المحور الأول : الاحتفال بالمولد
إن اتخاذ يوم مولد الرسول عيدا يُحتفى به بهذه البهرجة المألوفة شيء مستحدث، ولا أصل له عند السلف. لأن الناس كانوا وقتئذ على ما جاء به هذا الرسول؛ يسيرون على خطاه، يترسمون أثره، ولا يحيدون عن سنته أبدا، بل يعضون عليها بالنواجد. فكانوا يقرأون شريعة هذا الرسول ويفهمونها، وهم معها أنى كانوا. وبعد أن انْحرف الناس عن هذه الشريعة، وبعدت الشقة بينهم وبين صاحب هذه الرسالة، اتجهوا إلى الشكليات والمواسم، ففكروا في الاحتفال بالمولد، ولكن الذين سنوا هذه السنة لم يخطر ببالهم أن تصير إلى ما أصبحت عليه اليوم شعوذة وسحرا ودجلا وطربا وفسقا ومواسم المزامير والطبول!. فكل هذا باطل الأباطيل،. وإنما أرادوا بذلك إحياء للقلوب وإحياء للسنة المحمدية في وجه المنكرات والأباطيل المنتشرة والبدع المستحدثة.
والاحتفال بالمولد النبوي معناه : تذكير الناس بهذا الرجل العظيم، والاهتمام بما جاء به من مثل وأخلاق عليا وشريعة سمحاء.
وأما أن نفهم من المولد تضخيم الأحداث والإطراء المبالغ فيه للرسول ، والهالة المحاطة بشخصيته والتي نهى هو نفسه عنها حين قال : >لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا : عبد الله ورسوله<(1) حتى أصبحنا نسمع أمداحا فيها كثير من المبالغات والتجاوزات
فإن هذا يؤذي الرسول ويسيء إلى الإسلام ويشوه شريعته.
وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم فإننا نجده تحدث عن هذا الرسول مبعوثا إلى الأمة، فقال تعالى : {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}(الجمعة : 2). وما أكثر الآيات التي تحدثت عن بعثته . وتحدث القرآن كذلك عن الظروف التي أحاطت بتربيته وعناية ربه به كقوله سبحانه : {ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى}(الضحى : 6، 8) وهنا يقول الدكتور طه حسين في كتابه “على هامش السيرة : >وعطف الله على هذا اليتيم قلوبا ملئت حبا، وفاضت حنانا ورحمة، قلما يظفر بمثلها المنعَّمون المترفون من أبناء الأغنياء وأصحاب الثراء الواسع والجاه العريض<.
وأشار القرآن إلى هجرته فقال سبحانه : {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}(التوبة : 40) ولكن القرآن لا يذكر لنا شيئا عن ولادته.
واليوم نجد الناس قد نسوا شريعة هذا الرسول، ورسالته وما جاء به من أخلاق ومثل عليا، وتعلقوا بشخصه، وأشبعوه مدحا، وأطنبوا في وصفه حتى كادوا يؤلهونه -والعياذ بالله- فالقَمّار والخمار والمرابي، والزاني وآكل الحرام، والعابث بحقوق الناس -كل هؤلاء تجدهم يملأون أفواههم باسم >محمد< حتى أصبحت سيرته مشوهة. لذلك لابد من النظر في كتب السيرة للتمحيص، ونفي الشوائب عنها، وتنقيتها من الإسرائيليات. فماذا يفيدنا أن نربط ولادته بانطفاء نار كسرى! أو بسقوط شرافات إيوانه، أو أنه ولد مكحولا مختونا، وأن آمنة ولدته دون ألم ووجع؟! فهل كانت عظمة هذا الرجل في هذه الأشياء التي امتلأت منها كتب السيرة؟! وهل تُتصور عظمة شخص ما في أن يقال عنه : أبيض أو أطول أو أسود الشعر؟! فالقرآن عندما تحدث عن محمد لم يصفه وصفا خَلقيا أبدا، وإنما وصفه خُلقيا {وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم : 4) {محمد رسول الله}(الفتح : 29) فكثير من العظماء الذين كتب لهم الخلود بأعمالهم وأفعالهم وأفكارهم واختراعاتهم وابداعاتهم كانوا أقزاما أو عميانا أو ذوي عاهات مختلفة. وكثير هم الأشخاص الذين اندثروا وعفا عنهم الزمان لأنهم لم يخلفوا أثرا يذكر، فما أغنى عنهم جمالهم ولا وسامتهم ولا سواد عيونهم، والرسول يقول عن نفسه : >إنما أنا بشر مثلكم أمازحكم<(2)، وكان همه أن يظهر عبدا خالص الطاعة والعبودية لله، فإذا انحاز الناس إلى تعظيمه فنسبوا إليه ما ليس محقا فيه اعترضهم ممانعا مجاهرا بحقيقته البشرية. فقد ثبت أن بعض المؤمنين نسبوا إليه التأثير في الكواكب يوم توفي ولده ابراهيم فانكسفت الشمس، فزعم البعض أن كسوفها لوفاته، فبمجرد أن بلغ له الخبر أسرع إلى المسجد فخطب في تواضع تام قائلا : >إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم<(3).
