من النتائج السيئة التي أصيبت بها الأمة العربية راهنا؛ والتي نعرف جزء كبيراً من مقدماتها؛ ما تعيشه الثقافة العربية من حالات مخاض متكررة وعسيرة استحالت معها ولادة المجتمع العربي الجديد بالشكل المأمول؛ وقد تزامنت هذه الحالة، بشكل كبير، مع التطورات العالمية التي مرت ولازالت تمر منها المنظومة العالمية منذ العقد الأخير من القرن السابق على وجه التحديد؛ والتي فتحت الباب على مصراعيه لكي يتجدد فعل الاستلاب الحضاري باسم تحديث الشعوب وتمدينها، وتوحيد الثقافات البشرية تحت غطاء ثقافي واحد، تسهر على إبرازه منظومة ايديولوجية احتكرت سلطة القرار الدولي بفعل انفرادها بالسياسة الاقتصادية الليبرالية الجديدة المحمية بالقوة العسكرية.
ولعل مصيبة الثقافة العربية أنها تنتمي إلى منظومة حضارية أُدخلت قسراً، وكرها على كره، بفعل الاستفزازات الحضارية الغربية المتكررة؛ إلى حلبة الصراع الدولي بعد انهيار القوة الشيوعية؛ وقد استطاعت الاستراتيجية الغربية جر ثقافتنا إلى الواجهة لتمثل دور العدو الجديد في حالة عدم استسلام أصحابها لثقافة الخط الواحد الذي رسمته الولايات المتحدة الأمريكية بألوان شتى، راعية الارهاب الثقافي والحضاري العالمي، ناهينا عن رعايتها للجريمة المنظمة في شكلها الدولي، تجاه الثقافات والحضارات العريقة التي تأبى الخضوع في زمن عزت فيه ثقافة الرفض والاستسلام؛ وهل لمنظومة حضارية قامت، ابتداء، على تدمير حضارة الهنود لتجدر لثقافة استعمارية جديدة، غير العيش على حنين النصر الحضاري المزيف باسم فسح المجال أمام رياح المستقبل بدل الابقاء على ثقافة الحنين للماضي؟
نحن من أولئك الذين يعلمون علم اليقين كيف خطط الغرب، قبل أن يكون كذلك، لثقافة الاستتباع؛ وكيف يسهر حاليا على الحفاظ على مقدمات تخلف ثقافات الشعوب التي خانتها القيادات “الوطنية”، بعدما تحالفت لحاجة في نفوسها، مع قوى الاستعمار المباشر وغير المباشر، وسهلت، بعدما تسلمت مقاليد تسيير شؤون الشعوب التي أودعت كامل ثقتها فيها لفصاحة خطابها وقدرتها على اللعب على أوتار عواطف المغلوب على أمرهم من هذه الأمة. وكيف لا تساير تلك القيادات مخططات الاستعمار وهي المتربية على أيد مثقفي المركزية الغربية؟
أقول، سهلت عملية الاختراق الثقافي ليصبح جسد ثقافتنا مرتعا وحقلا لتجريب كافة أنواع المرجعيات الثقافية والايديولوجية، كما هو حال خريطتنا الطبيعية التي أصبحت في جزء كبير منها حقلا لتجريب آ خر انتاجات الحقل العسكري الغربي، الذي دجج العسكر العربي بأسلحة تم توجيهها إما لضرب الشعوب وإما لهتك الحدود؛ وياليت قياديينا وجهوا “فوهة البركان الرصاصي” باتجاه العدو الحقيقي الذي لن يهدأ له بال حتى يحقق حلمه المزعوم الذي رأى فيه أنه يعيد بناء امبراطورية سليمان وشعب الله المختار.
إنه صراع البقاء الثقافي الذي نناضل من أجله بكل ما أوتينا من قوة وإمكانات مادية ومعنوية؛ أو ليس من حقنا الدفاع عن هويتنا بعدما أصبحنا وجها لوجه أمام العدو الذي يستحيل حتى مجرد التفكير في المقارنة به؟ أو ليس من حق هويتنا علينا، ومن حق تاريخنا علينا، وثقافتنا علينا؛ أن نعلن ثقافة المجابهة الشاملة، بعدما تكالبت القيادات الإيديولوجية على الأمة؟ وهل من المعقول أن تباع الضمائر بأبخس الأثمان، أم أن الواقع يشهد على قدرة السحر عندما ينقلب على الساحر؟ وهل من الوطنية، أو لنقل بخطابهم الذي لونوا به جرائد أحزابهم ومؤلفات ايديولوجيتهم، أن يُسهم هؤلاء، وأولئك في مص دماء الأمة التي حباها الله بالخيرات فما استفادت منها إلا لقيمات لتزداد بها قوة الاستعمار الغربي؟
إن من حق الأمة علينا أن نعلن الرفض لكل أشكال الإرتهان الحضاري، وأن نجابه ونمانع كل مداخل الإبقاء على ثقافة الاستسلام والاستتباع الحضاري، لأننا أمة لها تاريخ، ولأننا شعوب لها جذور وأصول، فما أسهل تهجين الشعوب التي لا أصل لها، أما تلك التي تحتفظ في وجه القمع الحضاري بشهادة الميلاد، فلا قدرة للغير أن يهجنها، لأنها قوية من الداخل، وإن ظهرت بعض الشقوق على جدار الحصن.
إنه مهما زيفوا الشواهد التاريخية فستظل ثقافتنا محتفظة على الأقل، بشذرات من الحقيقة التي تمنحنا امكانية تنبيه الغافلين في زمن الصحوة، أو تعرية أوراق التوت عن أولئك الذين قتلوا الأب وساروا في جنازته باكين. وهل للشعوب المستضعفة غير التاريخ يذكرها كلما نسيت، أو فكرت في النهوض من جديد؟ وهل لنا غير التاريخ نذكر به من خانوا عهد الوطنية باسم القومية والتقدمية، بعدما خانوا الأصالة مقابل شهرة عابرة أو ألقاب علمية أو سلطات ايديولوجية أو دريهمات لا تسمن ولا تغني من جوع، أمام استنزاف ثروات الأمة الطبيعية والبشرية؟ وبدل أن نعلن جميعا ثقافة المجابهة الشاملة، خرجت علينا أقلام وأفكار وفهوم ما كان لها أن تخرج، وبدل شد المعصم لتقوى ضربة السيف، تراهم جروا، بدل الاستعمار الجديد، عربة حصان طروادة إلى داخلنا، لتبقى حياتنا رهينة حروب الداخل، لا تستطيع النهوض من جديد!.
ذ/ عبد العزيز انميرات