ليس الإعلام مجرد خبر وتسلية كما أنه ليس مجرد سلطة رابعة توظفها السلطة الأولى في تخدير الشعوب وتنميطها سواء بدعوى الديموقراطية أو بدعوى الزعامة الملهمة.بل إن الإعلام بمثابة الجهاز العصبي للجميع ودليل نمطه الاجتماعي والثقافي في وحدته وتنوعه في ماضيه وحاضره وكذا في آماله ومستقبله.ومهما تعددت الوسائط الإعلامية وتجددت أو تحزبت أو استقلت أو تنوعت وتخصصت، فلابد أنها تحمل رسالة تستجيب لعمق وظيفي هو خدمة الإنسان والمساهمة في صلاحه وحثه على الإصلاح، كما تستجيب لسقف أخلاقي لا يكتفي باحترام عقيدة المجتمع وقيمه، بل يساهم هذا الإعلام في تعميمها وتجديد الالتزام بها. فهو إعلام دعوة وبلاغ مبين.
كما أن هذه الوسائط الإعلامية مرتبطة بفضاء تنموي يستهدف المرحلة التنموية التي يعيشها المجتمع بمختلف قضاياها وأفكارها وصعوبتها.
هذه الرسالة الإعلامية تجعل المشهد الإعلامي جزءا من المشهد الثقافي العام ومكونا أساسيا من مكوناته،يستفيد من فاعليته وتجدده ويخضع لانكساراته ولحظات ضعفه .
من هذا المنطلق يصطبغ المشهد الإعلامي بخصائص المشهد الثقافي العام، خاصة ما يتعلق بشعور المواطن بفراغ إعلامي وثقافي رغم إحساسه بثقله وكذا تخلف المثقف والإعلامي على السواء عن قيادة عملية الإصلاح والتغيير وتوجيهها، خاصة إذا استحضرنا خلو هذه الثقافة وهذا الإعلام من أي مضمون يصنع الوعي ويتجاوز الغفلة والاستقالة،ويصنع الرجال والحقائق بدل الأصنام والأوهام،اللهم بعض التجارب القليلة التي لم تسلم من الحجز والمنع والتضييق.
ويمكننا من خلال هذه المساحة الإعلامية أن نقف على بعض ملامح هذا المشهد الإعلامي وخصائصه.
الانغماسية والتجزئة
لم يسلم المشهد الإعلامي من الهاجس الأمني الذي يسيطر على الطبقة المخزنية الحاكمة بالمغرب غداة الاستقلال، حيث أدت التعددية التجزيئية منذئذ إلى إغراق المجال بكثرة المنابر الإعلامية (مجلات،جرائد، أفلام…) ذات التوجه التغريبي أو الوظيفة التجارية البحتة أو الانحلالية الماجنة.هكذا أصبح المتلقي المغربي أمام مشهد انغماسي يغتال الهوية والأخلاق أدى إلى تمييع كل تجربة يطالها المنع والحجر، كما أغرق السوق بالكثير من المنابر أفقدت الإعلام مصداقيته وسلطته على المتلقي الذي أصبح مجرد مستهلك لما يصنع له .
ومما زاد من هذه الانغماسية الإعلامية ، التجزئة الحزبية والأيديولوجية التي يعرفها المغرب، فأصبحنا أمام إعلام حزبي مشتت ومتعصب.
بل إن هذه الانقسامية والتجزئة نلاحظها على الهيئة الممثلة للإعلام والصحافة والكتاب. فلا نقابة الصحافة ولا اتحاد كتاب المغرب ولانقابات الفنانين أعطوا النموذج لرجل الإعلام الوطني.
إن مشهداً إعلاميا مشتتا لا يمكن أن يعكس صورة حقيقية عن المجتمع ،هذا إضافة إلى الوافد الغربي والعربي الذي يزيد من هذه الانكسارات الإعلامية.
التوظيف السياسي
وفقدان الاستقلالية
إن ارتباط الإعلام بمفهومي الحرية والمسؤولية تجعله أكبر من أن يرتبط بلعبة سياسية أو رهانات حزبية ضيقة، وإذا كنا لا ندعو إلى تجاوز الإعلام الحزبي أو الرسمي فإن استقلالية الإعلام شرط أساسي لكي يؤدي مهمته برصد الحقيقة وخدمة القارئ على هامش المؤسسة التي تحتضنه.
