الأمة الاسلامية..
أمة الشهادة على الناس
كلف الله عز وجل الأمة الإسلامية بمجموعها بتبليغ رسالة الإسلام ودعوة الناس إليه {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين}(يوسف). ولقد أمر الله عز وجل هذه الأمة بحمل رسالة البلاغ المبين بمقتضى انتمائها إلى أمة محمد ، فهي أمة الخيرية التي تمثل فيها الشهود الحضاري على الناس وهي آخر الأمم وهي الشهيدة على هذه الأمم، فلا نبي ينتظر بعد نبينا محمد .
لنتدبر هذه الآيات الكريمة، يقول الحق :
- {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة).-
- {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء علىالناس}(الحج).
- {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله}(الجمعة).
إن أول وآخر وأهم فعل مركزي كما يقوم به محمد في حياته كلها، ولم يكن يشغله عن ذلك الأمر أي شيء من أمور الدنيا هو فعل الدعوة إلى الله، هو مناداة كافة الناس ليأتوا إلى الله، هو ربط الناس برب العباد لا بغيره.
ولقد تحمل رسول الله حمل هذه الرسالة بعد ما أعده خالقه عز وجل وأهله وزوده بالزاد الكافي لذلك، فحينما كان رسول الله شاهدا، كان واجبا أن يبلغ رسالة ربه، فهو الشاهد الأمين، لكنه حين قُبِضَ وغاب، تحملت هذه الأمة نفس الأمانة ونفس الرسالة، صارت إلى نفس الموقع الذي كان فيه رسول الله بمقتضى الانتماء إلى دينه وأمته، فهي الأمة التابعة له، هي الأمة التي اختير لها أن تكون في موقع الشهادة على الناس لا المشهود عليها كما هو اليوم-، هي الأمة التي تقوم بوظيفة الأنبياء بين الناس {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}، هي الأمة التي لا تتخلى عن واجب الدعوة إلى الله، وإن قصرت في هذا الواجب -وهي مقصرة- سيحصل التآكل والتمزق والهلاك.
إذاً، من خصوصيات هذه الأمة، أنها أمة داعية وفيها الخيرية العالمية {قل هذه سبيلي..} و{كنتم خير أمة..}، فهذا هو سبيله في الدنيا كلها، وهذا هو سبيل الأمة الإسلامية، هو الدعوة إلى الله عز وجل، وهذا هو سبيل كلِّ من تبعه {أنا ومن اتبعني} وهذا هو سبيلنا جميعا.. فنحن أتباعه واجب علينا واجب الدعوة، إذْ لا يمكن أن يستمر هذا الدين إلا بنشره وتبليغه ونقله للعالمين جميعا…
سنن البناء الدعوي
وحديثنا عن الدعوة إلى الله هو حديث عن البناء، بناء المسلم وفق المنهج النبوي الراشد، ذلك المنهج الذي أخرج الأمة الهادية التي تمثلت فيها القيادة والإمامة العالمية، وهو المنهج الفطري الصافي الذي راعى سنن الله في كونه وخلقه.
وهو السبيل الوحيد لكشف سنن الهداية الربانية والترشيد والبناء الحضاري الشامل.
ويخبرنا الله سبحانه وتعالى عن هذه السنن بأنها قوانين ثابتة لا تتبدل ولا تتغير {فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا}(فاطر). وإن معرفتها وتسخيرها والتمكن منها لا يتأتى إلا من السير في الأرض الذي حث الله عليه وفرضه على المسلم بقوله {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل}. وأن يكون النظر والفهم والعقل والعمل والاعتبار أدوات الفقه لسنن الله، وإلاّ فما المقصد من بعثة الرسل والأنبياء؟ وما قيمة القصص القرآني الخالد إذا لم يشكل عقلا مدركا للقوانين والسنن؟ {أوَلَمْ يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض، وعمروها أكثر مما عمروها، وجاءتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم. ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}(الروم) وفي ذلك ليعتبر أولو النهى والأبصار.
