للصوم مزايا دينة ودنيوية
لقد جاءت الشريعة الإسلامية الغراء رحمة للمجتمعات. جاءت لتسمو بالمجتمع إلى مدارج العلى وترقى بالروح وتصون الجسم من الهلاك والانهيار. ولقد أشار القرآن الكريم إلى حكمة هذه الشريعة ومقاصدها عبر النصوص الكريمة موضحا أن غايتها هي مصلحة الإنسان في بعده الروحي والجسدي والعقلي والشعوري وفي دنياه وآخرته. قال عز وجل : {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم}(الحج : 37).
لقد شرع الصوم لما فيه من تقوى الله عز وجل قال تعالى : {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة : 183). وقال أيضا : {فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم، ولعلكم تشكرون}(البقرة : 185). وللصوم مزايا عظيمة دينية ودنيوية كلاهما مرتبط بالآخر، وقد يغفل عن هذا أو يجهله كثير من الناس. “فالتشريع الإسلامي يمضي متوازنا مع التوسط بين الروحانية المتطرفة والمادية الجارفة. فما سن تشريعا ولاقضى أمرا أو نهى عن آخر إلا وفيه المصلحة الحقيقية والشاملة لبني البشر”(1).
والصوم له مكانة عظيمة في الإسلام. فعن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله : >قال الله عز وجل : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به..<(حديث متفق عليه). والصوم عبادة صامتة كما يرى البعض، حيث لا مكان فيه للرياء على الأرجح، صوم رمضان له خصوصيته فهو منهج تربوي متكامل ومدرسة الثلاثين يوما يتخرج منها الصائمون وقد فازوا بخير كثير في الدنيا والآخرة.
يقول ابن قيم الجوزية في زاد المعاد : “وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي استولت عليها وأفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها..”(3) وقال أيضا شارحا للحديث النبوي : “الصوم جنة أي وقاية.. وهو من أدواء (أي أدوية) الروح والقلب والبدن.. وله تأثير عجيب في حفظ الصحة، وإذابة الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها، ولا سيما إذا كان باعتدال وقصد في أفضل أوقاته شرعا، وحاجة البدن إليه طبعا، ثم إن فيه إراحة القوى والأعضاء ما يحفظ عليها قواها، وفيه خاصية تقتضي إيثاره وهو تفريحه للقلب عاجلا أو آجلا…”(3).
لقد مارست الأمم القديمة الصوم، والتاريخ يحدثنا عن الصيام عند الفرس والروم والهنود واليونانيين والبابليين والمصريين القدماء والمنغوليين وكذلك العبرانيين والمسيحيين القدماء التماسا للنجاة وتكفيرا عن الذنوب واقتداء بالأنبياء. بل إننا نجد الصوم كظاهرة فيزيولوجية طبيعية عند الكثير من أنواع الحيوانات. فبعض الحيوانات تصوم عندما يقل الطعام (اشتداد البرد وسقوط الثلج…) وبعضها يصوم من أجل المكوث في العش أو الحضانة خاصة عند بعد أنواع الطيور. وكذلك نجد أن بعض الحيوانات تصوم رغم وفرة الطعام وذلك من أجل تغيير الجلود أو إعادة تجديد الخلايا..
الصوم في رحاب العلم
ومما يؤسف له أن المسلمين وهم المعنيون بالدرجة الأولى بالصوم وعلاقته بالصحة الجسدية والنفسية، لم يعطوا لهذه المسألة ما تستحقه من دراسة وبحث يرشد الأطباء والأخصائيين في اختيار الوصفات العلاجية والطرق والمناهج التطبيبية المناسبة المنسجمة مع الصيام. بل على العكس من هذا فإننا نجد أن الغرب من خلال التجاب العلمية الدقيقة والعديدة قد ناب عنا في الغوص والبحث العلمي في أسرار معجزة الصوم. إن كل هذه الحقائق التي سنعرض لبعضها في هذا العرض السريع لتفند بعض الادعاءات التي تصدر من بعض الجاهلين أو المغفلين والمغرضين والتي تزعم أن الصيام مهلكة وإضعاف للجسم. وهؤلاء طبعا يسبحون ضد تيار العلم والإيمان. وعلى كل حال فإن المسلمين المطمئنين لا يشكون لحظة واحدة فيما جاءهم من ربهم ويعتقدون بحزم أن الحلال يغني عن الحرام. بل إن الله وعد المؤمنين ببيان كل هذه الحقائق حينما قال تعالى {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}(فصلت : 53).