إن السقف الأخلاقي للإعلام لا يجب أن يخضع لا لعقلية الصراع ولا لعقلية التوافق. فكثيرا ما نلاحظ الإعلام يتأرجح على الهامش صعودا وهبوطا، قوة وضعفا قياسا مع وضع الجهة التي تتبناه وتتحكم فيه. كما أن بعض المنابر الإعلامية التي تدعي الاستقلالية، تفتقدها نظرا لارتباطها بأشخاص أو خضوعها لتوظيف سياسي بسبب التبعية أو التعصب الأيديولوجي.
الانحسار والهامشية
رغم أن الإعلام بالمغرب (تلفزة،جريدة،كتاب..) أصبح مجرد سلعة استهلاكية، قليلا ما نلمس نفعها، فإن عدد الإصدارات ونسبة توزيعها وهروب المشاهد المغربي إلى القنوات الفضائية، كل هذا الانحسار وضعف هذه الاستهلاكية رغم المواد والبرامج الانحلالية والماجنة التي تحاول استقطاب شهوة القارئ أو المشاهد، كالصور العارية والأخبار الهامشية والأفلام الماجنة.ويزيد من هذا الانحسار تناقض اللغة السياسية مع الواقع لدى الصحف الحزبية والكتابة باللغة الفرنسية بسبب التشجيع الخارجي وكذا نوعية المواضيع الغارقة في الذاتية والاغتراب خاصة النسوية منها،والتي لا تستقطب القراء. أما على مستوى التلفزة بقانتيها فإن إصرارها على تغطية هامش المجتمع بمختلف تعفناته خاصة حياة الطبقة المتغربة وبرامج الشباب الموسيقية واهتمامات الغنائيين والرياضيين الأنانية وممارسات السياسيين الهجينة،كل هذا أدى إلى غلبة حياة هامشية على المشهد الإعلامي عوض الحاجات الأساسية للمواطن وكذلك تصلب أصنام على مداخل الإعلام تمنع كل تجاوب معه.
إن صناعة هذا الإعلام الهامشي لجمهور يتعامل معه لا يعني بتاتا أن نحاجه في القيام بوظيفته في دعم الأمن الثقافي للأمة وانسجام المجتمع وتقدمه.
ضعف الاحتراف والمهنية
لقد أدت السياسة الانقسامية في مجال الإعلام إلى تشجيع المتطفلين على هذا الميدان بعيدا عن كل مسؤولية مهنية، خاصة مع ضعف الإعلام الحزبي في القيام بدوره وتأطيره لفئات الشعب بل إن هذا الإعلام الحزبي نفسه يعاني من غياب هذه الاحترافية لدى صحفييه الذين لا يملكون أي مهنية مسؤولة أو خط تحريري واضح وناضج،بل يمكننا اعتبارهم مجرد موظفين وإعلاميين رحل، والمصيبة أنك تجد حزبا يمثل نسبة كبيرة في البرلمان وإعلامه لايمثل شيئا في الساحة ،كما أن غياب الاستقلالية أدى إلى ارتهاب الجرائد إلى أصحابها وهيئاتها فلنا أيضا صحف تراضي وتوافق مشاركة ومصانعة ومساندة نقدية وصدام ورفض عوض أن تلعب دورها الأساسي :التغيير من موقعها دون تقلب أو تبعية.
كما أن الإعلام الإسلامي يفتقد كثيرا لهذه المهنية والإتقان والتفرغ، الشيء الذي يناقض دعوة البلاغ المبين.
وتبقى بعض التجارب المستقلة رائدة في هذا المجال ونموذجا يجب وضعه في بؤرة الإصلاح الإعلامي بالمغرب.
إن المشهد الإعلامي بالمغرب في حاجة إلى تجاوز هذه العقبات والنقائص والتشكل من جديد كعامل إصلاح مرتبط بالشعب وقضاياه ومتجدر في هويتنا واختيارنا الحضاري وإن إعلام الأصنام قد ولى وإعلام الأوهام فقد سلطته التخديرية .
فهل لنا من سبيل إلى إعلام وطني حر ومسؤول، ومشهد إعلامي متخلق ومتحضر؟.
أوهام صنعها الإعلام
لعبة الإعلام المعاصر بالعقول أمر يؤكده نموذج الإنسان الاستهلاكي الذي ينازعنا وعينا، واغتياله للحقيقة والارادات مرتبط بنشأته في أحضان الرأسمالية المتوحشة وبين يدي الأنظمة الكليانية المتسلطة بدعوى الديمقراطية أو بقوة الديكتاتورية.
إن التـضليل الإعلامي للشعوب خلاصته إغراقها في مستنقعات من الأوهام تحجب رؤية الحقيقة وفرض الرذيلة حتى أصبح الكثير منها مسلمات ترسخت وكسبت الشرعية الإعلامية التي فاقت كل شرعية.
