الإنسان خُلق لأداء وظيفة وهو محاسب عليها
{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} أي إذا كنتم لا ترجعون فهذا عبث، وإذا كانت القيامة غير موجودة فهذا عبث، لكن بما أن كل شيء بالحق والله خلق الكون بالحق، فإن النقيض هو الصحيح، أي أن الإنسان لم يخلق عبثا ولابد للانسان أن يرجع فإن لم يرجع فقد خلق عبثا.
{فتعالى الله الملك الحق} تعالى الله علواً كبيراً عظيماً، أن يخلق الناس ولا يحاسبهم، هذا أمر لا يليق بالذات الإلاهية، والله بعيد عن هذا التصور، الذي فيه أن الإنسان يخلق ويعيش ويموت ولايحاسب، إن كتاب الله عز وجل أسس هذه الأمة على العقيدة بالدرجة الأولى،ومن مُهِمَّات العقيدة الإسلامية ومن أسُسِها الإيمان الصادق، الراسخ بيوم القيامة، لأنه حينما لا يؤمن الإنسان بيوم القيامة فعلا، يكون الإ نسان فسر وجود الإنسان بأنه عبث، لماذا؟ لأن هذه الحياة الدنيا لا تتسع لمجازاة كل الناس. الحياة الدنيا ضيقة لا تتسع لمجازاة كل الناس، فرب أناس عملوا الخير وأطاعوا الرب، وأحسنوا بينهم وبين الله، ثم ظلمهم المجتمع لأنهم وجدوا في عصور الفساد، وعصر الفساد لا يرحب بالصالحين. وقد يظلمون، رب أناس مجرمين ساقطين، يُرْفعون فوق الرؤوس، وهم من شر خلق الله، لأن البشرية الضالة قد فقدت الميزان الذي تقوّم به الأشياء، نحن الآن في كتب التاريخ نقرأ عن فلان المظلوم، الشاعر المظلوم، أو العابد المظلوم، أو العالم المظلوم، أو الملك المظلوم.. فنحتاج إلى سنوات لأجل أن نعيد قراءة حياته ونخرج دفاتره، من أجل إنصافه تاريخيا. في الكتابات المعاصرة الآن يخرج الناس الكتب عن تاريخ وسلوك السلطان عبد الحميد الذي كان هو نهاية الخلافة في العالم الإسلامي، وعلى نقيضه قامت العلمانية في تركيا مثلا، فهذا الإنسان ظلم من قبل جميع العلمانيين.
لما انكشفت الأمور تبين أن مصطفى كمال كان تلميذاً وفياً ليهود الدونمة وأنه كان يريد الاجهاز على الإسلام وأنه فعلا فعل ما فعل. وغير المساجد وعطل الآذان، ومنع الحرف العربي وحارب اللباس وفرض التبعية،وقتل العلماء، وما إلى ذلك، ولكن الأمة مرت بسنوات قبل أن تكتشف هذا الإنسان، وتكتشف أن السلطان عبد الحميد أدّى الثمن مقابل رفضه تسليم الأرض لليهود، اليهود طلبوا منه أن يقتطع لهم شيئا من الأرض في فلسطين فرفض ذلك بقوة، فكان ما كان، وخُدِعَتْ الأمة الساذجة البسيطة فمضى زمان قبل أن يُكْتَشَف الحق، ويُعرف أن عبد الحميد من المظلومين، وَكَمْ في تاريخ البشرية من التافهين الذين يرفعون فوق الرؤوس،وهم أناس ساقطون، في خمسة عشر يوماً استطاع الإعلام أن يصور لنا أن رجلا مثل اسحاق رابين رجل السلام، والحمامة الوديعة التي فعلت الشي ءالكثير من أجل السلام في فلسطين يأخذ أرض الناس وهو مع ذلك رجل السلام ينال جائزة السلام ويقتسمه مع شريكه عندنا من أهل السلام. والرجل من الأربعينيات وهو عضو نشيط في عصابات الموت التي كانت مسلطة على الفلسطينيين، إسحاق رابين قتل مالا يقل عن ألف شخص من الفلسطينيين ومن المسلمين، وقال الإعلام كذا، والناس خدعوا طبعاً، ووسائل الإعلام يمكن أن تقلب الحقائق. العالم كله في هذا الاتجاه وكانت وفاة، رابين فرصة لإسرائيل لتظهر بمظهر القوي المؤثر في العالم لأنها استطاعت أن تؤثر في أكبر دولة، وأن تهز أكبر دولة، وكانت الولايات المتحدة، الدولة العظيمة التي لم ينَكَّسْ لها علمٌ قط ولم تنكّس رايتها حُزْنا على أحد. إلا على رجل واحد هو إسحاق رابين لمدة ثلاثة أىام. فذلك مظهر قوة النفوذ الصهيوني لتخويف الناس ولترهيبهم، ولجعلهم يأخذون مواقعهم وأماكنهم في هذا الطابور من الخاضعين للصهيونية.
