إذا اتضح لنا مستوى التطوع النبيل الذي امتاز به الصحابة (تجاوز الواجبات والمفروضات إلى المندوبات..) فقد اقتربنا من تصو ر الجهد الذي بذله المربي الأعظم للارتفاع بتلك النفوس إلى ذلك المستوى الرفيع الذي وصلت إليه في عالم الواقع، وهو مستوى غير مسبوق في تاريخ البشرية..
وربما يساعدنا على تصور هذا الجهد أن نتعرف على الأداة العظمى التي استخدمها الرسول في تربية أصحابه، وهي الأداة اللازمة لكل تربية على منهج الإسلام في أي جيل من أجيال الإسلام، وهي تعميق الإيمان بالله واليوم الآخر.
ممارسة الحياة في معية الله..
لاشيء يمكن أن يرتقي بالنفس درجة وراء درجة مثل ذلك الإيمان. إنه هو الذي يوفر الحوافظ التي تحفظ النفس من الانفلات، والهبوط مع ثقلة الشهوات، ثم يحبب إليها الارتفاع في مدارج السالكين إلى أعلى الدرجات.
وعلى قدر ما يعيش الإنسان مع الله، يحبه ويخشاه، ويذكره في سره وجهره، ويبتغي رضاه، وعلى قدر ما يعيش على ذكر من اليوم الآخر وما فيه من بعث ونشور، وحساب وجزاء، وجنة ونار، تكون قدرته على ضبط شهواته، وقدرته على تمثل القيم العليا، وقدرته على إعداد نفسه للجهاد في سبيل الله، ورغبته كذلك في التطوع النبيل ابتغاء مرضاة الله.
وإذا تتبعنا آيات الذكر الحكيم فسنجد فيها تركيزاً شديداً على تلك الأمور بالذات..
فأما التعريف بالله، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وقدرته التي لا يعجزها شيء، وعلمه الذي لا يعزب عنه شيء، ورقابته التي لا تغفل عن شيء، ورحمته التي وسعت كل شيء، وجبروته الذي لا يقف أمامه شيء، فأوضح من أن يشار إليه في كتاب الله الكريم، وهو الموضوع الأول والأكبر من موضوعات الكتاب الكريم، من حيث المساحة التي يشغلها، والتركيز المستمر عليه، وبيان مقتضياته، وهي عبادة الله وحده بلا شريك، في الاعتقاد القلبي، وشعائر التعبد من صلاة وصيام وزكاة وحج، واستعانة واستغاثة، وذبح ونذر ودعاء، والالتزام بما جاء من عند الله من أوامر ونواه وتشريعات وتوجيهات وأحكام.
وأما مشاهد القيامة، مع نوع أساليب عرضها، وتعدد مو اضع ذكرها والتذكير بها، بنعيمها وعذابها، فأمر واضح كذلك لمن يتدبر كتاب الله.. ولكن يلفت النظر في السور المدنية خاصة الربط بين الأمرين معاً : الإيمان بالله والإيمان باليوم الآ خر، سلباً وإيجاباً، وربط ذلك بالعقائد والشعائر والشرائع وأنماط السلوك والأخلاق، سواء عند المؤمنين بهما أو الكافرين : {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصّابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعِمل صالحاً فلهم أجرُهم عِند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}(البقرة : 62). {وإذا طلّقتم النساء فبَلغن أجلهن فلا تعضُلُوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يُوعظ به من كان مِنكم يومن بالله واليوم الآخر}(البقرة : 232)، {يا أيّها الذين آمنوا لا تُبْطلوا صدقاتِكم بالمنّ والأذى كالذي يُنفق مالَه رئاء النّاس ولا يُومن بالله واليوم الآخر}(البقرة : 264)، {يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأُولي الأمر منْكم فإن تنازَعتم في شيء فرُدُّوه إلى الله والرّسول إن كُنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خَيرٌ وأحْسن تاويلاً(النساء : 59)، {قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرّمون ما حرّ م الله ورسوله ولا يدينُون دين الحقّ من الذين أُوتُو ا الكتاب حتّى يُعطوا الجِزْية عن يدٍ وهم صاغِرُون}(التوبة : 29)، {لقد كان لكُم في رسُول الله أُسْوة حسنةٌ لمن كان يَرْجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}(الأحزاب : 21). وإذا كان الربط مباشرا في السور المدنية بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، فهو موجود في السور المكية كذلك وإن ذكر كل منهما على حدة : {إلهكم إله واحد فالذين لا يُومنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مُستكبرون}(النحل : 22)، {وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطَبهم الجاهِلون قالوا سلاما، والذين يبِيتون لربّهم سجّدا وقياماً، والذين يقولون ربّنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما، إنها ساءت مستقرّا ومُقاما، والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلْق أثاماً، يُضاعف له العذاب يوم القِيامة ويخْلد فيه مُهانا، إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يُبدّل الله سيّئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيما، ومن تاب وعمِل صالحاً فإنّه يتوب إلى الله متاباً، والذين لا يشْهدونالزّور وإذا مرّوا باللّغو مرّوا كراماً، والذين إذا ذُكِّروا بآيات ربّهم لم يخرُّوا عليها صمّاً وعُمْياناً، والذين يقُولُون ربّنا هَبْ لنَا من أزْواجِنا وذرّياتنا قرّة أعينِ واجعْلنا للمتّقين إماما، أولئك يجْزون الغُرفة بما صبروا ويُلقْون فيها تحيّّة وسلاما، خالدين فيها حسُنت مُستقرا ومقاماً}(الفرقان : 63- 72).
دلالات تربوية : أدوات الصعود
والدلالة التربوية لهذا الأمر أن الإيمان بالله واليوم الآخر، كلّ قائم بذاته، ومتعمق بذاته في أغوار النفس، ثم مرتبطين متلازمين متكاملين، هو الأداة الكبرى في منهج التربية الإسلامية التي تؤتى ثمارها المرجوة بالتعهد المستمر والمتابعة اليقظة الدؤوب.. وهذا هو الذي قام به رسول الله ، بالصورة الفذة التي لا مثيل لها في التاريخ..
لقد كان عمله الدائم ، في مكة خاصة، هو تعميق الإيمان بالله، وتعميق الإيمان باليوم الآخر في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم، ثم الربط بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر في تلك النفوس، حتى أصبح أحدهما مذكراً بالآخر تلقائياً ومؤدياً إليه : إن ذكّر الإنسان بالله ذكر معه اليوم الآخر، بنعيمه وعذابه.. وإذ ذُكِّر باليوم الآخر ذكر الله سبحانه وتعالى، مالك الدنيا والآخرة، ومالك كل شيء في الوجود.
وتبدو القمة التي وصل إليها في تربية أصحابه بهذه الأداة الضخمة في هذا الوصف الرائع لهم في كتاب الله، بعد أن نهلوا من هذه التربية الفذة، وأخذوا منها بأوفى نصيب : {إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليْل والنّهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سُبحانك فقِنا عذاب النّار، ربّنا إنك من تُدْخِل النّار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار، ربّنا إننا سمِعْنا مُنادياً يُنادي للإيمان أن آمِنوا بربّكم فآمنا ربّنا اغفِر لنا ذُنُوبنا وكفّر عنا سيّئاتِنا وتوفّنا مع الأبرار، ربّنا وآتِنا ما وعدتنا على رسلك ولا تُخْزِنا يوم القِيامة إنّك لا تُخْلِفُ المِيعاد}(آل عمران : 190- 194).
بين الذكر والغفلة
هذا الوصف العظيم من رب العالمين يصور تلك القمة الرائعة. إن ذكر الله لحظة يحدث في النفس آثاره، فما بال الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، أي في جميع أحوالهم؟ كيف يكون أثر هذا الذكر في نفوسهم؟!
من جهة أخرى فإ ن ذكر الله لا يخطر في النفس وهي هابطة منجذبة إلى ثقلة الشهوات.. فتلك هي لحظات الغفلة، التي يغفل فيها الإنسان عن ذكر الله، إنما يذكر الإنسان ربه وهو متجه نحو الصعود، فإذا استصحبنا هذا المقياس فكل لحظة ذكر هي في الحقيقة لحظة صعود.. فكيف بالذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم أي في جميع أحوالهم، كم صعدوا وكم ثبتوا على الصعود؟! إنه شيء رائع حقاً حين نتصوره على حقيقته.