وهذه بعض تلك الأوهام :
- وهم النموذج الغربي : استطاع البث الإعلامي المكثف اتجاه العالم بمختلف الوسائط الإعلامية أن يحدث لدينا حالة من الاستسلام والاستلهام المرضي لكل تفاصيل حياتنا، صغيرها وكبيرها من مختبر التجربة الغربية، ولكن أيضا من مزبلتها. هكذا أصبحت الحقوق الغربية حقوق الإنسان عامة والتشريعات الغربية تشريعات دولية بإطلاق، والثقافة الغربية ثقافة عالمية بامتياز!!. والحقيقة أن منطق الحداثة الذي يحمله النموذج الغربي ينفي كليا النموذجية ويصبغها بالنسبية، لكن منطق الإعلام يصر على صناعة هذا الوهم واستمراره فينا.
- وهم الإرهاب الإسلامي : صدام الحضارات الذي تأسس عليه النموذج الغربي أبى إلا أن يصنع من كل مخالف عدوا وخصما، فما كان من إعلامه المهيمن إلا أن يستنسخ من خياله ومكره صوراً وأشكالا تربط بين الإسلام والإرهاب. هكذا أصبح كل تميز إسلامي في العقيدة أو السلوك أو اللباس إرهابا وعنفا، حتى أصبح حق مقاومة الاستعمار والارهاب الأمريكي إرهابا. نعم لقد ساهمت الحكومات العربية في نسج هذه الصورة حول خصومها ومعارضيها، لكن ها هي اليوم هي أيضا ضحية لهذه الصورة النمطية والاتهام الأمريكي لإيواء الإرهاب وتمويله وصناعته. لقد استهلك الإنسان الغربي هذه المنتجات الإعلامية السامة بكل سذاجة وسلبية وكذلك يكاد يفعل أبناء جلدتنا.
- وهم الأنظمة العربية : الأنظمة العربية وريث غير شرعي للحركات الوطنية التي حاربت الاستعمار، فهي نتاج تسلط على الحكم بانقلابات عسكرية أو شرعيات قبلية أو زعاماتية. وعلى كل حال فهي أبعد من أن تكون ممثلة لشعوبها وبالأحرى حاكمة بإذن منها. لكن هذا الوهم استطاع أن يصنع لنفسه وجوداً بفعل الاعلام الرسمي المبَارِك والمزكي لهذا الوضع. فأصبحت التلفزيونات بوقا للأنظمة، وأصبح قادة الأنظمة أصناما جاثمة على قلب الإعلام وبالتالي على أنفاس المشاهدين. وقد ساهم في هذا الوضع الإعلام الغربي الذي فضل في لحظة ما تلميع صورة الأنظمة غير الديمقراطية، خوفا من مستقبل الشعوب المرتبطة بهويتها وشرعية قادتها الطبيعيين. إن ارتباط الإعلام بهذا الوهم جعله هو أيضا مجرد وهم وصنم بعيدا عن كل مصداقية أو وظيفة اجتماعية. لقد تم تكليفه بصناعة وهم المعارضة والحياة الحزبية استكمالا لوهم النظام.
- وهم الفنانين والرياضيين : الفن جمال والرياضة فائدة. لكن مامعني أن نخرج هذه الممارسات من حياتها الهادئة وهامشها البسيط لتصبح بفعل الإعلام ظواهر إعلامية أربكت النموذج الاجتماعي للقدوة في الأخلاق والعمل. لقد أصبح الفنانون والرياضيون صورة المجتمع وقادته دون أن تكون لهم الوظيفة الاجتماعية لذلك. وفي المقابل تقوت صورتهم السلبية في الانحلال الأخلاقي والخواء الروحي والعلمي، والاستغلال الفاحش لغرائز الشباب، الشيء الذي جعلهم أعداء المجتمع وخصومه ووهما شاردا عن واقعه ومساره التحرري التنموي.
إن لكل وظيفة اجتماعية مساحتها التي لابد أن توازيها في المشهد الإعلامي، وإلا كان الإعلام أداة تخريب ومصدر خلل اجتماعي. فكيف يحضر الفنان والرياضي في المشهد الإعلامي دون أن يكون للعالم والمثقف والخيِّر أدنى حظ من ذلك؟ إنه منطق الإفلاس الاجتماعي الذي فرضه علينا الغرب ووضعه الاستكباري.
إننا مطالبون بأن نطرد هذه الأوهام من إعلامنا، وإذا امتنع سدنته عن ذلك فلنطردها هي وهذا الإعلام ذاته من كل حياتنا ونشجع الإعلام الجاد المسؤول.
ذ. مصطفى شعايب