إذن قلت إن الأرض ليس فيها عدل حتى يُنْصِف جيمع الذين يستحقون الانصاف، فلذلك يذهب كثير من الصالحين ضحية إشاعات أو أكاذيب، ويظهر كثير من التافهين كذلك، وترفع لهم أقدار، وربما يأتي زمان أوْلا يأتي يوم تنكشف فيه حقائقهم، لا ندري، فمتى يمكن أن يحاسب هؤلاء المسيئون ويجازى هؤلاء المحسنون؟ متى؟ لابد إذن من يوم تعاد فيه الأشياء إلى نصابها. يوم يتولى المحاسبة فيه من لا يُخْدَع فيها، وهو الله سبحانه وتعالى ،فيعطي كل إنسان ما يستحق.
فساد الإدارة نتيجة طبيعية لفساد النظام التربوي البعيد عن الإيمان بالحساب الأخروي
إذن فدائماً الاعتقاد باليوم الآخر سبب خير وسبب الرشد، ولذلك أسس الإسلام عليه نظامه وتصوره، لا يمكن أبداً أن ننتج رجلا صالحاً بعيداً عن فكرة اليوم الآخر. لماذا فشلت جميع المحاولات والتجارب التعليمية والتربوية، فالجامعة مثلا مؤسسة ضخمةذات أطر، ذات كفاءة، أشياء عظيمة جداً تُنْجز في الجامعة، ولكن الإنسان الذي تخَرّج من الجامعة فيه اللص المحترف، الإنسان المبْتزُّ في جميع القطاعات، تجده مهندساً، أو طبيباً، أو أستاذاً… في كل القطاعات، ونحن نشكو من الفساد دائماً، فساد أوضاع الناس، وفساد الإدارة، من أين فسدتْ الإدارة؟ فساد الإدارة ليس هو في الحقيقة فساد الإدارة، وإنما هو فسادٌ للنّظام التربوي عندنا، إن الإدارة إنما هي الواجهة التي تبدو فيها الأشياء، هي المرآة العاكسة لنوع التربية المتلقاة، إذا لم يتعلم الإنسان الخوف من الله، كيف تريد منه أن يخاف الله وهو يرى الأموال الطائلة تمر أمامه، ويرى الناس يتسابقون ويتدرجون في الحرام درجة بعد درجة، وسلماً بعد سُلّم وأنت تطالبه بالفضيلة، وتطالبه بأن يصْبِر على الفقر، فكيف يمكن للإنسان أن يصبر، إذا لم يكن له إيمان صحيح يلوذ به ويعتصم به. فسادُ الإدارة جزءٌ من فساد المجتمع حكوميا، وسياسيا وطبيا، معناه كل فرد له حقه في ذلك الفساد، كل فرد يتحمل نصيبه من ذلك الفساد، سائق سيارة أجرة يعتبر واحداً من الفاسدين على الرغم من أن فساده لا يضاهي فساد ذوي الكراسي الكبيرة لكنه فساد في النهاية : فإذا وجد ما يختلسه فسوف يفعل ذلك دون وازع شرعي. إلا إذا كان إنساناً ذا تربية دينية، إنساناً مؤمنا بالله، حينئذ تختلف الصورة ويختلف الحكم ويدخل في هذا التاجرُ وغيرُه.
اهتم الله عز وجل بذكر هذا اليوم وأكْثَر من ذكره مرَّات ومرات لأنه أساس التربية الإسلامية الصحيحة المتميزة والمتفردة. وكان من أسباب اهتمام الله عز وجل باليوم الآخر، أن اليوم الآخر ومفهومه، قد أوشك أن يكون يوماً دارساً أو معلومات دارسة : مندثرة، فالماديون، والوثنيون أنكروا اليوم الآخر. وقالوا : {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}-سورة الجاثية- اعترفوا على أنفسهم بانعدام وجود الحساب أو الجزاء، ولكن حتى أولائك الذين كانوا متدينين أدخلوا على أنفسهم، في عقيدتهم من الفساد ما أجهض حقيقة الاعتقاد بيوم القيامة عندهم.