واليوم بفضل تطور العلم ومناهجه ووسائله وتقنياته بدا من اليقين أن كل ما جاء به الإسلام حق، ومن هذه التوجيهات الإسلامية التي برهنت التجارب العلمية عن مزاياها وفوائدها العظيمة : الصيام.
لقد بدأت التجارب العلمية بشكل جدي منذ بداية القرن التاسع عشر مع الدكتور JENNINGS 1822 وGRAHAM 1832وكذلك HOLBROOK وغيرهم، ونشرت أبحاث كثيرة وألفت مؤلفات عديدة تناولت جلها الآثار الإيجابية للصوم على الصحة النفسية والجسدية، وبذلك اعتمد الصوم كوسيلة فعالة من وسائل العلاج في كثير من المستشفيات الغربية. ولهذا النوع من الصوم عدة تسميات (الصوم الصحي le jeûne hygiéniste، الصوم العلاجي le jeûne thérapeutique، الصوم الطبي le jeûne médical)(4).
ما هي آثار الصوم على الصحة؟
ما هي الوظائف الفيزيولوجية في الجسم التي يؤثر عليها الصوم بشكل إيجابي؟ سنتعرض لبعض الأمثلة فقط على سبيل المثال لا الحصر وإنها غيض من فيض.
إن آثار الصوم واضحة على الجهاز الهضمي. فقد قال تعالى في القرآن الكريم {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين}(الأعراف : 31) وقال : >إياكم والبطنة فإنها مفسدة للبدن مورثة للسقم، مكسلة عن العبادة< وقال أيضا >نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا فلا نشبع<. ومن الأمثال المشهورة عند العرب “البطنة تذهب الفطنة”.
إن من البديهي أن أمراض المعدة تأتي نتيجة العادات السيئة الخاطئة في نظام التغذية كما وكيفا. ويقول شيلطون “إن المعدة العليلة أو الضعيفة تستفيد من فترة الراحة التي يتيحها لها الصوم، فتحسن من مستوى وظيفتها وترفع من نشاط الغدد وتقوي عضلات جدارها وتعود بعد الصوم إلى العمل بحيوية أكثر”(5). بالإضافة أن الصوم ينشط إفراز مادة مهمة تسمى العامل الداخلي لكاسل Facteur intrinséque de KASSEL، هذا العامل يتحد مع الفيتامين B12 فيدخلها إلى الدم فيتم إنضاج الكريات الحمر، وبذلك تكون له فعالية مهمة في علاج بعض أنواع الإصابات بفقر الدم.(6).
وتجدر الإشارة إلى أن الصيام له أثر جد إيجابي على القلب والشرايين والدورة الدموية، ومن المعروف أن سلامة الجسم من سلامة القلب، وإذا كانت هذه القاعدة صالحة في البعد المعنوي فهي أيضا صالحة في البعد المادي كما نفهمه من الحديث النبوي الشريف >…ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب..<(حديث متفق عليه). ولقد اعتنى الطب عناية كبيرة بالأمراض القلبية والدورة الدموية، لأن الإحصائيات تؤكد ارتفاع نسبة الوفيات نتيجة أمراض القلب المتنوعة (ارتفاع الضغط، ارتفاع نسبة الكولسترول، تصلب الشرايين، الروماتيزم..) والجدير بالذكر أن أغلب هذه الأمراض تحصل نتيجة قلة التمارين الرياضية (sédentarité) وعدم التوازن الغذائي في الجانب الكمي والكيفي، مما يجعل الأطباء ينصحون بالتمارين الرياضية واتباع الحمية. وها هو ايليس EALES يقول : “إن العمل الشاق الذي يتحمله القلب عادة ينقص بفضل الصوم، مما يجعل القلب يسترجع قواه ساعة بعد أخرى أثناء الصوم، كما ينقص الضغط تدريجيا وينزل معدل نبضات القلب من 70 إلى 60 في الدقيقة. كل هذا يخفض من العبء المفروض على القلب بنسبة 25 في المائة مما يحسن من حيويته ونشاطه”(7). ولعل من أبرز فوائد الصيام التي لا يضاهيه فيها شيء ألا وهي تخليص الجسم من السموم وترسبات المواد الكيماوية المتعددة في خلاياه. إن التدخل الهائل الذي شهدته العصور الحديثة في صناعة الأغذية فيما يسمى بالبيوتكنولوجيا الغذائية جعل هذه المواد الضارة لا تفارق موائدنا. بل إن أغلب الخضر والفواكه والحبوب تخضع لكثير من المواد الكيماوية الخطيرة على الصحة (مختلف أنواع المبيدات والمضادات للطفيليات) والكثير من هذه المواد قد يتركز بشكل خطير في