المحور الثاني : رسالة محمد
إن أهم ما نذكره، ونذكّر به في غمرة شهر ربيع الأنوار، هو رسالته التي جاء بها. الحقيقة أن مناسبة المولد ليست وحدها التي تذكّر بهذه الرسالة، فهناك أعظم مذكر بهذه الرسالة وهو القرآن الذي حمله محمد رسالة من رب العالمين إلى الإنسانية. ولذلك نجد الله عز وجل منزل القرآن يشرِّف الليلة التي نزلت فيها هذه الرسالة، ويعتبرها أعظم قدرا في قوله : {إنا أنزلناه في ليلة القدر…}(القدر : 1)، فالقرآن خير ما يمثل رسالة محمد ، فهو على لسان كل المسلمين، وبين أيدي كل البشر، بلغته العربية التي أنزل بها، وباللغات التي ترجم إليها، أو نقلت إليها معانيه. ولذلك فرسالة محمد قائمة لم تغيرها السنون والأحداث، ولا يمكن أن تغيرها، ولو انحرف أهلها والذين وضعت مسؤولية الحفاظ عليها في أعناقهم.
ورسالة محمد لم تأت عبثا، وإنما جاءت لتصلح ما أفسده القائمون على الديانات السابقة من تغيير وتحريف وافتراء واستغلال. وجاءت كذلك لتصحيح العلاقة بين الإنسان وربه من جهة، وتصحيح انحرافات المجتمع بإقامة نظام اجتماعي واقتصادي من شأنه أن يذيب الفروق الطبقية بين شرائح المجتمع.
ورسالة محمد رسالة سلام، سلام ليس بمعنى الاستسلام، أو بمعنى ما توحي به المقولة المسيحية المعروفة : >من ضربك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر<، ولكن السلام بالمعنى الإسلامي بالقضاء على أسباب الحروب والتوترات بين الأفراد والجماعات، وهو القضاء على الظلم والعدوان. ورسالة الإسلام تقوم على تطهير النفس الإنسانية، فالفرد هو أساس المجتمع، ولا يمكن أن ينشأ مجتمع سليم من أفراد منحرفين نفسيا وخلقيا واجتماعيا، وليس من باب التفاهة أو البساطة تطهير النفس من الحسد والبغض والشح، أو تزكيتها بحب الخير والمعاشرة بالمعروف، وليس عبثا تحريم الربا والقمار والفسق بالمعنى الشمولي الذي عبر عنه القرآن، وعبرت عنه السنة في غيرما آية وحديث؛ فتلك خصال تكمِّل الإنسان لتسمو به نحو الكمال.
ورسالة الإسلام رسالة عالمية إلى البشر كافة {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}(الفرقان : 1) فقد جربت الديانات مخاطبة قوم الأنبياء والرسل فكانت النتيجة أن الديانة لم تنجح في المجتمع الضيق. ولذلك كانت رسالة محمد شمولية، عالمية الهدف، تضع على عاتق المسلمين مسؤولية التوجيه والإرشادوالتبشير ، خاصة وأن بين أيديهم أعظم كتاب لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو القرآن. وهذه الشمولية هي السبيل إلى أن يسود الإسلام بمبادئه وأفكاره. وفعلا فقد ساد ولا يزال؛ فشريعة محمد تصول وتجول، وتنتشر وتكتسح نفوسا وقلوبا وبقاعا عدة، وهذه بشارة ينبغي أن نفرح لها ونستبشر، فالمستقبل للإسلام، وقد صدقت نبوءة محمد حين قال : >تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت رسول الله <(5). وهذه البشارة تفاؤل، والتفاؤل من شيم المسلم، المؤمن الواثق بربه. فقد كان صاحب هذه الرسالة متفائلا دائما. والتفاؤل يعني الثقة في الله على نصر هذا الدين. والرسول كان يربي صحابته على التخلُّق بخلق التفاؤل، فلنستمع إلى هذه التربية من خلال هذا الحديث : أخرج الإمام أحمد قال : أمرنا رسول الله بحفر الخندق، فعرضت لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول، فشكونا إلى رسول الله ، فجاء ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول، وقال : بسم الله، فضرب ضربة فكسرت ثلث الحجر، وقال : الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا. ثم قال : بسم الله وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال : الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال : بسم الله، وضرب ضربة أخرى فقطع بقية الحجر، فقال : الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا<(5).
