أنهكت الأحزاب الوطنية ثم السياسية الشعوب العربية بالمطالبة بالحرية والاستقلال، وبذلت هذه الشعوب أقصى ما تملك من جهود وأموال في سبيل ذلك، وقدمت تضحيات جسيمة حتى تحقق لها الاستقلال، كل بلدٍ حسب “التفصيل” المتفق عليه بين الدولة المستعمِرَة والقادة السياسيين المسؤولين عن الاتفاقية.. ثم كانت هناك محاربة اليهود والصهيونية، كذلك الاشتراكية والكفاية والعدل والحرية، ولتحقيق ذلك طولبت الشعوب بمزيد من التضحية فتحمست وضحت بالغالي والنفيس. وأخيراً وجدت الشعوب نفسها أنها ما تزال مستعمرة بل إن الاستعمار الجديد هو أسوأ من السابق. وشاهدت هذه الشعوب حكامها مثل ملوك الطوائف المستبدين الطغاة الغالّين (من الغلول) المثيرين للفتن الداخلية ومع جيرانهم من المسلمين الخاضعين لأعداء شعوبهم المتآمرين معهم عليها، المؤدين للجزية والمُُسهمين بجيوشهم لصالح الدول الصديقة لمحاربة الشعوب الشقيقة والمنفذين لأوامر أسيادهم بكل ذلة وخضوع وبأسرع مما هي مطلوبة به!!!
ورأت هذه الشعوب : كيف أصبح الثوار (جمع تكسير لثوْر على غير قياس) يثورون على المخلصين في شعوبهم ويسارعون في تكبيل أيديهم وتقييد أرجلهم والزج بهم في السجون وتقديمهم ليحاكموا في محاكم أسيادهم، بل والإجهاز على بعضهم سراً وعلانية، ويسلطون عليهم زبانيتهم الذين كانوا بالأمس يناضلون من أجل الحرية والاشتراكية والوحدة، فهاهم الآن يناضلون لقمع شعوبهم، بل نشاهد اليوم المجاهدين والمناضلين الأوفياء يساقون إلى سجون “السلطة” -الثوار سابقا- ويُقتل بعضهم برصاصها بجريمة أنهم يدافعون عن أرضهم وعرضهم ويفضلون الموت شهداء على أن يموتوا جبناء.
وقد تنَفَّس بعض أولي العقول الساذجة الصعداء عندما شاهدوا محاكم انتهاك حقوق الإنسان تعقد في أوربا لمحاكمة بعض الحكام الطغاة بأثر رجعي مثل بينوشتي، فما كان من طاغية البيرو فوجي موري إلا أن يفر إلى موطنه الأصلي اليابان. أما طغاة العرب وقتلة شعوبهم وخيرة رجالاتهم فأحجموا عن زيارة أوربا وأمريكا، بل إن بعضهم أفلت بجلده إذ احتمى بسفارته ثم نقل إلى بلده في طائرة خاصة بمساعدة أسيادهم، لكن بعد قيامة نيويورك والقوانين الجديدة التي شرّعتها أمريكا وسارعت الهند والقردة والخنازير إلى تطبيقها، وقع الإجهاز على الآمال في الحرية وحقوق الإنسان في بلاد العرب والمسلمين، واسترد الظالمون لشعوبهم من القباطنة (جمع قبطان على وزن شيطان) والكولونيلات والجنرالات استردوا مكانتهم واطمأنوا على حكمهم بل أصبح ظلمُهم مشروعا وطغيانهم عدلاً واستبدادهم رحمة والمطالبة بالحرية كفراً وبحقوق الإنسان فسقاً، وأصبحوا يرددون مع النمرود {أنا أحيي وأميت} ومع فرعون الذي قال : {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري}(القصص : 38) وقال لموسى : {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين}(الشعراء : 29) وقد صلّب السحرة الذين خروا سجداً وآمنوا برب العالمين صلّبهم في جذوع النخل بعد أن قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف..
إذن فمن المستبعد أن يتمتع جيلنابما كان يعدنا به زعماؤنا من حرية وكفاية وعدل واشتراكية ووحدة، لقد ولدنا في ظل الاستعباد وسنموت كذلك، والأمل أن يعيش أبناؤنا أحسن منا إن هم بدأوا سيرتهم خلاف سيرتنا، ونهجوا سيرهم على غير نهجنا وقادتهم غير قادتنا، وذلك بأن تكون خطوتهم الأولى : على الصراط المستقيم {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} وأن يسيروا على ذلك إلى أن يلقوا ربهم، وحينئذ يتمتعون بالحرية وحقوق الإنسان وينعمون بالكرامة والقوة والسؤدد والعدل والعزة {ولله العزة ولرسوله وللمومنين ولكن المنافقين لا يعلمون}(المنافقون : 8).
< د. عبد السلام الهراس