إن الصعود أمر شاق على النفس البشرية حتى تتعود عليه! لأن قبضة الطين ذات ثقل يميل دائماً إلى أسفل، ويحتاج إلى رفع مستمر حتى يتوازن، ويحتاج إلى رفع أكثر لكي يغلب دافعُ الصعود على دافع الهبوط.
حقيقة إن أداة الرفع موجودة في كيان الإنسان، في أعماق فطرته، وهي النفخة العلوية فيه : {إذْ قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشراً من طين، فإذا سوّيته ونفخْت فيه من رُوحي فقعوا له ساجدين}(ص : 71- 72).
ولكن هذا لا ينفي أن هنا ك جُهداً ينبغي أن يبذل لتدريب هذه الأداة على العمل، وهو الجهد الذي تقوم به التربية، فبينما تعمل الشهوات تلقائياً في الكيان البشري بطبيعة كونها محببة ومزينة للإنسان، ومثيراتها حاضرة في ألوان المتاع التي تزخر بها الحياة الدنيا، فإن أداة الضبط التي تحبس الشهوات في نطاق معين، لترتفع بالطاقة الحيوية بعد ذلك إلى المجالات العليا، مجالات القيم ومعالي الأمور التي يحبها الله.. هذه الأداة في حاجة إلى تدريب لتقوم بعملها، كما يحتاج الطفل إلى التدريب على المشي ليقاوم ثقلة الأرض، مع أن القدرة على المشي كامنة في كيانه منذ خلقه الله، وإذا لم يدر فقد يتأخر مشيه كثيراً، أو يصبح مقعداً يزحف زحفاً على الأرض : {زُيّن للناس حب الشهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخَيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عِنده حُسن المآب، قل أؤنبّئكم بخير من ذلكم للذين اتّقوا عند ربّهم جنّات تجْري من تحتها الأنْهار خالدين فيها وأزواج مطهّرة ورضْوان من الله والله بصِيرٌ بالعباد، الذين يقولون ربّنا إنّنا آمنّا فاغْفِر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار، الصابرين والصّادقين والقانِتين والمُنفِقين والمُستغفرين بالأسحار}(آل عمران : 14- 17).
تلك ثقلة الشهوات، وهذه أدوات الصعود.
الانسان والتوازن بينقبضة الطين ونفخة الروح
مزية الإسلام العظمى في هذا المجال أنه وهو يعمل على رفع الإنسان إلى أعلى لموازنة ثقلة الشهوات لا يدفعه إلى منطقة ينعدم فيها جذب الأرض، كما تفعل الرهبانية والهندوكية والبوذية، فهذه قد تيسر للإنسان التحليق في الفضاء، ولكنها تؤدي به إلى إهمال عمارة الأرض وحفظها من الفساد بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلها تكاليف ربانية أمره بها الله، لأنه يعلم أن فيها صلاح الحياة والإنسان، وهو الذي خلقه ويعلم ما يصلحه وما يصلح له : {ألا يَعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}(الملك : 14)، {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها}(هود : 61)، {الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموُا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}(الحج : 41)، {يا أيها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تُنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتُجَاهِدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كُنتم تعلمون}(الصف : 10- 11).
وكذلك فإنه وهو يوجه الإنسان إلى عمارة الأرض، والاستمتاع بالطيبات فيها، لا يتركه يغرق في حمأة الشهوات، لأنه عندئذ يترهل ويفسد، ويستثقل التكاليف التي يتطلبها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكروالجهاد في سبيل الله، لأنها تبدو في حسه موانع تعوّق الإنسان عن المتاع : {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصِداً لاتّبعوك ولكن بعُدت عليهِم الشُّقة}(التوبة : 42)، {وإذا أنزِلت سورة أن آمنوا بالله وجاهِدوا مع رسوله استأذنك أولو الطّول منهم وقالوا ذرْنا نكن مع القاعدين، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبِع على قلُوبِهم فهم لا يفقهُون}(التوبة : 86- 87).
وإنما يعمل الإسلام على أن يقوم الإنسان متوازناً بين العنصرين المكوّنين له : قبضة الطين ونفخة الروح، عاملاً في الدنيا وعاملاً للآخرة في ذات الوقت : {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامْشوا في مناكِبها وكلوا من رزقه وإليه النّشور}(الملك : 15).
ذ محمد قطب