إعلامنا في ظل حكومة التناوب
يعتبر الإعلام أكثر حضوراً وتجلياً وتأثيراً إلى جانب مجموعة من المؤسسات وعلى رأسها المؤسسة التعليمية ومراكز البحوث والدراسات، والقوى السياسية الاديولوجية والمؤسسات الاقتصادية و”الأمنية”، مع ملاحظة أن إعلامنا أضحى مكبلاً بقيود التبعية الفنية التكنولوجية والتنافس السلبي في السوق الاعلانية حتى أصبح رهينة لها من جهة، وبقيود السلطة ودعمها حتى أصبح ذليلاً لها من جهة أخرى.
والمتتبع لإعلامنا الوطني عبر مختلف محطات تطوره التاريخية يلاحظ أن وسائل الإعلام -بأنواعها- ظلت لا تمارس مهامها إلا بضوء أخضر من السلطات الحاكمة توجيهاً ودعماً، حيث ظللنا نشعر بغربة إعلامنا عنا باعتباره نافذة يطل علينا منها الحاكم لترويج مشاريعه تارة ،ولتسويغ سياساته الفاشلة أخرى، في وقت انعدمت (أو ضمرت على الأقل) فيه الاختيارات الإعلامية لدى المواطن الذي ظل مرهوناً لمشاريع إعلامية تكرر نفسها في كل يوم، وفي كل سنة، وفي كل عشرية..
وهذا ليس غريباً على “دولة الاستقلال” التي ظل طابع التوجيه يسود علاقتها بالمؤسسة التربوية، وطابع المهادنة ورسم الحدود يسود علاقتها بنظام القيم والمعتقدات الذي يؤطره الإسلام، ناهيك عن الطابع الدعائي المباشر في علاقتها مع إعلامها الرسمي الذي لم يكن يوماً معبراً حقيقياً وأميناً عن صوت الأمة ومرجعيتها إلا في فترات متقطعة نعتبرها “فلتات” سرعان ما كان المسؤولون عن الإعلام ينتبهون إلى “خطورتها” على خطهم المخزني في تدبير الشأن الإعلامي، وخاصة عندما كان الإعلام تهيمن عليه وزارة الداخلية الآمرة الناهية في عهد ادريس البصري البائد.
إن واقعنا الإعلامي لم يختلف يوماً عن حقائق واقعنا المأساوي العام حيث الصورة القاتمة التي يسودها التعتيم بل التزوير، ومن مظاهر ذلك :
< خط سياسات إعلامية تشكو انفصاماً حاداً بين الأهداف والإمكانات وبين الشعارات والممارسات، حتى في ظل حكومة “تقدمية” ظلت ردحاً من الزمن -حينما كانت معارِضَة- تمني الرفاق والرفيقات بفردوس حرية التعبير وخط النضال ا لديمقراطي الإعلامي الذي يعري حقيقة “المخزن” والطبقة الارستقراطية وغيرها من الألفاظ الجوفاء التي كانت تقصف بها عقول المغفلين في مجموعة من الساحات والمواقع النضالية آنذاك مثل الجامعات والمعاهد. ويُحْييك الحي يا عبد الحي لترى رفاق الأمس يروجون لثقافة البندير وهز البطون، وثقافة الشعوذة والسحر في دعم ما يسمى زوراً وبهتاناً بالأسابيع الثقافية، وتحويل قناتينا اليتيمتين إلى نوادي ليلية تجلب لها الراقصات وأشباه الرجال لترويج عفن ومجون أبعد ما يكون عن الفن الراقي الذي يهذب النفوس ويرقى بذوق المشاهد والمستمع، وينمي ثقافة المقاومة والممانعة ضد المستورد المائع، ناهيك عن البرامج التافهة التي تنفق من أجل إنتاجها أو استيرادها أموال طائلة، تسرق من جيوب المستضعفين. لم نكن نستغرب ذلك كثيراً في العهد البائد لأننا كنا نعتقد بموافقة “شن “لـ” طبقة” لكن الأمر لم يكن مستساغاً في ظل مسؤولية مثقف مناضل تقدمي ورئيس سابق لاتحاد كتاب المغرب عرفناه -ورفاقه- دوماً بالدعوة إلى العقلانية والعلمية ومحاربة الفكر الخرافي والماورائي و”الظلامي” على حد تعبير رفاق الأمس، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب : إن هذا نتيجة منطقية لتبعية الإعلام للسياسة.
