مشروعية العمل الفدائي
قال الله تعالى في كتابه العزيز : {… إنّما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين، وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}(الممتحنة : 8).
الإسلام بتعاليمه السمحة جعل -بحوافزه المادية والمعنوية- المسلم الحق، مطيعاً لا يعصي، شجاعاً لا يخاف، ثابتاً لا يتزعزع، مجاهداً لا يتخلف، مضحياً بالمال والنفس لتكون كلمة الله هي العليا، مدافعاً عن الأرض والعرض. والاسلام ليس دين قهر وسيف، ولكنه دين دعوة ورحمة، ومن أجل حماية الدعوة ونشرها، وحماية المقدسات وتطهيرها، والدفاع عنها، بإعداد القوة التي ترهب المعتدين، وتقضي على أطماعهم، شرع الجهاد والعمل الفدائي في الإسلام لتأديب المعتدين الغاصبين. فالعمل الفدائي باب من أبواب الجهاد في سبيل الله، وقد ظل العمل الفدائي عبر تاريخ الاسلام ضد أعدائه، محتفظاً بمكانته وقيمته كسلاح فعال يلحق خسائر فادحة بالعدو، وأصبح واضحاً اليوم أنه بعدد قليل من الأفراد الذين صدقوا في جهادهم، وأخلصوا نيتهم، وباعوا أنفسهم ابتغاء ما عِند الله عزوجل، يستطيع المسلمون أن يحققوا لأنفسهم نصراً في أكثر من معركة وأن يكسبوا أكثر من حرب، مصداقاً لقوله تعالى : {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}(البقرة : 247).
جاء القرآن الكريم بمشروعية العمل الفدائي، وذلك في إطار عموم الأمر بالجهاد، وذلك في مثل قوله تعالى : {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله}(الحج : 37، 38). وتمشياً مع التوجيه الإلهي، فإن الرسول وصحابته الكرام لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تحدي المشركين واليهود، بل واجهوا ذلك بأعمال فدائية عظيمة وجريئة، دفاعاً عن الاسلام، بإذن من رسول الله وبمعرفته وإقراره بل وبتكليف منه أحياناً. فمن الأعمال الفدائية الكبيرة التي وقعت على عهده وبتحريض منه، قتل اليهودي كعب بن الأشرف، فقد كان يؤذي النبي والمسلمين بهجائه وسبه لهم، وبتأليب قريش عليهم. فقال رسول الله : >من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله< فقال محمد بن مسلمة الأنصاري : يارسول الله أتحب أن أقتله؟ قال : نعم. قال : فاذن لي أن أقول شيئاً (يعني مما يتقرب به إلى كعب) قال النبي : >قل ما بدا لك<. فأتاه محمد بن مسلمة هو ونفر من الأنصار فيهم أبو نائلة أخو كعب من الرضاع، فقال : يا كعب إن هذا الرجل (يعني النبي) قد سألنا صدقة وأنه قد عنّانا (أي كلفنا ما لا نطيق) إنّا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه. وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين من تمر، قال كعب : نعم ارهنوني، قالوا : نرهنك السلاح فقبل. وواعده محمد بن مسلمة فجاء ليلاً هو وأصحابه، فدعوه وهو في حصنه، فقالت له امرأته : أين تخرج هذه الساعة؟ فقال : إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة. وقال محمد بن مسلمة لأصحابه : إذا ما جاء فإنني آخذ بشعره أشمه، فإذا رأيتموني استمكنت منه فدونكم فاضربوه، فضربوه بأسيافهم فقتلوه (فتح الباري ج 6 ص : 283) وهكذا قتل كعب بن الأشرف عن طريق عمل فدائي مباغت وجريء، وكان من نتائج اغتيال كعب على هذه الصورة، أن استطاع هذا العمل أن يؤدب اليهود، وأن يعملوا لإيذاء الرسول والمسلمين من بعد ذلك ألف حساب وحساب.
والعمل الفدائي عمل جليل في نظر الإسلام وتقديره، لأن أثره على العدو عظيم وخطير، فهو يحطم معنويات العدو، ويزعزع ثقته في نفسه، ولا شيء يغيظ العدو، وينال من معنوياته كالعمل الفدائي، ذلك أن العمل الفدائي يستهدف فيما يستهدف إحباط مخططات العدو ونسف آماله، وإضعاف قوته، وتبديد ثروته، حتى ينتهي به أمره إلى أن يوقن يقيناً أنه لا عيش له في أرض لا يقر له قرار فوقها.
احرص على الموت توهب لك الحياة
والحقيقة التي يجب أن تكون واضحة أمام أعين العرب والمسلمين -اليوم- في صراعهم الكبير مع العدو الصهيوني، أنه ما أمكن إجلاء الاستعمار في المشرق والمغرب عن الأرض التي كان يحتلها ويستنزف خيراتها، وينتهب ثرواتها -رغم تجهيزاته ودقة وقوة تنظيماته- إلا عن طريق العمل الفدائي، الذي جعل الجنة التي كان يحلم بالقرار فيها ناراً مستعرة مسلطة عليه.
