إن الغاية الأولى من إرسال الرسل هي التبليغ أي ايصال الرسالة الى المرسل اليه، ومن هنا كان بديهيا أن يهتم المرسل بالوسيلة التي تمكنه من تحقيق المبتغى، وإذا كان هذا صحيحا في الخطابات البشرية العادية، فإن الأمر آكدٌ في الرسالات السماوية، لما تستتبعه من حساب وجزاء، لا ينبغي أن يذر مجالا لالتباس أو التحجج.
هكذا كان اختيار الرسل عامة من بين أقدر الناس على التبليغ، وبما أن الرسل فُضل بعضهم على بعض كان أولو العزم منهم أبرز مثال للكفاءة العالية في أداء المهمة، ولا يجب أن نغفل هنا عامل التربية الربانية التي تهيء الرسول لتحمل العبء.
من جهة أخرى هناك عاملان أساسان لابد من توفرهما في المكلف بالرسالة تجمعهما الآية الكريمة : {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}(ابراهيم : 4) فالرسول بالضرورة من قومه، يعرفهم ويعرفونه ويعرف بيئتهم وتقاليدهم وهو أيضا يعرف لسانهم، واللسان هنا ليس اللغة فقط وإنما مجموع وسائل التواصل السائدة في محيطه.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للرسل عامة بما فيهم أولو العزم، فإن الأمر أوضح في حالة سيدنا محمد الذي قال عنه ربه في أواخر سورة براءة : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنتتُّم حريص عليكم، بالمومنين رؤوف رحيم}(التوبة : 129) فهو ولد وترعرع في البيئة التي بعث فيها، ولعل “من أنفسكم” أبلغ من أي تعبير آخر إذ توحي بعمق الرابطة وقوة الانتماء، من المعروف أن وضعه في قومه كان متميزا إذ كان يعرف بالأمين وكان يحتكم إليه حتى قبل البعثة ولم يكن أحد يجادل في كونه على خلق عظيم، بل إن أعداءه أقروا أنه “أخ كريم وابن أخ كريم”.
بالإضافة إلى كونه مطلعا على محيطه الاجتماعي كان ذا كفاءة عالية في التبليغ فأحاديثه تظهر قدرة فائقة على التواصل والاقناع.
سأحاول اعطاء بعض الأمثلة مركزا على توظيف الواقع في الحديث الشريف مع اشارة الى مفهومي التدرج والمواكبة.
سبقت الإشارة إلى أهمية كون الرسول “من قومه” لأن هذا يعني إلمامه بمختلف جوانب واقعهم مما يمكنه من إيصال الرسالة بأنجح الطرق، والواقع هنا نوعان : واقع جغرافي وواقع اقتصادي اجتماعي.
توظيف الواقع الجغرافي
بعث محمد في واد غير ذي زرع، في بيئة قاسية يندر فيها الماء من جهة، ويضطر أهلها إلى التنقل بين الأمصار في رحلتي الشتاء والصيف لتوفير ضروريات الحياة، وهم بهذا يدركون أهمية الماء والزاد ليس لبلوغ الوجهة المقصودة فحسب وانما للبقاء على قيد الحياة، وأسوق هنا مثالين لتوظيف هذه الحقائق في الحديث الشريف.
المثال الأول : عن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله : >أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء، قال : فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا<(رواه النسائي). الخطاب هنا موجه لأناس يعرفون أهمية الماء كما أسلفنا، وهم أبناء بيئة لا تسمح بالاستحمام خمس مرات في اليوم، وبالتالي يذهب خيالهم بسرعة إلى تصور تلك النظافة التي يوفرها الاستحمام المتكرر بماء وفير وسهل المنال، والهدف من هذا المثال المحسوس هو لفت النظر الى دور الصلاة في محو الخطايا وتجديد الإيمان، والذين استمعوا هذا الحديث حفظوا من مُعَلِّمِهم دعاء ورد فيه : اللهم اغسلني بالماء والثلج والبرد”.
المثال الثاني يذهب بالمستمع إلى وضعية مألوفة لديه وهي وضعية المسافر في الصحراء.
