منذ أربعة قرون والمسيحية تملك جهازاً خاصاً وضخما للدعاية والإعلام، جهاز يُكوِّن القساوسة ويرسلهم إلى شتى بقاع العالم صارفاً الأموال الطائلة لتحقيق غايات التبشير، ناهيك عن الدعم الحكومي اللامحدود. ورغم ذلك، فإن المسيحية في انحسار مستمر يوماً بعد يوم حتى في افريقيا التي كانت تعتبر المستقبل الأول للمسيحية.
في المقابل، رغم أن الاسلام لم يمتلك تلك الترسانة من القدرات والطاقات والإمكانات، فإنه ينتشر بسرعة فائقة حتى شبه أحدهم ذلك “كانتشار النار في الهشيم” حتى في عقر دار العالم المسيحي الصناعي.
فما السر في هجوم الإسلام الكاسح، رغم قلة حيلة أهله؟
لعل من بين أسرار هذا الانتشار القوي والمرعب لأعداء الله هو تميز الاسلام بميزان وخصائص لا توجد في غيره من الأديان وأهمها : الحرية الدينية ا لمصاحبة لبساطة الأصول والأسس التي يقوم عليها وموافقتها للعقل والمنطق.
وسأركز في هذا المقال على حرية المعتقد أو الحرية الدينية
دعوة لا إكراه
لقد سعى الرسول جاهداً لتبليغ رسالته، إلا أن أهل مكة لم يستجيبوا إلا عدداً قلياًل، فاغتم الرسول فخاطبه الله تعالى بكلمات انفتحت لها أساريره وانبسطت لها نفسه {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}(يونس : 99)، وقوله في سورة الكهف {فلعلك باخع نفسك على ألا يومنوا بهذا الحديث أسفاً}. وقوله تعالى {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}(البقرة : 256) رسالتك أن تجعل الناس -بدعوتك- قادرين على التمييز بين الرشد والحق وبين الغي والضلال، حتى تكون لهم القدرة الكاملة في الاختيار، إن الآيات السالفة منعت الاكراه في الدين ولم تمنع الدعوة له.
إن في ذلك عناية كبرى بحرية الاختيار للمعتقد، وهو أعظم وأخطر اختيار في حياة الانسان على المسلم احترامه، يقول تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}(الممتحنة : 8، 9).
ومع “آقرأ” -أول ما نزل من الوحي- تحددت الجهة التي يجب أن يتطلع إليها الانسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه.. الجهة ليست الأرض وليست الهوى.. إنما هي الوحي الالهي. ولقد كانت فترة 23 سنة التالية فترة اتصال مباشر بين البشر والملأ الأعلى، انتقل فيها الانسان من الاستمداد من الهوى إلى الاستمداد من الوحي، الذي من بين ثمراته العبودية الحقة لله تعالى، وبذلك ولد الانسان من جديد باستمداده قيمه من الله عز وجل وعلى رأسها : قيمة “العبدية” التي تمثل الصلاة أبرز تجلياتها. قال تعالى في سياق أول ما نزل من الوحي {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى}(العلق) آية تبين الصعوبات والعوائق التي صاحبت الاسلام في غربته الأولى : التصدي للدعوة في خطواتها الأولى وأبرز معالمه : المنع من الصلاة باعتبارها حدثاً/ موقفا يعبر عن مرحلة إبلاغ الدعوة والجهر بالعبادة وقيام المشركين بدور المعارضة للعهد الجديد. إن في هذه الآية تشينعاً على المعارضة واستنكاراً لفعلها البشع، الصد والمنع عن الصلاة، فعل يضعنا أمام مشهد الطغيان الذي يقف في وجه الدعوة والإيمان والطاعة الحقة، مشهد الاعتداء على حق الانسان في التدين وفي اختيار معتقده -كما قلنا- إن الله كرم الإنسان بالعقل وجعله مناط التكليف، وجعل مقومات هذه الكرامة تدور حول ما يصطلح عليه في مقاصد الشريعة الاسلامية بالكليات الخمس : العقل -الدين- النسل -المال -النفس.
وشرع الله تشريعات لحمايتها.
< تحريم شرب الخمر باعتباره اعتداء على العقل في قوله تعالى :{إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون..}.
< تحريم الردة باعتبارها اعتداء على النظام الاجتماعي الذي يؤسسه الإسلام.
< تحريم الزنى باعتباره اعتداء على العرض {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رحمة في دين الله..}.
< تحريم السرقة باعتبارها اعتداء على المال{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}.
< تحريم القتل باعتباره اعتداء على النفس البشرية التي كرمها الله {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}.
إذن فالاعتداء على إحدى هذه الكليات جريمة يعاقب عليها الإنسان، إلا أن الاعتداء على حرية التدين (المعتقد) هو أكبر الجرائم، ومصادرة حق الاعتقاد وممارسة التعبد هو الإجرام الأبشع يقول تعالى {ومن أظلم ممن منع مساجد الله…}.
إن الحرية -عموماً- قد ضمرت بشكل خطير في العالم الاسلامي، ليس بسبب التمسك بالاسلام، ولكن بسبب الذين تسلطوا عليه وسلبوه الحرية والأمن والثروة.. حتى أن معظم بلاد الأرض تحررت ماعدا المسلمين الذين مازال أكثرهم يخضع للعبودية التي تتعدد أشكالها والرق الذي تتباين معالمه.
ذ. البنعيادي محمد