إن القدوة ذات تأثير هائل في عملية التربية.. والله الذي خلق النفس البشرية يعلم سبحانه أن الموعظة وحدها لا تكفي، مهما يكن من بلاغتها وقوتها، ما لم يحملها قلب بشر، يتمثلها ويترجمها واقعاً مشهوداً أمام الناس، ثم يدعو الناس إلى اتباعها وقد بيّن لهم بالقدوة ا لعملية كيف يكون الاتباع.
سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلُق الرسول ، فقالت : >كان خُلُقه القرآن<(أخرجه أحمد).
وعلى هذا النحو نفهم قوله تعالى : {وما على الرّسُول إلاّ البَلاَغُ المُبين}(النور : 54). وقوله تعالى : {وأنزلنا إليك الذّكر لتُبَيّن للناس ما نزِّل إليهِم ولعلّهم يتفكّرون}(النحل : 44).. فليس البلاغ مجرد أن يقول الرسول للناس : إن ربكم يقول لكم كذا وكذا.. وليس البيان محاضرة ولا درساً نظرياً يلقيه الرسول على الناس.. وإن كان البلاغ بهذا المعنى، والبيان بهذا المعنى مطلوبين من أجل إعلام الناس بما لا يعلمونه من أمور الدين.. أما تحويل هذا العلم إلى واقع نفسي، يتحول بدوره إلى واقع عملي، فأمر آخر يحتاج أن يبلغ الرسول للناس كلام ربهم مترجماً إلى واقع، مشروحاً في عمل، حتى يقتدى الناس به، ويتعلموا في درس عملي كيف يقومون بتنفيذه، وفي ذلك درس للدعاة، نعود إلى تفصيله فيما بعد.
وقد كان رسول الله دائم الذكر لله، يعيش حياته كلها في معية الله، لا يغفل قلبه عن ذكره، ولا يفتر عنه لسانه، أدبه ربه فأحسن تأديبه، ومنحه من الطاقة ما يطيق به هذه الصلة الدائمة بالله.. وإنها بالنسبة للبشر لجهد جاهد..
ما يطيق البشر حتى الصحابة رضوان الله عليهم أن يقضوا حياتهم كلها على ذلك المستوى السامق الذي كان عليه رسول الله في صلته الدائمة بالله، وذكره الدائم له سبحانه وتعالى في جميع الأحوال واللحظات.
فتلك خصيصة خص الله بها الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، وخص منها سيد الرسل بالنصيب الأوفى، أما الصحابة رضوان الله عليهم، وهم خير البشر بعد الرسل، فقد شكوا إلى رسول الله أنهم حين يكونون معه يكو نون على حال، وإذا فارقوه كانوا على حال آخر غير حالهم وهم معه، فقال >والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة<(رواه مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجة).
ومع ذلك فإن الساعة التي شكا منها الصحابة رضوان الله عليهم، لم تكن ساعة هبوط ولا غفلة عن ذكر الله، ويكفي وصف الله لهم بأنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، إنما كان الفارق بينها وبين الساعة التي يكونون فيها مع رسول الله فارقاً في الدرجة لا في النوع.
ونعود إلى الوصف الرائع الذي وصف الله به الصحابة رضوان الله عليهم..
إنهم يذكرونالله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فيكف كان ذكرهم له؟ أهو الذكر الذي يؤدي إلى الفناء على طريقة الصوفية، باعتبار أن الفناء عندهم هو حقيقة الوجود؟ أم الذكر الذي يؤدي إلى حضور الطاقة البشرية في الواقع المشهود، وتجمعها لتعمل في مرضاة الله؟.
لقد كانوا يذكرون الله ليسألوا أنفسهم : ماذا يريد الله منا في هذه اللحظة؟ فإن كان متطلب اللحظة هو الجهاد في سبيل الله، كان الذكر هو الدافع إلى الجهاد.. وإن كان متطلب اللحظة هو تحصيل العلم الذي هو فريضة على كل مسلم، كان الذكر هو الدافع إلى تحصيل العلم.. وإن كان متطلب اللحظة هو السعي في تحصيل الرزق الحلال أو الإنفاق في سبيل الله أو عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني، كان الذكر دافعاً إلى ذلك… وإن كان متطلب اللحظة “عاشروهن بالمعروف”، كان الذكر هو الدافع إلى المعاشرة بالمعروف… وهكذا في سائر التكاليف الربانية وسائر مجالات العمل في واقع الحياة.
