الإسلام دعوة ومنهاج :
دعوة إلى الله، ومنهاج لتبليغ هذه الدعوة، سواء كان التبليغ لأناس مؤمنين، أم لأناس لم يؤمنوا بعد، ومنهاج البلاغ هذا ليس مبيناً بالوصف فقط كما في مثل قوله تعالى : {ادْعُ إلى سبيل ربِّك بالحكْمة والمَوْعظة الحسنةِ وجادِلْهُم بالتي هِي أحْسن}(النحل: 125)، بل وبالمثال أيضاً، والمثال يكون بالطريقة التي يدعو بها الخالق سبحانه وتعالى عباده كما سنرى في آيات الصيام، وبالطريقة التي يدعو بها الرّسل أقوامهم، كما في مثل قوله تعالى عن نوح عليه السلام : {ولقَدْ أرْسَلْنا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ….}(هود : 25- 34) والتي يدعو الذين ساروا على سنتهم من الإنس كما في مثل قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون : {وقاَلَ رَجُلٌ مؤْمِنٌ من آلِ فِرْعَوْن يَكْتُم إيمانه..}(غافر : 28- 34)، بل ومن الجن كما في قولهتعالى : {وإذْ صرفْنا إليك نفراً مِنْ الجِنِّ يسْتَمعون القُرآن فلمَّا حضَرُوه قالوا أنصتُوا..}(الأحقاف : 29 -32).
ومثل الدعوة في هذا كمثال الصلاة والصيام والحج؛ فكما أننا نعرف الصلاة والصيام والحج معرفة علمية نظرية، ثم نصلي كما عَلِمْنا كيف كان الرسول يصلي، ونأخذ عنه مناسك حجنا، فكذلك نعرف طرق الدعوة معرفة نظرية علمية، ثم نعرفها معرفة علمية بمعرفتنا للطرق التي دعا بها أنبياء الله تعالى، ودعا بها سائر عباده الصالحين الذين قص الله تعالى علينا قصصهم في هذا المجال. لكن المسائل التي بُينت لنا طرقُها العملية نوعان: نوع لا يأتى فعله إلا من العباد كالصلاة والزكاة، ونوع نسترشد فيه إلى جانب ذلك بالطريقة التي يعامل الله تعالى بها عباده، كطريقة الدعوة إليه، وآيات الصيام التي هي موضوعنا في هذا المقال خير مثال على هذا النوع الأخير.
إن الغاية من هذه الآيات هي أمر المسلمين بصيام شهر رمضان، ولو شاء الله تعالى لأمرنا بها أمراً مجرداً لا استعطاف فيه ولا تعليل؛ فهو الرب ونحن عبيده، ومن حقه أن يأمرنا بما شاء، ومن واجبنا أن نطيعه بغير سؤال ولا مراء. لكن الله تعالى أعلم بطبيعة النفوس التي خلقها، وبأحسن الطرق إلى هدايتها وعطفها على قبول الحق والعمل به، لذلك نراه سبحانه لا يأمر عباده بالصيام أمراً مجرداً بل يسوق كل الحقائق التي من شأنها أن تعطف قلوبهم إلى الخير الذي يأمرهم به.
يقول تعالى :
{يا أيُّهَا الذِين آمنُوا كُتب عليكُم الصيّام..}(البقرة : 183 -187) فيخاطبهم بأحب أوصافهم إليهم. وهذا الخطاب وإن كان خطاباً عاماً إلا أنه يجعل المستمع الفرد يُؤَمِّل في الدخول في سلك هؤلاء الذين شهد الله تعالى لهم بالإيمان. وهل بعد الشهادة الإلهية من شهادة؟ وإذا كان يرجو أن يكون مؤمناً حقاً بعمله بما كتب الله عليه، فما أقل الصيام من ثمن لهذا الإكرام!
{كما كُتِبَ على الذِين من قبلكم} : بما أن الإنسان قد يتردد في الإقدام على أمر يراه صعباً ولا يرى له فيه سلفاً، فإذا تبين له أن الأمر قد جربه أناس قبله، فأغلب الظن أنه سيقول لنفسه : إذا كان الصيام قد كتب على من قبلنا فصاموا، فما الذي يمنعنا نحن من أن نصوم؟ وإذا لم نكن أول من جرب الصيام بل جربه أناس قبلنا ونجحوا في التجربة، فما الذي يمنعنا نحن من أن ننجح كما نجحوا؟
{لعَلَّكم تتَّقون} : فالغاية من الصيام ليست تعذيب الإنسان بمنعه من الطعام والشراب والنكاح، وإنما أتى هذا المنع وسيلة ضرورية لغاية شريفة هي التقوى، والتقوى هي سبيل النجاة من عذاب الله، وهي من ثمّ سبيل الفوز بجزائه ومرضاته، ولهذا كانت التقوى هي الغاية التي تحققها كل عبادة من العبادات التي أمرنا الله تعالى بها.
