إن الاهتمام بالخلاف النحوي عند المتأخرين يستهدف إلى جانب الكشف عن مصادره ومجالاته وأسبابه إحداث تغيير في معالجة صناعة النحو، قد تترتب عنه نتائج جديدة وهامة.
اخترت الدراسة النصية التي ترغب عن التعميم الموهم، وترغب في الوصف المستكشف، فتوخيت النصوص وحدها أملا أن تأتي النتائج طبيعية سليمة، والمقترحات جادة قوية. ورُمتُ الاختيار والاقتصار مع الإيجاز والإختصار فقَرَّ القرار أن تُتجاوز المختصرات النحوية، فإنما قُصد بها إلى غايات تربوية، تعليما للناشئة والمبتدئين، وألحقت بها كتب الشروح النحوية، والمطولات، والحواشي، فإن الغالب عليها التبعية والتقليد، والتطوال والترديد وتبني بنات أفكار الخلف والسلف وعدم توثيقها، والضن بنسبتها إلى أهلها إلا قليلا.
اطمأننت إلى ما أُلف ابتداء على غير أنموذج سابق، وهو المبرز في بابه، والأصل لغيره، وغيره كالعالة عليه، فهُديت بعد عِشرة طويلة ومعاناة شديدة إلى كتب غلب على الظن أنها الأمهات. ففضلت المؤلَّف على صاحبه وعصره ومصره، ولم يكن من همي الترجمة لأصحابها والتعريف بآثارهم عامة، ولكن دراسة كتاب خاص، ولهدف معين يجعل الكتاب المدروس مَعلما من معالم الخلاف منبهة على نظيره ومن سار في ركبه.
وهكذا اخترت (المحتسب في تبيين وجوه القراءات والإيضاح عنها) لابن جني، و(شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح) لابن مالك، و (المغني اللبيب عن كتب الأعاريب) لابن هشام، يقينا مني أن الأول هو أول ما كُتب في شواذ القراءات، وأبلى فيها البلاء الحسن بواسطة علوم الآلة مستلهما أسرار العربية.
وأن الثاني هو أهم مصنف اتجه لأصح كتاب في الحديث النبوي يستشهد له، ويزيل إشكاله، حسب ما يقتضيه العلم بالعربية أيضا.
وأن الثالث هو الذي انتهت التجربة النحوية إليه، واستوت خلقا سويا فيه، ولَمَّا يفد منها من جاء بعده إلى اليوم، وهو إلى ذلك أول كتاب فارق كل ما سبقه من مؤلفات مستوعبا أهمها، دون تكرار أو تطوال، ومن غير أن يبخس أحدا حقه إلا ما شذ وهو قليل، فجاء اسمه مطابقا لمضمونه، ولعله يغني كثيرا عما سواه، ولذلك حرصت على أن يكون المصدر الأساس مذ بدأ الحديث عنه بعد الفصل الأول من الباب الأول، تأكيدا لهذه الحقيقة، وليرتبط القارئ منهجيا وتربويا بكتاب ظننته مهيمنا على غيره، وأمة وحده في المسائل والشواهد، وفي القواعد والمقاصد، وفي الأشباه والنظائر.
وقد أدت طبيعة هذا البحث أن يكون في مقدمة وتمهيد، يعقبهما ثلاثة أبواب، أولهما في فصلين، في كل فصل مبحثان، والثاني مثله، ثم الثالث في فصلين كذلك، لكن في كل فصل ثلاثة مباحث.
فأما المقدمة فإنها تُعرف بالموضوع وأهميته، وتجمل الحديث عن أبوابه وفصوله ومباحثه، وعن نهجه وترتيبه وخُتمت بالثناء على من هو أهل له. والتمهيد تمهيد إخباري مُرَكَّز تناول مسيرة النحو والخلاف النحوي منذ النشأة حتى مطلع العقد الأخير من القرن الرابع حيث البداية الفعلية للمتأخرين.
وأما الباب الأول فقد تقاسمه أبناء جني، ومالك، وهشام، لصفات وصفتهم بها تناسب مقامهم ومكانتهم، فقرنت في الفصل الأول بين المحتسب وشواهد التوضيح باعتبار أن كلا منهما عَلم على قضية. وانفرد المغني بالفصل الثاني بأنه كتاب نحو جامع اجتمع فيه ما تفرق فيهما، وفي كثير غيرهما.
