يستطيع كل قارئ للنصوص والتوضيحات التي أوردناها في العدد 161 عن نسب الرسول أن يستنبط بنفسه فوائد كثيرة، وهذه بعض الفوائد التي يجدر بالقارئ أن يتنبه إلَيْهَا :
< مَزِيَّةُ يوم الاثنين : لقد اختار اللَّه تعالى لنبيه صلى عليه وسلم أن يُولد يوم الاثنين لفضله ومزيته، ولهذا كان من الأنسب سنة وأدباً: >اخْتِيَارُ الزَّمن الصالح للعمل الصالح، فالأعمالُ تَشْرُفُ أو تزداد شرفا بالأزمنة والأمكنة التي أُنْجِزَتْ فيها، كما أن الأزمنة والأمكنة تَشْرُفُ أو تزداد شرفاً بسبب الأعمال. ولكل ذلك شواهدُ معلومةٌ، ومنها هذا اليومُ المبارك، يوم الاثنين، فهو يوم تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَتُعْرَضُ فيه الأعمالُ كَيَوْمِ الخميس {فَيَغْفِرُ اللَّهُ لِكُلِّ امْرِئٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئا، إِلاَّ امْرَأ كَانَتْ بَيْنَهُ وبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فيقول: (اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا)} رواه مسلم.
فيومُ الاثنين ازداد بركةً وشرفاً باختيارهِ لِوِلاَدَةِ سَيِّدِ ولد آدم، بل واختيارهِ لبعْثَتِهِ وإنْزَالِ أشْرَفِ رسالة عليه، بل إنه هو أيضاً اليومُ الذي سَيَشْرُف بالتحاقه صلى عليه وسلم بالرفيق الأعلى >حين اشتدَّت الضُّحَى من يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11 هــ، وقد تَمَّ لَهُ ثلاثٌ وسِتُّون سنة} -الرحيق المختوم، ص 534(1).
< حماية البيت إكراماً لمقدم محمد صلى عليه وسلم : لقد ولد صلى عليه وسلم عام الفيل الذي اشتهر بين العرب حتى أصبحوا يؤرخون به، حيث رَدَّ اللَّهُ تعالى فيه الطاغيةَ أَبْرَهَةَ عن البيت، وأنزل به الضربة القاصمة ليبقى المجرم عبرةً للطغاة المتجبرين، ويَكُونَ البيتُ الحرام قبلة للمسلمين على الدوام. وكان هذا التشريف للبيت مقروناً بمقدم إمام المرسلين، لتكون المحافظة على الْمَبْنَى مقرونة بالمحافظة على المعنى، فالشخص المؤهَّل للمحافظة على معنى هذا البيت، ومعرفة قيمته ومكانته عند اللَّه تعالى هو محمد صلى عليه وسلم الذي اقترنَتْ ولادته بهذا الحَدَثِ العظيم إكراماً لقدومه، وإرهاصاً بقُرْبِ بزوغ رسالته. فيقول له اللَّه تعالى بعد أربعين سنة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيل} قال أبو حيان: >وفي خطاب اللَّه تعالى لنبيه صلى عليه وسلم بقوله: {فَعَلَ رَبُّكَ} تشريف له صلى عليه وسلم وإشادة من ذكره، كأنه قال: رَبُّكَ معبودك هو الذي فعل ذلك، لا أصنام قُرَيْش<(2).
>فإضافة الرَّبِّ إلى رسول اللَّه صلى عليه وسلم تَدُلُّ على أن المسألة متعلقة بمحمد صلى عليه وسلم، فعلينا أن نفهم أن اللَّه تعالى حافظ على مبنى البيت في هذا العام، وأوجد في نفس العام الشخص الذي يحافظ على معناه، فتكون المحافظة بمنع أَبْرَهَة من هدمه، هي بعينها المحافظة على المعنى ببقاء البيت لله وحده، وذلك بميلاد محمد صلى عليه وسلم، فيكون لمحمد صلى عليه وسلم علاقة بالمحافظة على ذلك البيت<(3).
قال بعض العلماء: >كانت قصة الفيل فيما بعدُ من معجزات النبي صلى عليه وسلم، وإن كانَتْ قبله، وقبل التحدِّي، لأنها كانت توكيداً لأمره، وتمهيداً لشأنه، ولَمَّا تَلاَ عليهم رسول اللَّه صلى عليه وسلم هذه السورة كان بمكة عَدَدٌ كبيرٌ مِمَّن شهِدَ تلك الواقعة، ولهذا قال: {أَلَمْ تَرَ} ولم يكن بـ>مكة< أحد إِلاَّ وقد رأى قَائِدَ الفيل وسائِسَه أعْمَيَيْن يتكَفَّفَان الناس<(4).
< حماية اللَّه تعالى لعبده الذكر كحمايته لِلْأَمَةِ الصَّالحة : من باب لا فرق سواء بسواء. فهذه سارة عليها السلام يتولاها اللَّه عز وجل بالرعاية فيدفع عنها الإذاية، كما دفعها عن زوجها إِبْرَاهِيم \ قبل ذلك حينما قالوا حَرِّقُوه، فقال اللَّه تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} -الأنبياء:68- ونفس الشيء بالنسبة لهاجر عليها السلام التي تولاَّها اللَّه عز وجل بالرعاية فسقى وَلَدَهَا إسْمَاعِيل \، وأسْكَنَ معها مَنْ يُؤْنِسُها في بَلَدٍ قَفْرٍ لا زَرْعَ به، ولا ضرع، ولا أنيس، ليكون من ذلك التجمُّعِ السكنِيِّ -بعد قرون- العَربُ الذين اصطفاهم اللَّه تعالى لحَمْلِ الرِّسالة، واصطفاهم -قبل ذلك- ليكون منهم صاحب الرسالة. وليَفْهَمَ سَرِيعُ الفهم وثقيلُه أن الخلق كلهم عيال اللَّه تعالى، لا فرق بين ذكرهم وأنثاهم، وأن اللَّه عز وجل يدافع عن الذين آمنوا واللواتي آمَنَّ، ويستجيب للذين آمنوا واللواتي آمَنَّ، وينصر الذين آمنوا واللواتي آمَنَّ. ولعل مثال >سارة< و>هاجر< و>امرأة عمران< يسقط دعاوى السفهاء الذين يقولون: إن الإسلام حَطَّ من كرامة المرأة، أو أهانها، أو جعل مستواها -في ميزان اللَّه تعالى – دون مستوى الرجل، والأمثلة كثيرة، ولكن في هذا كفاية لمن يريد معرفة الحق، واتباع صراطه السوِيِّ.
يكتبها :
ذ. المفضل فلواتي
———-
1- الدكتور الشاهد البوشيخي. انظر خلاصة السيرة النبوية لابن هشام، نصوص ودروس، جريدة المحجة العدد:3 – 1994، ص:5.
2- البحر المحيط 10/544 نقلا عن شرح معجزات الأنبياء والمرسلين لـ: متولي الشعراوي رحمه اللَّه تعالى.
3- شرح معجزات الأنبياء والمرسلين، ص 253 – 255.
4- اللباب في علوم الكتاب 20/499.