من الغفلة المهلكة : الغرق في تفاصيل الأزمة.. وتعليق البصر والبصيرة بالهدف الظاهري المعلن : هدف (مكافحة الإرهاب). فيوما بعد يوم يتبدى أن هناك أهدافا (أبعد) من الإرهاب ومكافحته، وإن كانت هذه الأهداف الأبعد تتخذ مما هو معلن غطاء، وتلتبس به : إيغالا في تجهيل الرأي العام وتضليله.. ومشيا إلى المبتغى تحت ستار كثيف ومتصاعد دوما من دخان الإرهاب.
وأول هذه الأهداف الأبعد : هدف (تغيير الأنظمة السياسية والاجتماعية)، وتغيير القيادات كذلك.
والسابقة الأساس في ذلك هي (تغيير نظام طالبان) في أفغانستان، الذي لن تتوافر له (شروط تطبيق الإسلام) وهي شروط يؤدي الإخلال بها إلى تشويه صورة الإسلام في المجالين الحيويين: الاجتماعي والسياسي، بيد أن المفهوم الخطر هنا هو : أن التغيير يجري بإرادة قوى خارجية وفعلها، ولا شك في أن المتهمين بالإرهاب، الذين باركوا ما وقع في نيويورك وواشنطن قد قدموا خدمة تاريخية واستراتيجية -يندر نظيرها- للولايات المتحدة الأمريكية، ولا نقول للتحالف الدولي، فهذا الشعار غطاء دولي لتصرفات أمريكية بمنطق الحقيقة والواقع.. ومثلت هذه الخدمة في مقولة : أن أمريكا إنما تدافع عن نفسها وهي تضرب مواقع الذين ضربوا عمقها، أو تبجحوا بفعل ذلك غير مرة.
ومهما يكن من شأن، فإن (السابقة القاصمة) : سابقة تغيير الأنظمة بواسطة قوى خارجية، قد حدثت، وفي جو من الرضا، أو البرود، أو الغفلة، وهي سابقة خدمت -بلا ريب- (استراتيجية التدخل في شؤون الدول الأخرى).
فمنذ أمد غير قصير، تعمل القوى الكبرى النافذة على (ايجاد آليات) تتيح لها التدخل في شأن الآخرين بمقتضى مضامين أو عناوين شتى.
أ- هناك آلية الأمم المتحدة، ففي العام الماضي، طرح الأمين العام للأمم المتحدة (مفاهيم) غريبة -على ميثاق الأمم المتحدة نفسه- تنتهي بانتقاص سيادة الدول واستقلالها، وعلل ذلك بالتطورات التي وقعت في العلاقات الدولية ومنها تطور (العولمة).
ب- آلية (حقوق الانسان).. ولقد نودي بأن يكون هناك (مندوب سام) للأمم المتحدة -على غرار المندوب السامي الاستعماري في أزمنة غابرة- يحق له التفتيش على الدول لحماية حقوق الإنسان.
ج- آلية (حماية الحريات الدينية).. وهي آلية صدر بها قانون في الولايات المتحدة، وعين لها مسؤولون في وزارة الخارجية.
وهذه آلية تحمل الذاكرة على استدعاء مثلات سابقة، فقد تدخل الاستعمار في شؤون الدول الأخرى من أجل ضمان الحريات الدينية، وحماية الأقليات الدينية التي ليست هي أقليات مسلمة، ولا بوذية، ولا هندوسية.
د- آلية (العولمة الموجّهة)، إذ أريد بالعولمة أن تكون (عدوانا قانونيا في العلاقات الدولية) على خصوصيات الأمم، وعلى استقلالها السياسي والاجتماعي، لا أن تكون تعزيزاً للتعاون المتبادل، وانفتاحا كوكبيا نشطا يتواثق فيه ويتكامل : الانساني العام، مع الوطني الخاص.
هـ- آلية (مكافحة الإرهاب).. وهذه أخطر الآليات، وأشدها تهديدا لسيادة الدول واستقلالها، فباسم مكافحة الإرهاب، صنعت في أفغانستان (سابقة) التدخل، وتغيير الأنظمة. وباسم مكافحة الإرهاب، يراد اخضاع حركة الأموال في الدول لرقابة غامضة تتدخل في الشأن المالي، وتتهم من تشاء -على هواها- بأنه ممول للإرهاب. وباسم مكافحة الإرهاب تتتابع النذر بضرب دول عديدة في الوطن العربي والعالم الإسلامي.. والضرب يُبنى -بداهة- على مسلمة مصطنعة وهي : حق (!!) ملاحقة الإرهاب والإرهابيين في كل مكان. وباسم مكافحة الإرهاب، يكرر شارون احتلاله للأرض الفلسطينية، ويطرح فكرة تغيير القيادة الفلسطينية.
وباسم مكافحة الإرهاب، تتعرض باكستان للتدخل في شؤونها، بل قد تتعرض للتفتت والزوال.
وثمةقرائن ومؤشرات تدل على جعل الوضع في باكستان (متماثلا) مع الوضع في أفغانستان، سيناريو ونتيجة.
1- بغتة : اعتدى معتدون على البرلمان الهندي، فنشأت الأزمة الجديدة الحادة (حالة مشابهة -في صورة مصغرة- لما وقع في نيويورك وواشنطن).
2- بسرعة فائقة -وقبل التحقيق والأدلة- اتّهم الباكستانيون بأنهم وراء الإرهاب ويتحملون مسؤوليته (بالسرعة ذاتها اتهم العرب والمسلمون بأنهم وراء الإرهاب الذي ضرب في أمريكا).