فوطأت للحديث عن المحتسب بما رأيته أهلا بأن يُجعل ابن جني به فاتحة، ثم عرَّفت به، وأبنت عن أنماط اختلاف القراءات فيه فمسالك توجيهها، وما جاد به قلمه فيها، وأنه مهد سبيلها، وعبَّد الطريق إليها، فكان سلطانه فيها قويا، وأثره في من بعده بعيدا.
ثم انتقلت إلى ابن مالك وشواهد توضيحه، فحددت المقصود بوسطيته، وأنه أول من صَيَّرَ الاحتجاج بالحديث قضية، لإقدامه الكبير على الاستشهاد بحديثه (((، والاحتجاج له، وأن شواهد التوضيح حري بالدراسة فعرَّفت به من خلال مضمونه، وشواهده، ومسائله، فمنزلته، وأثره في النحاة، وفي شراح الحديث النبوي الشريف.
وعُقد الفصل الثاني للمغني، فكشف في مبحثه الأول عن أهمية هذا الكتاب وخصوصيته، فإنه مغن حقا وحقيقة، وامتاز بجدة ترتيبه، وبلاغة تجميعه، وكون نحوه نحو إعراب ودلالة. على أن المبحث الثاني عُني بمنطلقاته فإنها : نصوص شواهد، وكتب مصادر، وأعلام تنوعت مشاربهم ، وكثرت اجتهاداتهم، وقواعد كلية وجزئية.
وتبين أن سماعا كثيرا فات المتقدمين وأغلب المتأخرين، والواجب أن يوضع في الحسبان إذ القوم في غفلة عنه معرضون، وتأكد أن للثقافة العربية الإسلامية قاعدة معرفية عريضة وجِلة الناس في ذهول عنها ساهون، فلزم البحث أن يُوَلي وجهه تجاه ما غُفل وذُهل عنه فكان الباب الثاني.
وقد جاء هذا الباب في فصلين كذلك، فخُصص أولهما لمصادر الخلاف عند المتأخرين واهتم الثاني بمجالاته.
فأما المصادر فأصلية وفرعية، فالأصلية بحثها المبحث الأول مبرزا تكاملها وتداخلها، والفرعية انتظمها الثاني فكشف الستار عن أساسها المعرفي،وهو وحدة المنطلق،ووحدة الغاية، ووحدة الباحث، ووحدة المنهج. ثم عدَّد أنماطها فهي تختلف اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.
وأما المجالات فضُبطت في قسمين : أحدهما اضطلع به المبحث الأول وذلك الأحكام وترتيبها، وجُمع بين الأحكام والترتيب لأن تقديم ما قُدم وتأخير ما أُخر في أعمال النحاة المتأخرين لم يرد كما اتفق سدى واعتباطا، وإنما هو حكم يحكمه تصور اختُلِفَ في جزئياته وتفاصيله. واهتم المبحث الثاني بالقسم الثاني، وهو المصطلحات وتعريفاتها، فأوجزت الحديث عن الأولى من حيث لا جديد فيها لدى المتأخرين، إلا ابن مالك الذي استعمل مصطلحات فأثبتُّ له منهاستة هي التي غالبت المصطلحات السائدة يومئذ. ثم أفضتُ الحديث عن التعاريف، بأن المتأخرين منهم من عرَّف بالحد، أو بالعلامة، أو بالتقسيم، ومنهم من استغنى عن الحدود بالضوابط.
وجاء الباب الثالث ليفصح عن أسباب الخلاف فأرجعها إلى حقيقة اللسان، وإلى طبيعة النحو والنحاة، فكان في فصلين هو الآخر، عُني أولهما بحقيقة اللسان، فعرض المبحث الأول لاختلاف لغات اللسان العربي، والثاني لإعرابيته، والثالث لسعته التي انتقلت منه إلى نحوه.
