إن الحديث عن واقع التعليم الأصيل يمكن أن يتناول من جوانب متعددة حسب الزوايا التي ينظر إليه من خلالها، منها : أن يقارن حالهُ اليوم بحاله في الماضي، وبما يتوقع له مستقبلا، ومنها : جانب الإيجابيات والسلبيات التي تتنازعه، ومنها : شدة مقاومته، وصمود شيوخه وطلابه، وما تعرض له من ألوان البلاء والنيل منه، لا لشيء سوى أنه يمثل بصدق روح الأمة وعزتها ويبلور صراعها الديني الإسلامي الحضاري، ويحاول أن يقود مسيرتها الراشدة نحو التنافس العلمي الذي يعتمد على الساحة التربوية العالمية، والعربية الإسلامية، والتي لا يخفى ما تتعرض له من غزو لغوي وفكري وإديولوجي، إلى جانب الضغط العلمي التقني والصناعي الذي سبقنا فيه غيرنا بأشواط كبيرة.
وسأركز في كلمتي المتواضعة هاته على مؤشرات إيجابية نرجو أن توتي ثمارها المرجوة، وعلى مؤشرات سلبية تكرست في حقالتعليم الأصيل منذ عهد الحماية المشؤوم، وتلونت ضده منذ الاستقلال.
بالرغم من توجيهات المرحومين بكرم الله : محقق الاستقلال سيدي محمد الخامس، وباني دعائمه : سيدي الحسن الثاني، ومن توجيهات مولانا محمد السادس سدد الله خطاه، وخلد في الصالحات ذكره، والذي نأمل في عهده الزاهر بحول الله أن تصحح أنواع الخلل التي يشكو منها تعلمينا عموما في جانب لغتنا العربية، وجانب مفاهيم الإسلام التي يعمل بقصد وبدونه على تجاهلها، وإغفالها، وعدم الاهتمام بها، إلى جانب طابع التبعية الذي لازمه ملازمة العلة للجسم المهدود خصوصا بالنسبة لتعليم فرنسا.
أولا : الإيجابيات
من الإيجابيات :
1- تخصيص التعليم الأصيل بالمادة 88 من الميثاق الوطني على ما بها من اضطرابات، ودخوله في باقي المواد الأخرى من باب لا فارق في التعامل معه كما هو منطق الأشياء.
2- إصدار مذكرات في السنوات الأخيرة تصب في اتجاه رد الاعتبار إليه، وإن لم تفعل بالشكل المطلوب لصالحه لعوامل نعلمها، ومنها : المرحلة الانتقالية التي يوجد عليها تعليمنا بصفة عامة، وكون الكثير من المسؤولين مركزيا وجهويا لا يمتلكون الحواس التي يدركون بواسطتها خدماته ومزاياه والتي لا ينكرها إلا جاحد أو جاهل بتاريخ وحضارة بلادنا منذ أن أكرمنا الله عز وجل بالإسلام.
3- الندوات التي دعا إليها السيد وزير التربية الوطنية د. عبد الله ساعف خلال السنتين الماضيتين، الأمر الذي يشير إلى أن الوزارة تحس بمعاناته وتفكر في إيجاد حل للخلل الملاحظ في حقه، لكنها إلى الآن لم تفعل شيئا ذا بال ولاسيما بالنسبة لروافده.
4- أنه فتحت أقسام لبعض شعبه في سبع عشر ثانوية عصرية، وفي جهات لم يكن موجوداً بها من قبل كالدار البيضاء، إلى جانب جهات أخرى مازالت تطالب بأن يكون لها تعليم أصيل قريب منها، بالرغم مما قد تعاني منه تلك الأقسام من معوقات ومصاعب ولاسيما حين لايوجد الأستاذ الكفء لمواده الدسمة أو الكتاب المدرسي الذي يخفف عليه من وطأتها.
5- أن الوزارة كونت في المدة الأخيرة لجنتين لصالحه بفاس ومراكش لمحاولة النظر في المناهج والبرامج والشعب والأطوار التي تهمه، وبالخصوص إذا اختير لها من الأطر من يفهم خصوصيات التعليم الأصيل، ويكون له من الإمكانيات ما يقدر به على التفعيل الإيجابي لما جاء به الميثاق الوطني للتربية والتكوين من توجهات، وما رامه من أهداف وغايات لدعمه حتى يستعيد مكانته اللائقة به.