{أيّاما معدُودات} : لم يكلفنا الله تعالى بصيام السنة كلها ولا بأكثرها، وإنما هي ثلاثونيوماً من أيام العام التي تبلغ أكثر من ثلاثمائة وخمسين يوماً. وكلمة {معْدُودات} تعبر عن قلة هذه الأيام والمؤمن يقول لنفسه : ولماذا لا أصوم أياماً معدودات وأكسب التقوى التي وعد الله بمنحها لمن يصومها؟
{فمن كان مِنْكُم مريضاً أو على سَفرٍ فعدّة من أيّام أخر} : ولأن الغرض من الصيام هو التقوى لا مجرد تعذيب البدن؛ فإن الله تعالى قد أعفى من صيام هذه الأيام المعدودات من كان مريضاً أو على سفر؛ لما قد تسببه هاتان الحالتان من مشقة زائدة على الأمر العادي.
{شهْرُ رَمضان الذي أُنْزِل فيه القُرْآن} : والأيام المعدودات التي أمرنا الله بصيامها هي أيام شهر لا كسائر الشهور، إنه شهر رمضان الذي شرفه الله تعالى بأن أنزل فيه القرآن، وذلك أنه كما أن الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته بالنسبة للبشر، فهو سبحانه أعلم حيث ينزل رسالته بالنسبة للأزمنة؛ لأنه كما أن بعض البشر أفضل من بعض فإنبعض الأزمنة والأمكنة أفضل من بعض {وربُّك يخْلق ما يشاءُ ويخْتارُ}(القصص : 68). ولهذه المناسبة القوية بين القرآن وشهر رمضان، فإن النبي كان يعرض القرآن على جبريل في كل رمضان، ثم إنه عرضه عليه مرتين في العام الذي توفي فيه ، ولهذه المناسبة أيضا فإنه يستحب لنا الإكثار من تلاوة القرآن ولا سيما في صلاة التراويح.
{هُدى للنّاس وبيْنات من الهُدَى والفُرْقان} : هذه أهم خصائص القرآن، الكتاب الذي أنزله في شهر رمضان، إنه هدى للناس، وإنه بيّنات، بينات من الهدى ومن الفرقان.
{يُريدُ الله بكم اليُسر ولا يُريد بكم العُسر} : إنها لحكمة بالغة أن تنزل هذه الآية الكريمة ضمن آيات الصيام. إن في الصيام شيئاً من المشقة، ما في ذلك من شك؛ لكن الآية تؤكد لنا أن هذه المشقة ليست مرادة لذاتها، وإنما هي مشقة قليلة محتملة تجلب تيسيرا روحياً كبيراً، هو نيل التقوى، فهي إذن ثمن قليل يدفعه الصائم لنيل عوض كبير. ولما كان المراد من أوامر الله ونواهيه كلها هو اليسر لا العسر؛ فقد أذن تعالى بالفطر لمن كان في حال يكون الصيام فيه عليه عسيراً.
لكن اليسر ليس شيئاً متروكاً لأهواء الناس الذين لا يحيط علمهم بكل عواقب الأعمال، وإنما ينظرون إلى بعض جوانبها دون بعض، وإلا فلو ترك أمر اليسر لتقديرات الناس لقال أكثرهم : إن الصيام عسر لا يسر، وما دام الأمر كذلك وما دامت أوامر الله تعالى ونواهيه مبنية كلها على اليسر، فإن المنهج الصحيح للاختيار بين آراء المجتهدين هو أن يختار مادل الدليل على أنه أقرب للحق؛ لأن ما كان أقرب إلى الحق فهو الأقرب إلى اليسر. أعني أنه لا ينبغي للعالم أن يجعل ما يعتقده يسراً هو المعيارالذي يفضل به اجتهاداً على اجتهاد؛ لأن ما يظنه يسراً قد يكون في الحقيقة عسراً، بل عليه أن يبذل جهده في النظر في أدلة المجتهدين ليفضل ما كان منها أقرب للحق موقناً بأن ما كان أقرب للحق؛ فهو الأقرب إلى اليسر.
أعاننا الله وإياكم على صيام شهر رمضان، وجعلنا وإياكم من خير الدعاة إلى الإسلام.