وتناول الفصل الثاني طبيعة النحاة والنحو بلطف ، فاهتم المبحث الأول ببواعث الخلاف عند النحاة، فأبان بالأمثلة أنها الفهم، والهوى، والوهم، والسهو، والخطأ، والاطلاع. وتناول المبحث الثاني طبيعة النحو العربي، فإنه أنحاء، له حدود وتعاريف، معروف بسمته الاجتهادي، وكثرة من اشتغل به، وأنه وسيلة عند بعضهم وغاية عند آخرين، وقد قصُر بقواعده عن وصف لسانه. وخُصصالمبحث الثالث الأخير للأصول النحوية، فحَدد معنى كلمة (الأصل) عند النحاة، وأن المتأخرين وجدوا أمامهم ثروة هائلة من القواعد والأصول لمَّا تجتمع في ديوان، فأثبتتُ جملة منها، وأعقبتها بمسائل خلافية فتنبيهات تحيل إلى مسائل أخرى.
وخُتمت الرسالة بخاتمة أودعتها أهم النتائج التي توصل إليها البحث، ومقترحات يُؤمل أن تكون لبنات لمشروع عمل نحوي يستجيب ببصيرة لِما جد في العصر من مستجدات، دون أن يتنكر للذات، أو يتجاوز الجهود المبذولة في التراث.
وقد أسفرت هذه الرسالة عن نتائج ترتبت عنها مقترحات، آمل أن تكونا نقطة بدء يستأنف الباحث أو غيره منها البحث العلمي الهادف إلى التطوير والتجديد، وذلك بأن هذا العمل قد استند في تقرير ما قرره إلى معطيات مستمدة من كتب نماذج اعتمدها هي : (المحتسب)، و(شواهد التوضيح)، و (المغني). وهو ما يسمح بالقول إن ما انتهى إليه ليس أقوالا مرسلة، بل هي أحكام تدعمها الوقائع، ونتائج تثبتها التحليلات إذ المنهج الذي اعتمد، يقوم على استقراء النصوص واستنطاقها، لبناء الأحكام، واستخلاص النتائج، وإليكم أهم النتائج :
1- لفت الأنظار إلى أهمية البحث عن أسباب الخلاف بدل التوقف عند مسائله ومظاهره، وإذا كان هذا البحث قد حقق شيئا من ذلك، فإنه قد حقق تحولا هاما في معالجة موضوع الخلاف النحوي، تحولا من العناية بوصف مسائل الخلاف إلى العناية بتفسير الخلاف. ومن شأن هذا النقل في موضوع خصب هو الخلاف النحوي أن يفتح الباب أمام نوع آخر من الأبحاث والدراسات التي يؤمل أن تستفيد من أسباب الخلاف في صياغة رؤى جديدة للجهود الصادقة المبذولة في النحو العربي.
2- حصر أسباب الخلاف النحوي في ثلاثة عناصر رئيسة هي : طبيعة النحو العربي، وتنوع المعطيات اللغوية واختلافها، وتعدد علاقات النحوي باللغة التي يصفها.
3- النظر إلى النحو العربي بصفته أنحاء، لكل منها معطياته التي ينشغل بها، وغرضه الذي يتوخاه ، ومخاطبه الذي يتوجه إليه.
4- تحديد مصادر الخلاف الأصلية والفرعية، ورسم أهم مجالاته.
5- إلقاء الضوء على بعض الأصول النحوية، واقتراح أن تُجمَّع كل الأصول ثم تبوب وتفصل، عسى أن تساعد على إدراك الأسس التي قام عليها النحو العربي، سيرا برفق نحو تجديده بوعي، وأملا في إصلاحه على بصيرة.
6- الإقرار بأن إبداع صور جديدة من الكلام لا ينبغي أن يكون من عمل النحاة عبدة القواعد، وإنما هو من واجب الأدباء الأبنياء، من كُتَّاب وشعراء، أولئك الذين سمت طبيعتهم فارتقوا إلى درجة من البلاغة والفصاحة تؤهلهم إلى الارتجال، ثم يأتي النحاة لإقرارها ورصد عللها كما بين ذلك ابن جني في (المحتسب)، وابن مالك في (شواهد التوضيح)، وأقَرهما على ذلك ابن هشام في (المغني).