ثانيا : السلبيات
ومن السلبيات :
1- حرمان التعليم الأصيل من مديريته التي كانت قد تقررت بشكل رسمي في الهيكلة السابقة على هيكلة الوزير بلمختار بأقسامها ومصالحها، الشيء الذي نتجت عنه خلخلة قوية أضعفت من حيويته إلى جانب ما كان يعاني منه منذ بتر منه الطور الابتدائي أوائل السبعينات.
2- إسناد أموره مركزيا وجهويا إلى أطر لا تصلح للعمل فيه إداريا وتربويا، في كثير من الأحيان وذلك يؤدي قطعا إلى إضعافه، وانخفاض مستواه، وتشويه حقيقته.
3- أن مصالح الخريطة المدرسية لا تعمل على توجيه الأعداد الكافية من التلاميذ المؤهلين للدراسة به، في الوقت الذي تنقل أعدادا كبيرة من التعليم العصري العام للدراسة لمؤسساته قد تصل نسبتهم إلى ما يساوي أو يفوق عدد تلاميذه الإجمالي المسجلين به.
والذي يوضح انعكاس ذلك عليه سلبا هو أن نلقي نظرة ولو سريعة على جداول الإحصاء لتلاميذ أطواره منذ الاستقلال إلى الآن، حيث نجد أن أعدادهم قد تناقصت إلى نحو الخمس، وبشكل منعكس مقلوب، في حين أن عدد مؤسساته ارتفع من ست عشرة مؤسسة إلى ثمان وأربعين بالإضافة إلى أقسام فتحت هذه السنة لصالحه في سبع عشرة ثانوية عصرية.
وهكذا نجد أن مجموع تلاميذ أطواره الثلاثة للسنة الدراسية الحالية لا يتعدى : 12049 تلميذاً، 9021 منهم في الثانوي وأغلبيتهم من الفاشلين في التعليم العصري، ومن المفصولين، وهو مع ذلك ينقذ نسبة محترمة منهم حيث يحصلون بجدارة على شهادة الباكلوريا و2217 منهم في الإعدادي، و 811 منهم في الطور الابتدائي.
ولو كان الأمر طبيعيا لكان بالابتدائي نحو 30 أو 40 ألف تلميذ، وبالإعدادي نحو 25 ألف وفي الثانوي نحو 15 إلى 20 ألفا.
4- أن كثيراً من الأقاليم ذات الكثافة السكانية، والإمكانيات الاقتصادية والاجتماعية لا توجد بها أية مؤسسة لصالحه مثل الدار البيضاء والرباط وسلا والقنيطرة وبني ملال بالرغم من الرغبة العارمة لسكانها وممثليها ومسؤوليها في أن تكون مؤسسات التعليم الأصيلة قريبة من أبنائهم، وحتى في حالة وجود مؤسسة أصيلة لا نجد إلى جانبها مدارس وإعداديات تكون روافد لها.
5- أن كثيرا من المسؤولين على المستوى المركزي حين تطرح قضايا التعليم الأصيل لا يرجعون فيها إلى أهله العارفين بدقائقه، ولذلك تاتي محاولاتهم لصالحه ضعيفة وهزيلة.
ومن الأمثلة على ذلك : أن ملفه في موضوع إصلاح الثانوي أسند قبل نحو عشر سنوات إلى أكادميتي تطوان ومكناس وفي غيبة عن مديريته إذ ذاك، حيث جاء خلل في عملهما معبر مواداً وحصصا ومعامِلات، مازال يعاني منه إلى الآن رغم إلحاح المسؤولين عنه مركزيا، ومطالبتهم بإصلاحه مع طرح البديل، لكن لا حياة لمن تنادي.
6- أننا نجد فيما طرح للنقاش الآن في الوثيقة الإطار وفي وثيقة اللجنة البيسلكية أن تنتزع منه شعبة العلوم التجريبية واقترح أخيرا أن تضاف إليه شعبة التوثيق، في حين كانت المطالبة الملحة، ومنذ مدة بأن تدعم شعبه الثلاث : الشرعية، والأدبية والعلمية بثلاث أخرى هي : شعبة التوثيق، والقراءات واللغات، ومع العلم بأنه لا يضيق بالشعب الأخرى إذا ما توفرت له شروطها حتى يتفاعل مع محيطه بشكل أقوى.