3- تطوع قادة أمريكيون فقالوا : أن الباعث على الإرهاب في الهند هو : كراهية الديمقراطية العريقة (ردد قادة أمريكا الكلام ذاته في تعليل ما وقع في بلادهم في شهر شتنبر الماضي).
4- قال وزير الداخلية الهندي : أن من حق الهند مطاردة الإرهابيين داخل الأرض الباكستانية نفسها (من قبل قال المسؤولون الأمريكيون: إن من حق أمريكا أن تطارد الإرهابيين في أفغانستان نفسها).
فماذا هناك… وماذا يريدون بالضبط؟
هل يريدون، الضغط العمودي والأفقي على باكستان حتى (تلجم) المقاومة الكشميرية، وتقدم رأسها للذين يطالبون برأسها؟
هذا احتمال وارد، مع أنه ينبغي التفريق بين المقاومة المشروعة وبين المتورطين في الإرهاب.
ولكن إذا فعلت حكومة باكستان ذلك -أي وأدت قضية كشمير- هل تضمن تماسك جبهتها الداخلية، ولا سيما أن الضمير الشعبي الباكستاني والعقيدة العسكرية للجيش الباكستاني قد تغذيا بأن مسألة كشمير وتقرير مصيرها من الثوابت الوطنية للأمن القومي الباكستاني؟ ثم هل الهدف هو : وقوع فتنة عامة في باكستان تكون ذريعة لطرح مشروع (فرض وصاية دولية -أو أمريكية اسرائيلية- على السلاح النووي الباكستاني)؟
ماذا هناك.. وماذا يريدون.. وما هو الهدف الأبعد من مكافحة الارهاب؟ هل الهدف هو : تفتيت باكستان وازالتها؟
إن هذا التصور متداول -أمريكيا- منذ فترة، ولقد تداولته الدوائر المخططة في سياق معطيات ثلاثة هي :
أ- لم تعد أمريكا في حاجة إلى باكستان بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
ب- أن التحالف مع الهند أعظم وأجدى.
ج- أن باكستان تجاوزت الخطوط الحمراء بامتلاكها السلاح النووي الذي لا يجوز -قط- وفق المنظور الصهيوني بخاصة أن تمتلكه أي دولة عربية أو اسلامية.
والعبارة الأخيرة تحتاج إلى بسط وتفصيل. ونوظف -هاهنا- ما قلناه من قبل، في هذا السياق الجديد؛ أن اسرائيل منذ أن عزمت باكستان -مضطرة- على التفجير النووي، نشطت مع الهند من أجل عمل شيء ما يجهض التجربة في مهدها.. لماذا؟ لأن من (الخطوط الحمراء) الأساسية للمؤسسة الصهيونية ألا يمتلك العرب والمسلمون سلاحا نوويا يخل بالتفوق الصهيوني في هذا الميدان أو الميزان.. وهي خطوط حمراء شارك في صياغتها (أرييل شارون) عام 1981، إذ قال : (هناك خطوط حمراء لن تقبل اسرائيل اجتيازها من جانب العرب، وأهمها : حيازة السلاح النووي، ولو أدىمنع ذلك إلى شن حرب وقائية).. ولاشك أن هذه الاستراتيجية الصهيونية تنتظم كل دولة اسلامية أيضا.
في ظل هذه الحقائق والواقع، هل يستبعد تفتيت باكستان أو زوالها؟
لاشك أن هذا هدف صهيوني، بدليل أن صهيونيا بارزا في إدارة الرئيس الأمريكي السابق (بيل كلينتون) وهو وزير الدفاع (وليام كوهين) قد ترأس فريقا لدراسة مستقبل الباكستان، ولقد تنبأت الدراسة بزوال باكستان في غضون سنوات معدودة (حماية للوعي من الخلط يتعين وضع حد فاصل بين التصور وبين القدرة على تطبيقه).
إن النفوذ الصهيوني قد تغلغل في ما يسمى بـ(التحالف الدولي ضد الإرهاب)، بل يمكن القول بأن هذا النفوذ الصهيوني يكاد يقود هذا التحالف، فالرؤية تجاه باكستان النووية هي رؤية صهيونية، ولا تزال الصيهونية تضغط حتى تبنوا مفهومها بإزاء حركات التحرير الفلسطينية، حيث ثوصفوها بالارهابية، وحيث ملأت أمريكا وأوروبا أفواهها بهذا الوصف.
ولذا، تنبغي اعادة النظر في هذا التحالف الدولي الموصوف بأنه مناهض للارهاب، فمهما تكن أخطاء أمريكا، فانه يمكن التعاون معها في حقول مصلحية معينة، وفق القاعدة النبوية العملية : >احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز<. لكن وضع اليد في يد الصهيونية مستحيل، أولا : لأن لدى الصهيونية أجندة -قديمة ومتجددة- تبدأ بمعاداة الاسلام و حربه وتشويهه، وتنتهي باذلال العرب والمسلمين واحتلال أرضهم ومقدساتهم.. ثانيا : لأن الصهيونية مؤسسة ارهابية -فكرا وتطبيقا-. ومن الجنون : التحالف مع أكابر الارهابيين من أجل محاربة اصاغرهم، وثالثا : لأن الصهيونية تربط أهدافها الكبرى بالحروب الاقليمية والعالمية. مثلا : من خصائص ايديولوجية شارون -وأمثاله من طغاة الصهيونية- أن اسرائيل قوية وموحدة ومستقرة تحتاج إلى (عدو خارجي).. وليتدبر عقلاء أمريكا هذه القضية لئلا تضحي بلادهم بسمعتها ومصالحها في سبيل أوهام أو اطماع اجندة صهيونية.
> زين العابدين الرگابي >
الشرق الأوسط ع 01/12/29