شاع بين كثير من عامة الناس وعدد من خاصتهم المثقفين، أن العلوم والمعارف التي جاء بها الإسلام وحض على طلبها وتعلمها والاستفادة منها وإشاعتها بين الناس، هي العلوم الشرعية والمعارف الدينية فقط التي تبصر المسلمين بشؤون دينهم : عقيدة وعبادات وأحكاما، ونشأ عن ذلك أن مصدري الإسلام : القرآن الكريم والسنة النبوية، لا يتجاوزان العلوم الشرعية والمسائل الدينية انطلاقا من قوله تعالى : {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون(التوبة : 122). وقول الرسول : >من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين<(1) ودعائه لابن عباس ] : “اللهم علمه الدين وفقهه في التأويل” أي فهمه تأويله ومعناه(2)، وأنه لا صلة للوحي بالعلوم الدنيوية التي اصطلحنا على تسميتها بالعلوم العصرية.
وقد ساد هذا الظن، ولا يزال، في العقول لعهود طويلة، واطمأنت إليه النفوس وارتاحت إليه الخواطر التي تعاملت مع القرآن والسنة من هذا المنظور ذي البعد الواحد، وأقامت عليه فرضية أخرى لا تقل خطرا عن سابقتها، وهي أن العلماء في المفهوم الإسلامي، هم أولئك النفر المتخصصون في الدراسات الإسلامية والعلوم الشرعية بمختلف أنواعها وأصنافها وما تقوم عليه من آليات ومعارف أخرى، تهيئ لدراستها والتخصص فيها، ومن ثم فإن العلماء، فقهاءُ في الدين وشريعته، ومعرفة أحكامه ينشرون تعاليمه ويبذل الأئمة الأعلام منهم الجهد لاستنباط أحكامه الفرعية التي تتوقف عليها حياة الناس…
وهذا المفهوم الذي استقر في الأذهان لأعصر مديدة ومنذ بداية استبعاد رجال العلم الشرعي عن الحكم، يجد فيه اليوم دعاة العصرنة والحداثيون من العلمانيين ضالتهم المنشودة للإبقاء على هذه الشريحة من المثقفين بعيدة عن المشاركة في النظر والتقرير في حياة الناس، كما يجد فيه بعض من المنتسبين للثقافة الشرعية، راحتهم التي استكانوا إليها، على الرغم من أن هذا الظن لا يتفق مع طبيعة الإسلام ولا تقره تعاليمه وأحكامه، ولا ينطبق مع نصوصه ومقاصده وأهدافه، بل يتناقض مع مصادره الأساسية وخاصة القرآن والبلاغ النبوي، ولا ينهض على أسس من الشرع والعقل، أو مرتكزات من الفهم السليم التي تزن الأمور بميزان الوحي والعقل.
ودليلنا على خطل هذا الظن وفساد هذا الزعم أمور كثيرة، أهمها :
أ- أن القرآن الكريم ليس كما يعتقد بعض الباحثين والدراسيين ، كتاب عقيدة وعبادة وتشريع فقط، وأنه لا صلة له بالعلوم الكونية التي اصطلحنا على تسميتها بالعصرية والحديثة، ذلك أن مجموع آيات القرآن : 6249 آية لم يرد منها ما يتعلق بالأحكام والعلوم الشرعية سوى 350 آية عند المضيقين أو 500 آية عند المتوسعين، مما يكون 8% من آيات الله تعالى في الذكر الحكيم فقط، في هذا المجال الأساسي والحيوي في الإسلام، أما بقية الآيات الأخرى 92% فتناولت نسبة مهمة منها مجال العلوم الكونية على اختلاف أنواعها مما هو معروف في الدراسات العلمية القرآنية.
ب- إن النظرية القرآنية الإسلامية للعلوم شمولية متكاملة، لا تجزيئية مبتسرة، ولا فرق فيها بين العلوم الشرعية الدينية والعلوم الكونية العصرية، باعتبار أن الإسلام لا يفصل بين ما هو ديني شرعي مقدس، ودنيوي زماني، أي بين الشريعةوالعلوم والحياة، فالعلوم الطبيعية مثلا من وظائفها أنها سبيل إلى معرفة الله تعالى وسننه في الكون {ألم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يومنون}(الأنبياء : 30).
جـ- إذا كان علماء الغرب في عصور نهضتهم وتحررهم من كهنوت رجال الدين، قد فصلوا بين الدين والعلم، معتقدين أن منشأ العلوم هو فكر الإنسان لا الوحي الرباني، فإن ذلك كان بسبب التسلط الكنسي ومحاربته للعلم والعلماء، والصراع الذي عرفته أوروبا بين المسيحية المحرفة والعلم، وهذا ما ليس واردا عندنا نحن المسلمين، حيث لم يعرف تاريخنا الإسلامي هذا النوع من الصراع والانفصام بين ما هو ديني شرعي، وعلمي دنيوي، بل ا زدهار العلوم في الحضارة الإسلامية والرفع من قيمة العلم، قام على أساس الدعوة الإسلامية التي رفعت من شأن العلم الذي ورد ذكره مصدرا في القرآن مائة وست مرات {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}(المجادلة : 11).