وبإسناد أموره إلى من ليس أهلا لها، وبإغفال روافده، وبإقصائه من جهات مهمة، وبالقيام بأعمال شبه بهلوانية لصالحه في ظاهرها، تحصل بلقنته وتشويه صورته ومحاولة تنفير الناس عنه بلسان الحال أحيانا، وبلسان المقال أحيانا أخرى، ليتهم ظلما بتهم كلها زور، وليتهم علماؤه كذباً بالتقصير في حقه.
7- ومن أخطر السلبيات وأبرزها مواقف جل الوزراء الذين أسندت إليهم حقيبة التعليم باستثناء الفترة التي تكونت فيها لجنة وطنية أوائل السبعينات لدارسة ملفه تربويا و إداريا حيث لا نجد أي واحد من أولئك الوزراء يعمل جاداً من أجل تنفيذ ولو نسبة مائوية قليلة منها، وهي منشورة ومطبوعة، وتقيم حجة واضحة ضدهم أجمعين.
لكن الأمل في الله عز وجل كبير، وحاسة شعبنا الدينية الإسلامية مازالت ولله الحمد حية ومشرقة.
والدليل على ذلك ما رأيناه في الماضي، ونراه اليوم من مبادرات لانشاء مؤسسات للتعليم الأصيل كما حصل في أقاليم صحرائنا المسترجعة، وفي جهات أخرى، بالرغم من معاكسات بعض النواب لرغبات سكان تلك المناطق، حتى وجدنا بعضهم يفوت مؤسسة بنيت لفائدة التعليم الأصيل، ويرحل في نفس الوقت تلامذته لمؤسسات أخرى عصرية، ومن دون أي تعليل مقبول.
وكما نلاحظه من مبادرات هنا وهناك لإنشاء معاهد من قبل الخواص والجمعيات، تعنى بحفظ القرآن الكريم واللغة العربية، إلى جانب مواد أخرى تقارب في حصصها ومعاملاتها ما هو مقرر في البرامج الرسمية للوزارة، وكأنهم يقولون للوزارة الوصية : نحن لا نوافق على توجهاتك التي تفضي بنا إلى طمس هويتنا، وتشويه حضارتنا، ومحاربة أحكام شريعتنا.
ومما نستبشر له اليوم ولله الحمد، ما ننتظره من مصادقة على مشروع القانون الخاص بالتعليم العتيق الذي سيؤطر طلابَه وشيوخه ومناهجه، وبرامجه ومواده ويعترف له بمعادلة شواهده في كل أطواره والذي لابد أنه سيجد نفسه يتكامل مع التعليم الأصيل ويتيح الفرصة لرواده كي يتابعوا دراستهم العليا ويحصلوا -وهم أهل لذلك بمختلف المقاييس- على دبلومات الدراسات العليا، ويناقشوا أطروحاتهم لنيل شهادة الدكتوراه ويحتلوا مواقعهم في حصون أمن من الأمة.
ونأمل أن ينافس طلابه زملاءهم في الشعب والتخصصات التي يحتكرها التعليم العصري بغرض إقصاء طلاب التعليمين : الأصيل والعتيق، لأننا في المفهوم الإسلامي لا يجوز لنا أن نحتكر شعبا أو تخصصات لمصلحة جهة وأن نحرم منهاجهة أخرى ونرى أن القاسم المشترك الذي يجب أن نوفره لكل أبنائنا هو الذي تمثله أحكام الإسلام.. وتنورنا به لغتنا العربية التي لا نشك في تفوقها وقدراتها على الأخذ والعطاء مع اللغات الحية التي خدمها أبناؤها، ويعتزون بالحديث بها، وبتدريس مختلف المواد والعلوم والتخصصات بها، وصدق شاعر النيل : حافظ ابراهيم الذي قال :
.. وكم عز أقوام بعز لغات…
ويبقى لنا أن نسأل بالنسبة لما يعتمل على الساحة التربوية : ماذا يُتوقع لمستقبلالتعليم الأصيل؟
الجواب هو أن يكون التمثيل للعلماء واضحا وقويا سواء على مستوى اللجنة المركزية التي تخطط لـ : اللجان الفرعية والجهوية، أو على مستوى لجنتي التعليم الأصيل بكل من فاس ومراكش أو على مستوى التعليم العصري العام والخاص، وذلك بهدف أن ينسقوا مع الأطر التربوية المختصة من معلمين وأساتذة ومفتشين من أجل ترشيد مسيرة تعليمنا من جهة، ومن أجل التعاون على البر والتقوى، والله عز وجل يقول ؛ {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان..}
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ذ. محمد الرزگي