والحديث عن العمل الفدائي لابد أن ينتهي بنا إلى تذكر الضربات الحاسمة التي يحفل بها تاريخ الإسلام، إن قوة الاسلام الذاتية برزت في تاريخه الحافل بأمجاد البطولات، ولابد للتاريخ أن يعيد نفسه، ويؤكد ذاته، ويذكّر المسلمين -اليوم- بأمجادهم، ويبصرهم بطريق حياتهم وعزهم،كما أرادها لهم ربهم عز وجل، وكما ارتضاها لهم نبيهم ، وكما أعلنها لهم خليفة رسول الله أبو بكر الصديق في قوله : >احرص على الموت توهب الحياة<.
ولعل من أطرف الوقائع الفدائية وأكثرها غرابة وأشدها تمثيلاً لأعمال الفداء، قصة رافع ابن أبي الحقيق اليهودي مع الفدائي البطل المسلم الصحابي عبد الله بن عتيك ]، فقد بعث رسول الله رهطاً من الأنصار إلى أبي رافع ليقتلوه، فانطلق عبد الله بن عتيك فدخل حصنهم. قال : فدخلت في مربط دوابّ لهم. قال : وأغلقوا باب الحصن، ثم إنهم فقدوا حماراً لهم فخرجوا يطلبونه، فخرجت فيمن خرج أريهم أنني أطلبه معهم فوجدوا الحمار، فدخلوا ودخلت، وأغلقوا باب الحصن، فوضعوا المفاتيح في كوة حيث أراها، فلما ناموا أخذت المفاتيح ففتحت باب الحصن، ثم دخلت عليه، فقلت : يا أبا رافع، فأجابني فتعمّدت الصوت فضربته، فصاح، فخرجت، ثم رجعت كأني مغيث فقلت : يا أبا رافع -وغيّرت صوتي- فقال : مالك لأمّك الويل. قلت : ما شأنك؟ قال : لا أدري من دخل عليّ فضربني. قال: فوضعت سيفي في بطنه، ثم تحاملت عليه حتى قرع العظم، ثم خرجت وأنا دهش فأتيت سلّماً لهم لأنزل منه فوقعت، فوَثِئت رجلي فخرجت إلى أصحابي. فقلت : ما أنا ببارح حتى أسمع الناعية، فما برحت حتى سمعت نعي أبي رافع تاجر أهل الحجاز. قال فقمت وما بي قَلَبَةٌ، حتى أتينا النبي فأخبرناه<(فتح الباري ج 6 ص : 265).
الإسلام دين سلام
قال تعالى : {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}(الأنفال : 61). الاسلام دين عزة وكرامة، فهو لا يريد أن يكون سلماً رخيصاً وعلى حساب مبادئه ومقدساته، لأن الله تعالى يحذر المسلمين من هذا السلم،قال تعالى : {ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم}(محمد : 35).
ولنتدبر جيداً قوله تعالى : {لتجدن أشدّ النّاس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا}(المائدة : 84). ذلك أنهم أهل عناد وجحود، وغمط لحقوق العباد، ومصدر النفاق والتآمر، هذا شأنهم دائماً، فهم أصحاب مكر وخيانة. فإذا كان العمل الفدائي واجباً مقدساً في جميع العصور فهو في هذه الأيام أوجب وأقدس، وقد دنس اليهود الصهاينة مقدساتنا. ويذكّرنا ما نشاهده ونسمعه عن القدس وأهلها، ما مرّ عليه منذ أيام الصليبيين الذين عاثوا فيه فساداً إلى أن أخرجهم الله تعالى على أيدي عباده المؤمنين، فحالة الاحتلال اليهودي وممارسات السلطة الصهيونية وغارات المستوطنين اليهود على القدس وعلى غيره من مساجد فلسطين المحتلة، لا تتوقف إلا إذا شجعنا العمل الفدائي، داخل فلسطين وبالتحديد داخل القدس، فكل عملية يقوم بها الفلسطيني هي عملية استشهادية وليست عملية انتحارية كما يصفها إعلامنا المهزوم.
إذا كان اليهود أعداؤنا البغاة، قد انتصروا علينا، فإن هذا النصر إلى أجل مسمى، وأن النصر الحقيقي سيكون -إن شاء الله- للمؤمنين، ذلك أن الله تعالى قال في كتابه الحكيم، {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز}(المجادلة : 20).
وقد وعدنا الله بالنصر، ووعده حق وصدق، قال تعالى : {وكان حقّاً علينا نصر المومنين}(الروم : 46). وسوف يكون الله تعالى معنا إن أقبلنا عليه، ورجعنا إليه، نعاهده على طاعته وعبادته، والعمل بأوامره والبعد عن محارمه، وحينئذ يحقق الله لنا وعده الكريم.