من هنا تبدو أهمية دعوة القرآن الكريم إلى التأمل في أيام الذين خلوا من قبل لاستنباط العبر وإدراك سنن الله في التغيير، ولو أن أهل القرى فعلوا ذلك فبحثوا في أحوال الأمم السابقة وأسباب سقوطها ونهوضها لكانوا أشد الناس اعتبارا وأعرفهم بسنن التغيير.
وإذا كان للبناء الدعوي سنن فأهمها :
< الاصطفاء سنة ربانية : لقد اصطفى الله عز وجل من عباده -هو من تفرّد بالخلْق والاختيار، لما في ذلك من الدلالة على الوحدانية والعلم والقدرة -الأنبياء الذين سيتحملون أمانة الدين ليبلغوا رسالة ربهم إلى أقوامهم وليرشدوهم إلى الهدى ودين الحق. ولقد دلنا الله سبحانه وتعالى على هذه السنة الربانية في عدة آيات من كتابه {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضُها من بعض والله سميع عليم}(آل عمران)، {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير}(الحج)، {الله أعلم حيث يجعل رسالاته}(الأنعام).
ولقد علمنا الخالق أن نتخذ من الاصطفاء منهجا لنا في أمور حياتنا كلها، فنختار وننتقي الأنْسب لكل عمل في جميع مجالات الحياة، قالت ابنة الرجل الصالح حاثّةً أباها على استئجار موسى عليه السلام ومنوّهة على الخصال المرشحة لاختياره للمهمة المنوطة به {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}(القصص).
وكما اختار سبحانه الأنبياء والرسل، جعل محمدا سيد ولد آدم عليه السلام، وهو آخر الأنبياء واللبنة الأخيرة في البناء، فإنه عز وجل اختار أمة محمد لحمل آخر الرسالات وأخْرجها خَيْر إخراج لتكون مؤهلة للشهادة على الناس ومؤتمنة على تركة الأنبياء {وجاهدوا في الله حق الجهاد هو اجتباكم}(الحج). وبمقتضى كل ذلك، كان الجيل القرآني الفريد الذي صنعه رسولالله على عينه، فعلى قدر الرسالة التي ستؤدى، يكون الإعداد والتأهيل من طراز خاص، ففقه دينه ووعى واقعه وبلغ دعوته بالعلم والحكمة… وهكذا، فإن الدعوة الإسلامية في حاجة إلى صالحين مصلحين من هذه الأمة من صفوة الخلق >لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله<، وقال أيضا : >يحمل هذا العلم من كل خلف عدُوله، ينفون عنه تحريف الضالين وتأويل المبطلين<، وبهذا الخلق يستمر الدين وينتشر فيقبل عليه الناس بقلوب متعطشة وعقول متفتحة ومتبصرة..
< التدرج سنة ربانية في شرعه وكونه… لقد كان منهج رسول الله في الدعوة إلى الله هو منهج التدرج الذي يوافق فطرة الله التي فطر الناس عليها وفطر عليها أمور خلقه.. وإن الدعوة الإسلامية اليوم في حاجة إلى رؤية استراتيجية عامة تراعي فقه الأولويات تحدد في تخطيطها الأهداف والوسائل والمراحل بشكل متدرج مناسب للاحوال والظروف..
واتباع التدرج سنة من سنن الله في خلقه، عليها أسس الملك، وعليها يسير في جميع جوانبه خلقا ورزقا، بل الدين نفسه ما نزل جملة واحدة منذ النبوة الأولى مع آدم عليه السلام وحتى النبوة الخاتمة مع محمد فلا شيء يأتي دفعة واحدة، فلله سنن في ملكه من سار عليها وصل ومن خالفها لم يصل..