7- الإلحاح على أن القراءات القرآنية والأحاديث النبوية مصدران قويان من مصادر اللهجات العربية غلب على الظن أنهما رويا باللفظ، ولا يجوز لامرئ الطعن فيهما، فإن أهلهما عُرفوا بالضبط والحفظ، وبالأمانة والصدق، وبالبعد كل البعد عن خوارم المروءة، وعن الريبة والشك، والواجب أن يُستمسك بهما، لصحتهما وقوتهما وذلك أفضل من انتحال مفردات مستعجمة، وتراكيب دخيلة يرفضهما ويلفظهما سمت العربية على سعته.
8- الجزم بأن النحو العربي على المرتبة العلية التي له في نفوس كثير من أهل العلم لا يمثل واقع اللسان العربي، بل هو بقواعده قاصر عن وصف أساليبه وظواهره، ولعل مسائل الخلاف شاهدة على ذلك، فإنه لا كتاب جامع لها، بل إن فوائت ما كُتب فيها رأسا كثير، يلحظه من تصفح وتفحص الكتب الجوامع التي جاءت بعد المغني كجمع الجوامع للسيوطي، وخزانة الأدب للبغدادي وغيرهما.
9- الإبانة عن الافتقار الكبير إلى النصوص، فلا غنى للنحاة عنها، فإن المقل منها كالخارج عنها، والشادي فيها كالبائن عنها، وليس العيب فيها، وإنما في العائب لها، لرمده، وضعف فقهه، وقلة ذات يده منها، فمن جهل شيئا عابه وعاداه واستوحش منه، فإنما جدد ابنا جني ومالك لعودة الأول إلى القراءات، والثاني إلى الأحاديث، فضلا عن ارتواء كل منهم بأشعار الجاهليين والإسلاميين والمولدين حتى قيل إنهما ما تركا للنحو حرمة.
10- التنبيه على أن ثمة أخطاء لا يصلحها إلا جمع التراث والموازنة بين الفهوم الخاصة التي أنتجتها علوم اللغة والشريعة التي عُنيت بتكليم النصوص والإبانة عن مقاصدها، لأنها تتقاطع في نقطة هامة هي المعنى، فلابد إذن من إقامة الجسور الطبيعية بين هذه العلوم، فإنها كانت قائمة في عقول العلماء، ولا يهتدي إليها إلا قليل من النبغاء.
11- التقرير بأن المعنى هو الموجه الأساس للخلاف، لكن تباينت كيفيات الإعراب عنه، والأخذ به، وقد تقرر في هذا العمل أن مسالك ابن جني في توجيه القراءات أغلبها يقوم على المعنى، وتأكد أن ابن مالك عُني كثيرا بأمن اللبس فكانت له جوازات واستدراكات، وتبين أن ابن هشام رتب (المغني) على أساس المعنى، وأفاد من لطائف المعاني التي قال بها المفسرون والبيانيون والأصوليون، فجاء نحوه في (المغني) نحو إعراب ودلالة.
12- الإشارة إلى وجود كثير من الصيغ والمعاني غير معروفة في الكتب النحوية المتداولة، وأن النحاة المتأخرين أخرجوا بعض الأحكام من عالم الندرة والقلة والشذوذ والضرورة إلى عالم القياس والفصاحة، فيمكن استخلاص كتيبات من محتسب ابن جني : أحدها في الأبنية ومعانيها، والآخر في التراكيب ودلالاتها، والثالث في الأصوات وإيحائها.
13- تقترح هذه الرسالة بناء معجم شامل لمعاني التراكيب النحوية، إذ لم يوضع -حسب علمي- في هذا المجال شيء يذكر، فإنما معاني التراكيب ظلت قائمة في عقول العلماء، وقد يبدو منها بداء : كلمات متناثرة تأتي عرضا في معرض النقد والرد، أو الترجيح والتصحيح.
تلك أهم النتائج التي أبان عنها هذا العمل المتواضع، ولعلها تفتح آفاقا جديدة للباحثين في العربية ونحوها، فإن أكن أصبت فهو ما التمست، وإلا فحسبي أني حاولت واجتهدت معتصما بحبل من الله سبحانه وتعالى. والحمد لله الذي تتم بحمده الصالحات.
إعداد : د. عبد النبي الدكير