وكانوا يذكرون الله ليسألوا أنفسهم أين هم -اللحظة- من رضوان الله؟ أهم في الوضع الذي يرضى الله عنهم فيه؟ فإن كان كذلك حمدوا الله، وعملوا على اكتساب المزيد من رضوان الله بزيادة التقرب إليه بما يحبه من الأعمال، وإن كان غير ذلك ذكروا الله كذلك، ولكن ليغيروا ما هم فيه : {والذين إذَا فَعَلُوا فاحِشة أو ظَلَموا أنفُسهم ذَكَروا الله فاسْتَغْفروا لذُنُوبهم ومن يغْفِر الذّنوب إلا الله ولم يصِرُّوا على ما فَعَلُوا وهم يعْلمون، أولئِك جزاؤُهم مَغْفِرة من ربِّهم وجنّات تجْرِي من تحْتِها الأنهارُ خالِدِين فيها ونِعْم أجرُ العاملين}(آل عمران : 135- 136).
ولننظر في الآيات التي أشرنا إليها من سورة آل عمران، لنرى ما الذي أدى إليه الذكر : {الذِين يَذْكُرون الله قِياماً وقُعُوداً وعلى جنُوبهم ويتفكّرون في خلق السمّوات والأرض}(آل عمران : 191).
لقد كا ن متطلب اللحظة، وهو مطلوب في كل لحظة، التفكر في خلق السموات والأرض، للتعرف على ما في بنيتها من الحق : {خلقَ السّمواتِ والأرضَ بالحَقِّ وصوّرَكُم فأَحْسن صُوَرَكُم وإِليه المَصِير}(التغابن : 3). {وما خلقْنا السّماء والأرض وما بينَهُما باطِلا ذلك ظَنُّ الذِين كفَرُوا فوَيْلٌ للذِينَ كَفَرُوا من النّار}(ص : 67).. ولقد أدركوا بما علمهم ربهم، وبما رأوا من انتظام السنن ا لربانية، سواء ما يتعلق منها بالكون المادي أو بالحياة البشرية أن خلق الكون لا يمكن أن يكون باطلاً ولا عبثاً، وأن الحكمة ملحوظة في كل جزئية فيه.. وحين يصل تفكيرهم إلى هذا المدى، يدركون أن الحياة الدنيا ليست هي نهاية المطاف، ولا يمكن أن تكون.
وهنا ينقلهم ذكر الله، والتفكر في الحق الكامن في هذا الخلق إلى ذكر اليوم الآخر، وما فيه من جنة ونار، فيستعيذون بالله من الناس : {ويتفكّرون في خلق السّموات والأرض ربّنا ما خلَقْت هذا باطِلاً سُبحانك فَقِنا عذاب النّار}(آل عمران : 191).
وإذا تذكّروا النار فزعوا إلى ربهم أن ينجيهم منها : {ربّنا إنّك من تُدْخِل النّار فقد أخزَيْته وما للظّالِمين من أنْصار}(آل عمران : 192).. وكأنما يقدمون بين يدي مولاهم مؤهلاتهم التي يرجون بها النجاة من النار : {ربّنا إنّنا سمِعْنا منادِياً يُنادِي للإيمان أن آمِنوا بربِّكم فآمنّا ربّنا فاغْفِر لنا ذُنُوبنا وكفّر عنا سيّئاتِنا وتَوَفَّنا مع الأبَْرار، ربّنا وآتِنا ما وعدْتَنا على رُسُلِك ولا تُخْزِنَا يَومَ القِيامة إنّك لا تُخْلِفُ المِيعاد}(آل عمران : 193- 194).
ويستجيب الله لهذه الضراعة الحارة من عباده، ولكن لأي شيء استجاب سبحانه؟ أَلِمُجَرّد الذكر؟ أَلِمُجَرّد التفكر؟ ألمجرد التدبر؟ ألمجرد الضراعة؟ وكلها مطلوبة من المؤمن الصادق الإيمان : {فاسْتجاب لهم ربُّهم أَنِّي لا أُضِيع عمل عامِل منْكم من ذكرٍ أو أنْثَى بعْضُكم من بَعض فالّذِين هاجَرُوا وأُخْرِجوا من دِيارِهم وأُوذُوا في سبِيلي وقاتَلُوا وقُتِلوا لأُكَفِّرَنّ عنْهم سيِّئاتِهم ولأُدْخِلَنَّهم جنّاتٍ تجْرِي من تحْتِها الأنهار ثَوَاباً من عند الله واللّهُ عندهُ حُسْن الثواب}(آل عمران : 195).
هنا الدرس التربوي في هذه الآيات التي بدأت بهذا الوصف الرائع الذي وصف به الله صحابة رسول الله : >الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم<.. إنه الذكر الذي يؤدي إلى العمل المشهود في واقع الأرض.. هاجروا و أخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيل الله فصبروا، وقاتلوا وقتلوا… فاستجاب لهم ربهم.
وعلى هذا الذكر ربى رسول الله أصحابه، بالقدوة أولاً في شخصه الكريم، ثم بمواعظه وتوجيهاته، ومتابعته المستمرة وعنايته ورعايته، حتى صاروا إلى تلك القمم البشرية التي لا مثيل لها في التاريخ.
ذ محمد قطب