وعلى هذا الأساس، فإن منهج الدعوة في عهد النبوة هو منهج اللبنة والتدرج والأخذ بيد الناس إلى تحقيق المقاصد الإسلامية وتقويم سلوكهم بشرع الله شيئا فشيئا، حتى وصل إلى درجة الاكتمال والكمال في بناء المجتمع الأنموذج وهو المنهج بكل خصوصياته في منطلقاته ووسائله وأهدافه ومراحله لم يخرج عن أن تكون النبوة الخاتمة لبنة في البناء الممتد مع رحلة الإنسان على الأرض، ولقد أكد هذا رسول الله بقوله : >مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعلالناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وُضِعت اللبنة؟ قال : فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين<.
ورسولنا الأسوة كان يدرك تماما أن صناعة الإنسان -بل الأمة- تتطلب التدرج، لأن ذلك من صميم منهج القرآن، والتعامل مع الناس لإخراجهم من تصورات الجاهلية الى الإسلام ومن الجهل إلى العلم، يقتضي الأخذ بيدهم رويدا رويداً، بل كان لمعظم آياته مناسبات أو أسباب.
وكان رسول الله في دعوته للناس يدرك أنهم منازل ودرجات، فكان يلتزم معهم بسنة التفاوت وأخذهم بالتدرج، وها هو توجيهه للمومنين الدعاة >أنزلوا الناس منازلهم< فأقر بذلك التفاوت بين الناس في الإيمان والعلم والخبرة. ولقد تنبه الإمام الشاطبي إلى هذا المنهج في الدعوة والتربية : (ليس كل ما يُعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علما بالأحكام، بل ذلك ينقسم : منه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق أولا يطلب نشره بالنسبة إلى مال أووقت أو شخص)(1).
ويبين ابن تيمية رحمه الله المنهج الواجب اتباعه في إحياء الدين وتجديد السنة، وهي الرسالة المنوطة بالدعوة الاسلامية الراشدة وبأبنائها يقول : (فالمحيي للدين والمجدد للسنة لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك(2).
وهكذا كان رسول الله يتخول الناس بالموعظة مخافة السآمة وكان يحذر أصحابه الذين يطيلون في الصلاة حتى لا تشق على الناس وحتى لا يفتنون في دينهم، وخلفاؤه من بعده وجميع فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم منضبطين بتوجيهات الوحي في دعوة الناس إلى الإسلام وفي تعليمهم وتربيتهم، واستطاع الصحابة من بعده السيرعلى نهجه فنشروا الإسلام وأقاموا الدين بمنهج العلم والحكمة والتدرج.
وإذا كان الدعاة إلى الله يراعون فقه السنة ليتحقق التغيير المنشود، فالمطلوب واقعا أن (نتفادى التسيب الحاصل ونتصف في تصوراتنا وأعمالنا بالانضباط المطلوب شرعا وواقعا)(3).
والدعوة الإسلامية اليوم إن أريدَ أن يُكتب لها الفلاح والتوفيق والتمكين ويقوى عودها وتنمو نموا طبيعيا في مختلف ميادينها، عليها أن تنهج نهجا مرحليا فيتحقق المراد والمقصود بإذن الله. وهذا المنهج لمْ يقتصر على مرحلة النبوة الخاتمة وإنما هو منهج النبوة في التاريخ الإنساني ووسيلة الأنبياء جميعا.
< اتباع سنة المرحلية..وهي سنة كونية في البناء والبعث والإحياء، ونستوحي هذه السنة الربانية من منهج السيرة النبوية، فلقد ارتضى لدعوته السير عبر مراحل محددة مضبوطة :
> مرحلة الأولى .. وقد نسميها مرحلة اقرأ وهي مرحلة تربوية إيمانية خالصة ينقطع فيها العبد لله، فيقبل على الله، وذلك بتربية نفسه وتزكيتها ومجاهدتها والرقي بها، صابرا على الأذى والبلاء محتسبا الأجر عند الله، ومن ثم يصير المؤمن ربّانيا لا تصاله المستمر بربه تعالى.. وإذا صار المؤمن ربانيا أصبح مؤهلا لحمل رسالة التكليف وتبليغها للناس…
> مرحلة موالية يتدرج فيها الإيمان تلقائيا إلى درجة تأثير المسلم في الآخرين، عبر مؤسسات دعوية متنوعة بحيث يصبح في موقع الإرسال ونشر المفاهيم والأفكار التي ترسخت في مجموع كيانه ووجدانه، فهي بداية الفكر الإشعاعي الذي سيشع نوره وضياؤه على المجتمع كله بكل شرائحه، والهدف من هذا التأثير والإشعاع التربوي الدعوي والفكري هو تكوين رأي عام إسلامي قوي فعال متعاطف مع الدعوة يتبنى فكرها وتصوراتها..
