إن حضارة الإسلام لها أصول تختلف عن أصول الحضارة المادية وهذه الأصول والركائز هي:
أولا : الإيمان بالله عز وجل وحده لا شريك له، واهب النّعم ودافع النّقم، وهذا الإيمان هو الذي يفجر طاقات المواهب والأفكار،، ويطلق الإرادة البشرية نحو العمل والبناء، وينفخ في الحضارة روح الحياة، ويهبها من ذاتية المجد الكثير الصالح، ويزيل عنها الشوائب والانحرافات، ويميز عناصرها الصالحة من عناصرها الفاسدة، أو المعوقة، ويرعاها صغيرة، ويراقبها كبيرة نامية نافعة.
ثانيا : العموم والشمول بحيث يقترن العمل للآخرة مع العمل للدنيا، وعمل الدنيا شامل لكل جوانبها وحوائجها وما تقتضيه تطورات الحياة، وصراع الأمم، وإثبات الذات الإسلامية والإنسانية معاً.
ثالثا : إعمال العقل والإرادة، والإفادة من العطاء العلمي المتنامي المتطور والمتحرك غير الثابت ولا الجامد الضيق.
رابعاً : تنمية المواهب والكفاءات والخيرات وتقدير أهلها وتشجيعهم والأخذ بيدهم لتقديم الابتكارات والاختراعات وتجديد العطاء والإنتاج.
خامساً : الاعتماد على الدين والوازع الديني، والأخلاق، والسمو الوجداني لمتابعة طريق التنمية والاستزادة من الخير والفضل، فكل حضارة لا تعتمد على الوازع الديني والجانب الأخلاقي، تعدّ حضارة ضعيفة ومريضة، ومهددة بالسقوط والانقراض.و لاريب في أن (الدين صانع الحضارات)، وإهمال جانب الدين تعطيل لفوائده وعوائده التي تعود على الإنتاج بالخير والنماء؛ لأن تغذية النفس بالغذاء الروحي يملؤها طمأنينة، ويحقق لها الاستقرار، ويمنع عنها القلق والاضطراب. وليس أدل على ذلك من كثرة حوادث الانتحار في الغرب بسبب الإحساس الداخلي بالقلق، وفقدان الأمل بحياة مستقرة، وعدم الشعور بالارتياح في المستقبل، إذ ليست السعادة في المادة وحدها، و>ليس بالرغيف وحده يعيش الإنسان< كماقال السيد المسيح عليه السلام.
سادساً : الحد من الغطرسة والاستعلاء والظلم الطبقي، فليس الإسلام بحام فئة الأغنياء الرأسماليين وحدهم، على حساب المظلومين والمستضعفين والعمال، وليس في الإسلام طبقية واستعلاء أناس على غيرهم من غير حق ولا مسوغ شرعي، ففي النص القرآن أوضح الدلالة على هذا المبدأ. وقد أشار القرآن الكريم لذلك في مناسبات متعددة، لا يلتفت إليها بعض الذين حُجبت أنوار عقولهم وقلوبهم عن الحق والحقيقة، قال الله تعالى : >تلك الدّار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتّقين}(القصص : 183). وإذا تحققت الآخرة بصدق، تحققت معها الدنيا تبعاً لها.
ومن المعلوم أن الإسلام رسالة إصلاح شاملة، وإنقاذ عام، وخير وعطاء وتصحيح الأخلاق المنحرفة، ونبذ التقاليد الضارة، قال الله تعالى : {ونريدُ أن نمُنَّ على الذين استُضعِفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة، ونجعلهم الوارثين}(القصص : 5). وهذا الامتنان بسبب صلاح الفئة المستضعفة، فإن فسدت هذه الفئة لم يكن لها الحق بأن تكون من القادة، ولا أن تكون وارثاً للأرض وما عليها من خيرات وما فيها من كنوز وثروات ومعادن.
والكلمة الأخيرة : ليست الحضارة في دين الله وشرعه قائمة على الظلم والغصب والاعتداء، وسلب الحقوق، وانتهاك الأعراض، وتشريد الأسر والأطفال، فهذا من أبين وجوه الفساد التي تقوض صروح الحضارات، مهما كانت الذرائع والأسباب إلا مع عدوّ طاغٍ أو محتل غاصب.
القرآن الكريم بنيته التشريعية وخصائصه الحضارية . د. وهبة ازرحيلي. ص 92/91.