المحور الثالث :
محمد رسول الله مشرعا
فالرجل الصالح، وكذلك المرأة الصالحة، إذن يتقدم على الشريعة، لأنه هو الذي سيتلقى الشريعة الصالحة، ويؤنس بها، ويقوم على تنفيذها ورعايتها، وتاريخ الإسلام شاهد على ذلك؛ فخلال مدة يسيرة استطاع الإسلام أن يكوّن مجتمعا فاضلا قائما على الحق والعدل والمساواة والحرية والإخاء واستطاع أن يخاطب الدول الكبرى وقته كالروم وفارس، ولذلك يقول الزعيم الهندي >نهرو< في رسالة لابنته وهو في السجن معجبا بعظمة العمل الجبار الذي قام به النبي : >والمدهش حقا أن نلاحظ هذا الشعب العربي الذي ظل منسيا أجيالا عديدة قد استيقظ فجأة ووثب بنشاط فائق أدهش العالم، وقلبه رأسا على عقب، وإن قصة انتشار العرب في آسيا وأوربا وافريقيا، والحضارةالراقية والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم هي أعجوبة من أعجوبات التاريخ<(6) فقد قام الإسلام على عدد قليل من الرجال الصالحين، وارتفع صرخة على أكتاف ثلة مؤمنة أخلصت لربها ونبيها، لأن مهمة محمد كانت تجميع هؤلاء الصالحين، وجعلهم عمدا لهذا المجتمع الجديد، ثم تطبيبهم وعلاجهم ومداواتهم عملا بالحديث القدسي : >يقول الله : دعوني وعبادي، إن تابوا إلي فأناجيبهم، وإن لم يتوبوا فأطبيبهم<(7) وقد انتصر محمد على صناديد قريش في بدر بهذه الثلة الصالحة، فلم ينتصر عليهم لا بالسيوف ولا بالخيول ولا بعدد الرجال وإنما بصلاح هؤلاء وأخلاقهم وإيمانهم، وهم يومئذ 300 والمشركون أزيد من ألف.
وبعد، فإن رسالة محمد هي الاسلام، والإسلام دين عقيدة وشريعة، دين علم وعمل، ودين تقدم ورقي، ودين قوة وجهاد، ودين امتلاك ورئاسة، ودين ملك وقيادة، جمع بين الروحانية والمادية، وبين الدنيا والآخرة، يريد من المسلمين أن يعيشوا على وجه الأرض أعزة، وبين الناس سادة، وفي الأمم ملوكا، وبين العالم أمراء، الملك ملكهم، والراية رايتهم.
وحقا سيدي، يا رسول الله، إنك الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، وأن ميلادك هو ميلاد النور والقرآن، وميلاد الأخوة البشرية، إنه مولد العدالة والمساواة، مولد التكافل الصحيح، والتكافؤ الصريح، وبالتالي مولد الأمة الإسلامية، إنك عظيم يا رسول الله، ألم تحمل إلى البشرية أعظم رسالة إنسانية، ألم تحمل إلى الدنيا قاطبة أعظم المبادئ، حسبك يا رسول الله أن تكون في القلب والعين، إنك قدت دعوة، وإنك بعثت أمة، وإنك ناهضت دولا، وأقمت دولة، وإنك وضعت أصولا ونظاما للحياة الصحيحة، من الأمية إلى المعرفة والكتاب، ومن الجهالة إلى الحكمة مفصل الخطاب، ومن رعاةِ غنم إلى قادة أمم، ومن الفوضى والهمجية إلى أمة ذات حضارة ومدنية، وصدق الله العظيم : {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(الجم
الهوامش :
1- البخاري في صحيحه : كتاب أحاديث الأنبياء، باب : واذكر في الكتاب مريم ج 204/4.
2- رواه ابن عساكر عن ابي جعفر الخطمين مرسلا -كنز العمال ج8322/3
3- البخاري : كتاب الكسوف -باب الصلاة في كسوف الشمس ج42/2
4- ا حمد في المسند 273/4
5-وروى الطبراني مثله عن ابن عباس وعن عبد الله بن عمرو..
6- كتاب : أعمال تهرو ورسائله.
7- الأحاديث القدسية مجموعة.
المراجع
-القرآن الكريم.
-المعجم المفهرس لالفاظ القرآن لمحمد فؤاد عبد الباقي
- البخاري بشرح فتح الباري وإرشاد الساري
- مسند الإمام احمد
- كنز العمال
- الأساس في السنة وفقهها -السيرة النبوية- لسعيد حوى
- السيرة النبوية للبوطي
- على هامش السيرة لطه حسين
- >محمد> لمحمد حسين هيكل
- القواميس : المصباح المنير -مختار الصحاح- لسان العرب.
- بردة البصيري
- شمائل الترمذي