الدهنيات الموجودة في شحوم الحيوانات والإنسان. هذه المواد السامة قد يطول مكثها في الجسم فتسبب أمراضا وأوراما خبيثة، والصوم يعتبر من أفضل الطرق للتخلص منها. وفي هذا الإطار يقول مالك فادون : “إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم وإن لم يكن مريضا.. لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض، وتثقله، فيقل نشاطه.. فإذا صام الإنسان، خف وزنه، وتحللت هذه السموم من جسمه بعد أن كانت مجتمعة، وما أن تذهب عنه حتى يصفو صفاء تاما”(8). كما أن الصوم يعدأفضل علاج بسيط للسمنة التي تشكل خطرا كبيرا على الصحة لا سيما إذا علمنا من خلال الإحصائيات أن أكثر من 20 في المائة من السكان في البلدان الصناعية يعانون من السمنة. ويعتبر الباحثون أن حالة السمنة تبدأ حينما تتعدى نسبة الشحوم 20 في المائة من وزن الجسم عند الرجل و25 في المائة عند المرأة. ومضاعفات السمنة كثيرة لا تحصى (التهاب المفاصل، داء السكري، أمراض القلب والشرايين، عسر في التنفس..) أما في ما يخص المخ والجهاز العصبي، فقد لو حظ تحسن كبير في النشاط الذهني والتركيز والانتباه بعد فترة الصيام، بالإضافة إلى هدوء الأعصاب والتخلص من التوتر النفسي والعصبي والراحة والانتظام في النوم . كما لوحظ تحسن كبير في أداء الحواس التي تعد الامتداد الطبيعي للجهاز العصبي. فالصائم بعد فترة الصيام يشعر بتحسن كبير في وظيفة الشم والذوق، كما أن بعض الزوائد التي تكون فوق الغشاء الخارجي للعين تزول بعد أيام من الصيام فيتحسن النظر. ومن المزايا الكبيرة للصوم، التخلص من الزوائد والأورام والأكياس المائية والحصاة في الكلي شريطة الإكثار من شرب الماء عند الإفطار. وهذا ما ينسجم مع السنة النبوية حيث يقول الرسول : >إذا أفطر أحدكم، فليفطر على تمر فإنه بركة، فإن لم يجد فالماء، فإنه طهور..<( رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي حديث حسن صحيح).
ومن أعجب ما قيل في فوائد الصوم أنه يطيل عمر الكائن الحي بإذن الله. فهو يجدد خلاياه ويزيد من نشاطه ونموه ويتخلص من جميع السموم والفضلات والزوائد الضارة فضلا عن إعطاء الراحة لجميع الوظائف الفيزيولوجية في الجسم. فبعض الأبحاث بينت أن الصوم يؤخر رحلة الشيخوخة. وتفسير هذا يكمن في كون الصوم يحافظ على كل الوظائف الفيزيولوجية والبيوكميائية والعمليات الاستقلابية التي تستهلك خلايا وأنسجة الكائن الحي. وفي هذا الصدد فمن خلال بعض التجارب التي استعمل فيها الإقلال من الطعام عند بعض فصائل الجرذان التي يُعرف متوسط عمرها سلفا قد حافظ على وزنها وأطال بقاءها وزاد في نشاطها وحركتها. بينما الجرذان التي كان لديها فائض في الطعام زاد وزنها وقل نشاطها وكان عمرها أقل من الجرذان الأولى(9).
إن كل الأبحاث والتجارب القديمة والحديثة تلتقي في نقطة واحدة ونتيجة قوية لا تقبل الشك وهي أن الصيام فيه خير كثير، ولا يسعنا إلا أن نقول : سبحان من فرض علينا الصيام رحمة لنا ورأفة بنا وسبحان من قال {..وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}(البقرة : 183) صدق الله العظيم.
الهوامش :
-1 محي الدين عبد الحميد. عالج نفسك بالصيام (الصوم عبادة ووقاية)، 1997، مؤسسة بدران للطباعة والنشر والتوزيع.
-2 ابن قيم الجوزية، زاد المعاد، مؤسسة الرسالة، ج 2، ص 28. // -3 المصدر نفسه.
-4 للتوسع في هذه المسألة يرجع إلى كتاب الصوم، إدريس بنيوسف. الطبعة الأولى 1990. مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
5، 6، -7 انظر كتاب الصوم، مصدر سابق.
-8 سعيد بن عبد الرحمن الأحمري، صوموا تصحوا (دراسة علمية لفوائد الصيام الصحية) الطبعة الولى 1986. مكتبة المعارف الرياض.
-9 انظر كتاب صوموا تصحوا، مصدر سابق.