عن أبي حمزة أنس بن مالك ] قال : قال رسول الله : >للّه أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة<(متفق عليه) وفي رواية لمسلم : >لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب اليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح<، إن فقدان الماء والزاد في الصحراء يعني الموت المحقق، وهو أمر يعرفه أصحاب الرسول، كما يدركون أن العثور عليهما يعني الحياة من جديد، ولاشك أن الاشارة الى خطأ المسافر في آخر الحديث لم تأت اعتباطا وإنما هو تأكيد على شدة الفرحة بالنجاة، وفي المسافة بين موت مؤكد ونجاة مفاجئة يندر الهدف الأساس وهو التدليل على فرحته تعالى بتوبة العبد، وهي وسيلة بليغة للحث على التوبة وعدم القنوط، فالانسان إذا علم أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر وأنه يفرح بها فرحا شديداً، كان ذلك أدعى له للمبادرة بالرجوع.
توظيف الواقع الاجتماعي-الاقتصادي
البعد الاقتصادي ذو حضور قوي في كل الأزمنة والمجتمعات، والسعي من أجل الكسب أمر مشروع، وقد سبق أن العرب كانت لهم رحلات موسمية يتحملون فيها الصعاب ابتغاء الربح، وهذا أيضا جانب من واقعهم لم يفت الرسول أن يشير إليه في أحاديثه، والأمثال كثيرة أورد منها حديث أبي هريرة. عن أبي هريرة ] أن رسول الله قال : >أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات عظام سمان؟ قلنا : نعم، قال : فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان<(رواه مسلم). الخلاف هي الحوامل من الإبل إلى أن يمضي عليها نصف أمدها فهي عشار، فهي إذن ذات قيمة مالية عالية، ومعلوم أن الإبل تلعب دورا حيويا في حياة العربي، فهي من أهم موارده وحياته كلها تدور حولها، وأهميتها تضاعف إذا كانت حاملا كما نلاحظ زيادة في الترغيب في كونها تأتي دون بذل جهد أو مال (كما في حديث النهر). طبعا لا يفهم من هذا التشجيع على التواكل وإنما لفت النظر الى أهمية تلاوة القرآن، وهي ذات منزلة خاصة في حياة المؤمن، إذ ينتفع في حاله ومآله، فهي بالتالي رصيد يدّخره ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
توظيف فقه التدرج
هكذا يبدو جليا أن عنصر الإقناع من خلال توظيف الواقع الجغرافي والاقتصادي من أهم مكونات الحديث النبوي الشريف. وبما أن هناك تداخل ين مستويات الحديث، أدرج الجانب الاجتماعي بصحبة عنصر التدرج وهو أيضا من وسائل الاقناع، ويتمثل في ذلك الحوار المتسلسل الذي ينتهي بالمخاطب الى النتيجة المرجوة، وأمثل هذا بحديث أبي أمامة الذي قال فيه : إن فتى شابا أتى النبي فقال : يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فأقبل القوم فزجروه وقالوا : مه مه فقال : أدنه، فدنا منه قريبا قال : فجلس قال : أتحبه لأمك؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال : أتحبه لابنتك؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك، قال : ولا الناسيحبونه لبناتهم، قال : أفتحبه لأختك؟ قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك، قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال : أفتحبه لعمتك؟ قال : لا والله جعلني الله فداك، قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم، أفتحبه لخالتك؟ قال : لا والله جعلني الله فداك، قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم، فوضع يده عليه وقال : اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه< فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء<(رواه أحمد).
نلاحظ الفرق الواسع بين اندفاع الصحابة -وهو مفهوم- وحكمته ، كيف لا وهو الذي بعث مربيا، فأسلوب الحوار والأسئلة المتكررة أيقظ في ذهن المخاطب البعد الاجتماعي لما يريد أن يقوم به، فتبين له أن الزنا هدم للبيوت وهتك للأعراض، وهو لاشك يعلم العرض والشرف في محيطه، وهو محيط قد يموت فيه الرجل دون عرضه. كما نبهه الى أن المرء كما يدين يدان، وهي نفس القيمة الاجتماعية التي يتضمنها الحديث الشريف: >لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه<. ومما يظهر نجاعة الأسلوب النبوي ما انتهى اليه الحديث من أن ذاك الفتى لم يعد يلتفت إلى شيء، وهي نتيجة لم يكن ليصلها لولا ذلك التدرج الحكيم الذي صاغ فيه الرسول درسه القيم.