< نصوص دستورية تؤكد على مبدأ حرية التعبير والنشر تفرغ من مضمونها بعبارات ناسفة تذيلها مثل : (بما لا يتعارض مع المصلحة العامة) و(كل ما من شأنه) السيء الذكر و(بمقتضى القانون)وعبارات غيرها كانت سبباً في تكميم أفواه مجموعة من الصحف والأسبوعيات بقرار تعسفي يرجع بنا إلى العهود الستالينية التي كانت غاية سيطرتها على مناحي الحياة تبرر وسيلة كتم الأنفاس، في وقت كنا ننتظر إصلاحات جريئة في الحقل الإعلامي تتوج بقانون يمحي عار الهيمنة والتوجيه والكبت، رغم ادعاء المسؤولين “نيتهم” الحسنة التي لن تتحقق إلا بعد انتهاء “ولايتهم” مع انتخابات 2002 بقدرة قادر.
< وجود صحافة رسمية تنعق مع كل ناعق وتطبل وتزمر مع كل جوقة ليس لها من العمل الصحفي إلا الارتزاق والذيلية والتبعية، وصحف وطنية يعتبرها البعض مثالاً نموذجياً لصحافة الولاء الأعمى لسياسات خرقاء ثبت مع مرور الأيام عجزها عن مسايرة طموحات الشعب المغربي المشروعة.
< وجود إذاعات موجهة تذيع ولا تسمع.
علاقة الإعلام بالثقافة
في أغلب بلدان العالم العربي -والعالم الثالث عموماً- يعتبر الإعلام الطفل المدلل للسلطة، في المقابل تظل علاقتها بالثقافة البانية الجادة في أحسن الأحوال من الأمور الثانوية، بل لا مانع من إلغاء وزارة الثقافة في بعض التشكيلات الحكومية -ومنها الحالية في المغرب- وتحويل مهامها إلى وزارة الإعلام (الاتصال)، في حين أصبحت الثقافة محوراً رئيسياً لعملية التنمية، والإعلام وسيلة مهمة لتحقيقها و تنشيطها.
فلا غرو إن وجدنا هربرت شيللر يؤسس نظرية “الامبريالية الإعلامية” التي تهدف إلى استخدام قوة الميديا Les Médias من أجل فرض القيم والعادات والنزعات الاستهلاكية كثقافة أجنبية وافدة على حساب الثقافات المحلية، في سعي لتنميط العالم وعولمة الثقافة الغربية كمُشكِّل أساسي للديمقراطية الغربية الحولاء التي يعتبرها فوكوياما -وتوابعها من حقوق الإنسان…- “نهاية للتاريخ” واستقرار النظام العالمي وآلياته على “إبداعات” العقل الغربي المهوس بالتفوق.
علاقة الإعلام بالسياسة
لايجادل أحد في أن الإعلام مشَكِّل رئيسي لأفكار الساسة والأحزاب.. من جهة، وأن معظم ما يعرفه الناس من أمور السياسة يأتيهم عن طريق القناة الإعلامية في ظل تقهقر الأدوات الأخرى مثل القناة الثقافية الجمعوية، والتظاهرة الفنية الهادفة… وفي ظل سعي حثيث من الدولة إلى تحويل “مواطنيها” إلى مستمعين ومشاهدين سلبيين وفي أحسن الأحوال محايدين.
وتجدر الإشارة في هذا السياق الذي لا ينفصل عن الاقتصاد إلى أن عولمة الإعلام ضمن مسمى “القرية الالكترونية” الجديدة يسهل كثيراً عولمة الاقتصاد وبالتالي إمكانية السيطرة وتوجيه اقتصاديات الدول المتخلفة عن ركب “السباق الالكتروني” المحموم.
نجاح إلكتروني وخواء روحي
لقد أصبحت تكنولوجيا الإعلام والاتصال تفرض علينا يومياً منطقها وقيودها، وغدت الحياة المادية اليومية تقوم على تكنولوجيا غاية في النجاح، في حين مازالت حياتنا الروحية تئن تحت وطأة الخواء والفراغ الروحي الذي أصبحت تتسع مساحته -بفضل هذه التكنولوجيا أيضا- في حياة الإنسان بما تيسره من فرص تعميم الإباحية والفاحشة عبر القنوات والمواقع الالكترونية… مما أدى إلى نسيان المطالب الوجدانية للبشرية وحاجتها الدائمة إلى المثل العليا.
وضمن هذا العدد الذي يصادف الذكرى الثامنة لانطلاق “المحجة” ستجدون أعزائي القراء ملفاً عن الإعلام يتكون من مجموعة من المقالات التي تحاول ملامسة قضية الإعلام الوطني منه على وجه الخصوص، سائلين الله تعالى أن يسدد خطانا على درب هذه المسيرة المليء بالمعوقات والتحديات وأن نجد مكاناً لائقاً ضمن اهتمامات القارئ الكريم، اهتماماً يشد من أزرنا ويدفعنا لبذل المزيد من المجهودات حتى تصبح “المحجة” منبراً يعبر عن انشغالات القارئ الحقيقية.
محمد البنعيادي