وغني عن القول أن الاختيار المنهجي القائم على فصل العلوم، كان خطرا على بعض أنصاف المثقفين والطلاب في المعاهد “العلمية الحديثة” حيث إنهم -تحت هذا المنظور التحديثي العلماني- أخذوا يعتقدون أن العلوم لا صلة لها بالإسلام والوحي، وأنها من ثمرات العقل الإنساني الأوروبي، ومن ثم فإنهم يبحثون عن الإجابات لكثير مما يحدث في هذه الحياة من مسائل وقضايا، في العلوم العصرية والإنسانية، مما تسرب معه إلى فكرنا الإسلامي الحديث، وكذا إلى مناهجنا التربوية، نوع من العلمنة الذي يفصل الشرع عن العلم، والعقل عن النقل، والدين عن الحياة، وينفي النظرية الإسلامية لوحدة المعرفة التي تؤكدها وحدة الحقيقة.
د- إن المعارف التي يدعو إليها الإسلام والعلم الذي يحض على تعلمه، ليس هو العلم الشرعي فقط كما قد يتبادر إلى الذهن، بل المراد كل العلوم الشرعية والدنيوية العصرية، بما فيها العلوم الطبيعية وغيرها مما يستجد في الساحة العلمية، وقول الله تعالى : {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فسرت بأن المقصود بالعلماء هنا علماء الطبيعة، لأن هذه الآية جاءت بعد أن ذكر الله تعالى النبات والدواب والجبال، مما لا يعرفه حق المعرفة إلا علماء الطبيعة الذين يعرفون الله تعالى بآثار صنعته، ويدركونه بآثار قدرته، ويستشعرون حقيقة عظمته برؤية إبداعه ومن ثم يخشونه حقا ويتقونه حقا(3) وتكون خشية تتكامل فيها المعرفة الشرعية بالعلوم الكونية فتبلغ بذلك أقصى درجاتها.
وهذا لا يعني التقليل من خشية علماء الشريعة لله تعالى، ذلك أن الكل يخشى الله ويتقيه من الزاوية التي تعنيه، فإذا كان عالم الجيولوجيا يترسخ إيمانه بالله عن طريق النظر في الأرض وطبقاتها، فإن عالم الشريعة يستكشف بفطرته وتأملاته في القرآن وعبره، وأحكامه وتشريعاته، ما يربي فيه الخشية والتقوى، وكل من علماء الكون وعلماء الشريعة يتعاونون على ما يفيد الإنسان ويجعله مومنا في معاشه ومعاده.
هـ إن للعلوم الكونية المعاصرة في الإسلام، سواء منها : الطبيعية أو الإنسانية أو الاجتماعية، ضوابط وقيما وأحكاما شرعية، تجبمراعاتها في استخدامها والانتفاع بها وإشاعتها بين الناس، وما ينبغي أن تبقى متفلتة منها كما هي اليوم، وهذه الضوابط والأحكام والقيم من شأنها أن تربط هذه العلوم بمظلة الشرع الذي يحمي الأمة من انحرافاتها وإفسادها للأفراد والجماعات فليس من العلم الإنساني في شيء القول بأن الإنسان ليس مسؤولا عن أعماله الإجرامية والسلوكية المنحرفة بحجة أن ما يرتكبه من مخالفات وإجرام إنما هو مجر ردود أفعال قهرية لحالات مرضية وعقد نفسية وكبْتٍ داخلي، مما يتقرر معه مبدأ إسقاط العقاب عليه، الأمر الذي يدمر المجتمع ويهدم الأخلاق وضوابط السلوك ويساعد على تفشي الجريمة، إنه “علم تبرير الجريمة” الذي أطلق عليه “فرويد اليهودي” علم التحليل النفسي” الذي ينظر إلى المجرم على أنه مجني عليه لا يستحق عقابا.
ومثل ذلك في علم الاقتصاد الذي يزعم أن الحياة الاقتصادية والاجتماعية لا تقوم إلا على الربا، ولذايجب إقراره كمبدإ من مبادئ علم الاقتصاد يتعامل به الناس كأصل من أصول تداول المال… وهكذا دواليك من النظريات والمبادئ العلمية المعاصرة التي لا تتفق مع الأحكام والتعاليم الشرعية : المسيحية والإسلامية، بسبب انفلات هذه العلوم من الضوابط والقيم، ويفرض تنقيتها منها.
إلا أنه بالرغم من كل ما سبق، ومع تنوع العلوم وتناسل بعضها من بعض، مما جعل الإلمام بعمومها أمرا صعبا ومنالا عسيرا، ومع تنامي ظاهرة الاختصاص والتفرغ، واحتياج العلوم الشرعية إلى رجال متخصصين فيها، بعد ضمور الثقافة الإسلامية، ونزوع الأنظمة التعليمية القائمة في عدد من البلادات الإسلامية، إلى تقسيم المعاهد والمؤسسات التربوية إلى شرعية، وعصرية، وتخصيص ما اصطلح على تسميته “بالتربية الإسلامية” بحصص ومقررات لا تتجاوز الثقافة الشرعية إلى غيرها، يقوم بها مدرسون مختصون مع ما سبق وغيره من العوامل الذاتية، والخارجية، ترسخت التفرقة بين أنواع العلوم، وظل المتخصص العارف بشؤون الشريعة يعرف بالعالم، وازدادت الحاجة إلى علماء متخصصين للعلوم الشرعية يبصرون الناس بشؤون دينهم.
—–
1- عن أبي هريرة -الجامع الصغير ص 321.
2- لسان العرب : ابن منظور المجلد 13 ص 522 دار صاد بيرون.
3- سيد قطب -في ظلال القرآن، ص 698 ج 6.
- عبد الحي عمور