطوارئ وللسنوات العجاف كما ثبت في عهده صلى عليه وسلم.
فقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه وجد الرسول صلى عليه وسلم يسم إبل الصدقة بنفسه. ورآه يفعل ذلك بالغنم أيضا لما روى عنه أنه صلى عليه وسلم رخص لقوم من عرينة اجتَووا المدينة أن ياتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها -تداويا-.
وهذا معناه أن فائضا من زكاة الماشية لم يوجد من يصرف إليه فاحتفظ به الرسول صلى عليه وسلم للطوارئ وقام بنفسه يوسمه وتعليمه صيانة له وتوثيقا حتى لا يختلط بغيره من الأموال، وحتى لا يصرف لمن لا يستحقه.
ثانيا : في نظام التكافل العائلي والأسري الذي يقضي بإلزام الأغنياء إعالة أقاربهم الفقراء وتحميلهم القيام بكل حاجياتهم من نفقة وكسوة وسكنى ماداموا فقراء لا يجدون عملا أو لا يقدرون عليه وتخويل المحاكم حق التدخل لفرض ذلك واجبار الممتنع على القيام بواجباته نحو قريبه أو أقربائه.
وفي هذا الإطار يدخل حديث مسلم وغيره أنه صلى عليه وسلم قال لرجل : ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، وقوله تعالى : {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا}، وقوله : {وآت ذا القربى حقه}، وهو نظام يكفل شريحة مهمة من المجتمع تضيق وتتسع حسب اختلاف الفقهاء في تحديد نوع القرابة الذين تجب نفقتهم، هل هم الوالدان وأبناء الصلب خاصة كما يراه المالكية أو الأصول والفروع كما يراه الشافعية؟ أو كل ذي رحم محرم كما يراه أبو حنيفة أو كل من يتوارثون فيما بينهم كما هو مذهب أحمد وأبي نور.
ومهما يكن هذا الخلاف فإنه لا ينافي مبدأ التكافل مادام هناك إجماع على استفادة طائفة معينة قليلة أو كثيرة من هذا النظام الإلزامي.
ثالثا : في تخصيص نصيب من مداخيل الدولة من الفيء والغنائم يجب صرفه للفقراء واليتامى كما جاء في قوله تعالى في سورة الحشر : {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولَة بين الأغنياء منكم}، وقوله في سورة الأنفال : {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}.
وهو نصيب شكل في ظل الدولة الإسلامية مورداً ضخماً للنهوض بحقوق المحتاجين كاملة غير منقوصة خلف غيابه ثغرة كبيرة في ميزانية التكافل الاسلامي.
رابعا : في دعوات الاسلام المتكررة ونداءاته الملحة الموجهة للأغنياء يحثهم فيها على الإحسان للفقراء والمحتاجين والتخفيف من مآسيهم ومواساتهم بفضول أموالهم.
وهي دعوات عامة للرجال والنساء، لا تستثني أحدا ولا تحدد مبلغا، ولا تعين شكلا، لينفق كل واحد قدر طاقته، وحسب أريحيته، وكيفما تأتى له ذلك سرا أو جهرا بصفة فردية أو جماعية.
وكان لهذه الدعوات صدى واسع وتأثير بالغ في نفوس المسلمين وهم يستمعون إليها في كتاب الله وسنة رسوله، فتنافسوا في التجاوب معها، فكان فيهم من تصدق بجميع ماله ومن تصدق بنصفه ومن تصدق بأكثره وأقله، وحبسوا لهذا الغرض أصولا وعقارات في كل مدينة وقرية شكل ريعها دخلا قارا دائما، ومحترما للفقراء والمساكين، في شكل راتب شهري أو موسمي ساهم في تحسين أحوالهم والتخفيف من المعاناة عنهم على مر السنين.
خامسا : في تحميل بيت المال وميزانية الدولة القيام بحق الفقراء وصرف ا لاعتمادات الكافية لهم في حال عجزهم، مصداقا لحديث “من ترك مالا فلورثته، ومن ترك ضياعا أو عيالا فإلي” رواه البخاري وغيره.
وفي عام الرمادة حين ضربت المجاعة الجزيرة العربية في عهد عمر عبأ رضي الله عنه كل امكانيات الدولة لإمداد الناس بما يحتاجون إليه، حتى إذا انفرجت الأزمة قال : الحمد لله فوالله لو أن الله لم يفرجها ما تركت أهل بيت من المسلمين لهم سعة إلا ادخلت معهم أعدادهم من الفقراء، فلم يكن اثنان يهلكان من الطعام على ما يقيم واحدا.