من هنا، بصورة تلقائية، تكون الدعوة في مرحلة أكثر بروزاً للمجتمع وأكثر انفتاحا عليه بفضل الجهود المركزة في فترات سابقة، وتكون الدعوة عميقة التجذّر في المجتمع بفكرها وثقافتها وإعلامها وتعليمها ونقابتها وخدماتهاالاجتماعية ومؤسساتها الاقتصادية والسياسية والمالية.. أي أن الدعوة تصبح في موقع القوة والإمامة.
الشروط الضرورية لإعادة الأمة إلى موقعها..
لكي تعود الأمة الإسلامية منسجمة مع الرسالة والأمانة التي حملها الله عز وجل لها، ولكي تكون في الموقع الذي أراده الله لها بين العالمين وهو موقع الشهادة على الناس، أوجب عليها تمثل بعض الشروط لكي تعود إلى التاريخ، وتعود الأمة إلى الإمامة العالمية.. أهمها :
> العلم : فهو المنطلق وهو أول ما بدئ به {اقرأ}، وهو أول أسباب الخلافة والاصطفاء وهو السبب الذي به أعطيت الخلافة لآدم وكانت به الحجة له على الملائكة.. العلم بمعناه الخاص والعام.. وما يبدأ به أساسا هو علم الكتاب والسنة إلى حد الفقه والاجتهاد، وكذا العلم بما في خلق الله من علوم الكون لتسخيره ومن ثمّوجب تحصيله وإعطاؤه حقه على مستوى الأفراد والطاقات وإعداد وتكثير أجيال من النخب المتخصصة، العلمُ فيها أقْدر، فلا يمكن للأمة الهادية القائدة أن تكون أمة أمية، فهذا مخالف لسنن الله في خلقه..
> الخلق الحسن إلى درجة الحكمة : إن الدين هو الخلق كما قال تعالى : {وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم) ويجب أن يكون الخلق الحسن لباس الأمة كلها و الرسالة التي نحملها كلها أخلاق، فلا يُشرف أبناء هذه الدعوة أن يحملوا في أعناقهم أمانة القدوة والدعوة وهم سيئو الأخلاق..
> الإيمان إلى درجة اليقين والثقة الكاملة في الله تعالى وبنصره :وذلك ما حصل لأنبيائه كموسى عليه السلام الذي قال القرآن على لسانه {إنما المومنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهَدُوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}(الحجرات). فهو القوة الداخلية الغالبة على ما سواها، وأبناء الدعوة الإسلامية مطالبون بالتربية على هذه المفاهيم حتى تشغلهم ولاية الله فإذا حلّت كان النصر من الله لأوليائه {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
> الجهاد : لا يكمل إيماننا ولا يصح إلا إذا كنا في مرتبة من مراتب الجهاد قال رسول الله : >لكل نبي حواريون، ثم تخلفه من بدعه خلوف، من جاهدهم فهو مؤمن، ليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان< وللجهاد صور ومجالات سواء على مستوى التعليم بشقيه، والتعليم هو أولى الأولويات وهو الذي يصنع الأجيال. أو الإعلام أو المال أو الجهاد على مستوى الخدمات الاجتماعية لمختلف فئات المجتمع أو على مستوى المؤسسات ا لعامة التي توجه الأمة..
< مريم الضعيف
—–
(1) الموافقات : 189/4 -190 نقلا عن المحجة.
(2) نفسه.
(3) الأنصاري، العمل الإسلامي بين التسيب والانضباط، المحجة ع 109 س 1999.