المواكبة
هناك عنصر آخر يعد من أهم وسائل الإقناع في الحديث وهو عنصر المواكبة، وهو يعني أنه لم يكن يدع مناسبة تمر دون أن يلفت نظر أصحابه إلى حكمة، أو يذكر هم بخصلة حميدة أو ينفرهم من أخرى مشينة، فكان هذا حضورا يوميا يرسخ فيهم قيم الإسلام، وهذا مثال لعنصر المواكبة. عن عمر ابن الخطاب ] قال : قدم على رسول الله سبي، فإذا امرأة تبتغي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله : أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا : لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله : >لله أرحم بعباده من هذه بولدها<(رواه مسلم).
علينا أن نتصور الوضع العام لحظة عودة السرية : نساء ينتظرن أزواجهن، وقد يكون الزوج قد استشهد، أسرى لا يدرون ما يفعل بهم، جرحى يؤخذون إلى أماكن العلاج، الخ، وفي وسط هذا الخضم تلك المرأة التي اكتوت مرتين : مرة بسَبْيها وأخرى بفقدها ولدها، فكانت تتوسمه في كل سبي تلقاه، ولا شك أن منظرها أثار انتباه الجميع، وهنا يأتي سؤال النبي لأصحابه : >أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار< وهو أمر مستبعد جدا لما لعاطفة الأمومة من قوة وسيطرة، خاصة في الظروف الصعبة، فالأم في عرف الناس تمثل أعلى درجات الحب والرحمة، ونشير هنا إلى مسرحية الكاتب بريشت “دائرة القوقاز<، والتي تحكي قصة امرأتين اختصمتا في صبي، كلاهما تدعي أنه ابنها فأشار عليهما أحدهم أن يوضع الصبي في دائرة وأن تأخذ كلاهما بإحدى يديه وأيهما جذبته إليها احتفظت به، إلا أن إحداهما انسحبت قائلة أنها تفضل فقدان ولدها على أن يصيبه مكروه من جراء الجذب العنيف، فعلم من هذا أنها أمه الحقيقية، إلا أن الرسول يوجه أصحابه إلى مستوى أعلى، وهو رحمة الله بعباده، وهي تفوق ما تعارف عليه الناس بكثير، والحديث ذو وقع خاص لدى أناس يقرؤن قوله تعالى : {ورحمتي وسعت كل شيء} وتأتي قوة الاقناع هنا من ربط المستمع بواقع حي يراه بعينه. إلا أن الأمر قد لا يحتاج إلى حدث خاص، فهذا عبد الله بن عباس ] وهو رديف النبي يخاطب بوصايا قيمة : “يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله..< إلى آخر الحديث الذي أخرجه كل من الترمذي وأحمد.
بلاغته
إضافة إلى عنصري التدرج والمواكبة، تجدر الإشارة إلى أن من بين أهم ما ميزه عن سائر الرسل كونه أوتي جوامع الكلم، أي قول الكثير بالقليل، وهذا من أبلغ البلاغة، إذ رب كلمة مقتضبة أنفع من خطبة مطولة، والأمثلة كثيرةأو رد منها حديث النواس بن سمعان ] : >سألت رسول الله عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس<(رواه مسلم)، وحديث الحسن بن علي ] : حفظت عن رسول الله : >دع ما يريبك إلى ما لا يريبك<(رواه الترمذي والنسائي وقال حسن صحيح) وحديث أبي هريرة ] : >من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه<(متفق عليه).
يتضح مما سبق أن الرسول كان يخاطب أصحابه بما يعرفونه ويفهمونه بوسائل أشد ما تكون إقناعا بالإضافة إلى كون تصرفه العملي مدرسة للتكوين المستمر، إذ كان قرآنا يمشي وكان خلقه القرآن، وبهذا كان المثال الحي مكملا للكلمة البليغة في إيصال الرسالة.
وفي مكونات التواصل النبوي أيضا مثل للدعاة والاعلاميين المسلمين، عليهم أن يحسنوا فهمه واستعماله من أجل إنشاء خطاب إسلامي معاصر يساهم في النهضة المرجوة.
ابصايطي عمر