جاء المسيحيون فقالوا : “نعم يوم الجزاء حق، ولكن عندنا فكرة أخرى، عندنا “يسوع” الذي يخلصنا من النار وينقدنا فلنعتمدْ عليه، الإيمان بالآخرة موجود، ولكن هناك من ينقذك منه، وليس هناك من جدوى بالتالي للاستعداد له أصلاً. هكذا عقيدة النصارى : اعتقادٌ بالآخرة وهدمٌ لها، من جهة هذه البدعة التي أحدثوها وهي أن عيسى سوف يكون شفيعهم، وسوف يكون منقذهم ومخرجهم من النار، فلا أحد منهم يحاسب.
وجاءت الكنيسة وأعطت للبابا الجالس على كرسي الرب كما يسمونه، هذا الحق في أن ينقذ الناس من عذاب يوم القيامة بناء على التفاوض الذي يجريه أي مواطن مسيحي مع الراهب. يمكن لأي مسيحي أن يتخلص من ذنوبه مباشرة بقدر ما يملك، يأتي الرجل منهم إلى الراهب يبوح له بأخطائه وهفواته وبذنوبه، وبما اقترف من الآثام. وفي نهاية المطاف يخرج له حساباً يقر له فيه بعظم ذنوبه، وبكبر فضائحه ومصائبه، والتي تستوجب ثمناً مكلفا، ليأخذ به صكًّا يُوصله إلى الجنة.
الإنسان الأوروبي ذكي وغبي : الإنسان الأوروبي الذي يعتقد في ورقة يؤدي عليها ثمنا ليدخل الجنة تكون الكنيسة إذن قد سهلت على الناس الفساد، وهونت عليهم المعاصي. إذن يوم القيامة حتى وإن كان مقرراً عند النصارى لكنهم أجهضوه ونسفوه حينما آمنوا من جهة أخرى بهذه الخرافات، الهنود البوذيون لديهم نفس التصور، عندما يقولون أن بوذا أو كريشنا سيكون هو المنقذ لنا يوم القيامة ولا نحاسب.
أما عند المسلمين فيوم القيامة شيء آخر : {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}-سورة النحل- لاراهب، ولا أب، ولا جد، ولا فقيه، في الوقفة التي يقول فيها الحق تعالى : {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً..}-سورة الإسراء- ولو كنت جاهلا بالقراءة فستعرفها آنذاك.
إن الإنسان في الإسلام موضوع أمام مسؤولية يواجه جزاء عمله دون وساطة، أو محام أو مدافع يجادل عنه، يرى عمله أمامه، وماذا عسى الإنسان أن يخفي عن ربه يومئذ؟ وهذا شأنه ألا يجعل المسلم يفكر في نفس الحيل التي فكّر فيها البوذيون أو المسيحيون..
من مقاصد العدل الإسلامي مراعاة الترجيح بين المصلحة والمفسدة
في يعض الأحيان قد تتكافآن المصلحة والمفسدة، ومن مقاصد العدل الإسلامي ترجيح هذا أو ذاك، فلو افترضنا أن إنساناً أخطأ، والرسول يقرر فيقول : >رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه< ولو تسبب هذا الشخص في حادث أتلف فيها متاعاً دون قصد منه فمن يتحمل خطأه؟ فهو على اعتبار القاعدة غير مسؤول عنها، والله تعالى لا يحاسب عليها، فالمصلحة والمسفدة متكافأتان : فإذا أجبرت المخطئ على أداء غرامة على مفسدته أضررت به، وإذا تجاوزت عن ضرره، أضررت بصاحب المتاع، فمصلحةُ هذا هي مفسدة ذلك، ومفسدةُ الأول هي مصلحةُ الثاني ما العمل إذن؟ يقتضي النظر إلى ذلك تحديد المفَرّط، واعتماد القاعدة التي تقول : “أن العمد والخطأ في أموال الناس سواء” والإنسان الذي يقتل مسلماً خطأ وضع الله تعالى له الكفارة الموجبة له فلو حفر الإنسان بئراً، ووقع فيه شخصٌ ما، ومات تجب عليه الكفارة، ويعتبر قاتلا لأن القتل حصل بسبب تقصير في التنبيه، أو ترك البئر دون غطاء، وحتى لو نام شخص في سطح منزل وتدحرج في نومه فوقع على شخص آخر فقتله فعليه الدّية، وبعض فقهاء المالكية يسميها شبه العمد.. ويرى الفقهاء، وحتى القانونيون منهم أنه إذا انفجرت طائرة مؤمّنة في الهواء، فلكي تصرف الديات لأهل الهالكين، لابد من افتراض وجود خطأ ولو جزئي : قد ترجع إلى الحالة النفسية لربانها، أو لخلل تقني، لم تغلق الباب بإحكام.. وهذا هو أسلوب الشريعة الإسلامية في الموازنة بين الخطأ والصواب، ولكن يبقى اجتهاداً بشريا لا يحقق عدالة اليوم الآخر.
د. مصطفى بنحمزة