وحينما حمى بعض المراعي لماشية بيت المال أوصى حارس الحمى بالسماح للفقراء بالرعي في الحمى، ونهاه عن السماح بالرعي فيه للأغنياء، وكان فيما قال له : وأدخل رب الصريمة، ورب الغنيمة، وإياك وغنم ابن عوف وغنم ابن عفان. فإنهما إن تهلك ما شيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، ورب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما ياتيني ببنيه، يقول : يا أمير المومنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق.
فالدولة في رأي عمر ملزمة بتوفير العيش الكريم للفقراء وضامنة له، إما بتمكينهم من وسائل الكسب، ومنها الرعي في مراعي الدولة وحميايتها، وإما إجراء النفقة عليهم دراهم ودنانير، واختيار عمر الأسلوب الأول لما فيه من المحافظة على ثرواتهم التي هي ثروة للدولة أيضا ولما في ذلك من تشغيلهم في انتاج ما يغنيهم عن مساعدة الدولة. ولما فيه من إعفاء الدولة من تكاليفهم وتوفير ذلك لصرفه في جهات أخرى عاجلا أو آجلا.
سادسا : وفي حالة الاستثناء عندما يموت الضمير الإنساني والوازع الديني في الإنسان، ويصبح الدرهم أحب إليه من نفسه وأهله ويضحي بدينه في سبيله، ويرفض أداء حقوق الفقراء في ماله، وتقصر الدولة في القيام بواجبها نحوهم، أو تعجز عن ذلك وتبلغ بالإنسان الضرورة القصوى ولايجد ما يسد به رمقه، يتدخل الإسلام من جديد بصرامة وحزم لانقاذ الموقف، ويقرر اعطاء الحق للمضطر نفسه في أخذ حقه بيده، في حدود المسموح به شرعا، سئل رسول الله صلى عليه وسلم ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال : يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل.
ولضمان حقه في الأكل والشرب عند الضرورة يقرر الفقه الإسلامي أن للمضطر الحق في مقاتلة صاحب الطعام والشراب واللباس وكل ما يضطر إليه إذا منعه من حقه ورفض بيعه أو اعطاءه ولم يكن صاحبه مضطرا إليه، فإن قُتِل صاحب الطعام فدمه هدر، وإن قُتِل المضطر اقتص من صاحب الطعام والشراب إذا كان يعلم أنه إذا لم يمكنه منه مات لأنه كالقاتل المتعمد، وإن لم يعلم ذلك أو منعه متأولا فديته على عاقلته.
هذا إذن موقف الإسلام من الفقر ومشاكله، وهذه حلوله ومناهجه في معالجته، وتلك وسائله في القضاء عليه، تبتدئ من مراقبة أسبابه والتعرف عليها ومحاربتها قبل بروز مسبباتها وتنتهي بمحو آثارها وتضميد جراحها بعد وقوعها.
وهي كفيلة باغلاق أبواب الفقر وسد نوافذه ومنعه من التسرب لأفراد المجتمع والشعب والدولة، إذا احتُرمت تلك المناهج واتّبعت تلك النصائح وطبّقت التعاليم الإسلامية في الموضوع بحذافيرها جملة وتفصيلا، ويومئذ يختفي الفقر بإذن الله وتنتهي حروب الطبقات وصراعاتها.
ولكن الذي يقع أن الأغنياء يبخلون بأموالهم ولا يفكرون في القيام بواجباتهم نحو اخوانهم الفقراء، وتتخلى عنهم الدولة وتتنكر لمسؤوليتها نحوهم فتمتلئ قلوب الفقراء حقدا وكراهية لمجتمعهم ودولتهم الذين قصروا في حقهم وتركوهم فريسة الجوع وهم يرون بعض الدول تفضل تدمير محاصيلها وتتلف مخزوناتها من المواد الغذائية تحرقها وتلقيها في البحر وترفض التبرع بها حتى على مواطينها أو بيعها لهم بسعر منخفض.
ونشير في الأخير إلى أنه ليس من مبادئ الإسلام ولا من مناهجه في محاربة الفقر الالتجاء إلى السهرات الفنية والالعاب الرياضية ولا تنظيم اليانصيبات الاحسانية لأن من مبادئه الغاية لا تبرر الوسيلة وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا.
وفي الوقت نفسه يرحب بالاكتتابات وبيع الشارات وإقامة معارض لبيع بعض السلع والمنتوجات ويخصص ثمنها للمحتاجين.