صدر للأستاذ محمد قطب آخر كتاب في طبعته الأولى سنة 2000 بعنوان : “كيف ندعو الناس؟ في 192 صفحة عن دار الشروق، ولأهميته فيما يتصل بفقه الدعوة، يسر المحجة أن تقدمه لقرائها في حلقات ابتداء من هذا العدد لعدم وجوده في الأسواق المغربية لحد الآن.
نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زاداً كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين في عالم الواقع، فقد صُنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام : {ولتُصنع على عيني}(طه : 39)، ونشأ على يدي أعظم مرب في تاريخ البشرية، محمد رسول الله ، فكان جيلاً فريداً في تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحي، ويتابعه رسول الله بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة في أعلى صورة، فأصبح كالدرس “النموذجي”، الذي يلقيه الأستاذ ليعلّم طلابه كيف يدرّسون،حين يؤول إليهم أمر التعليم.
-1 بين السنن الخارقة والسنن الجارية(ü)
ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية -لا الخارقة- لحكمة أرادها الله، لكي لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول : إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله .
فما كان في هذا الدين من عناصر غير بشرية، فهو الوحي المنزل من عند الله، وذلك باق ومحفوظ بحفظ الله : {إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظُون}(الحجر : 9).
وهو بالنسبة للجيل الأول كالجيل الأخير، هو كلمة الله لهذه الأمة، وللبشرية كافة، تحمل حقيقة هذا الدين، وتحمل المنهج الرباني، الذي يريد الله من البشر، إلى قيام الساعة، أن يقيموا عليه حياتهم، ويؤسسوا عليه بنيانهم، سواء كان هو الكتاب المنزل، أو البيان الذي قام به رسول الله لهذا الكتاب، بالسنة القولية أو العملية : {وأنزلنا إليك الذّكر لتُبيّن للنّاس ما نزّل إليهم ولعلّهم يتفكّرون}(النحل : 44)، {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}(النجم : -3 4).
أما قتال الملائكة مع المؤمنين في بدر، فلم يكن هو في ذاته الخارقة : {إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبِّتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرّعب فاضْربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان}(الأنفال : 12).. فنزول الملائكة وتثبيتهم للبشر، لا يقتصر على معركة بدر، إنما قد يحدث بأمر الله في أية مناسبة : {إن الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولاتحزنوا وأبشروا بالجنة التي كُنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة..}(فصلت : -30 31).
إنما كانت الخارقة هي رؤية المؤمنين للملائكة وهي تُقاتل معهم : {وماجعله الله إلا بُشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}(آل عمران : 126).
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد اختص بها أهل بدر من دون المؤمنين، فقد كانت بدر حدثا كونيا لا يتكرر كل يوم : {يوم الفُرقان يوم التقى الجمعان}(الأنفال : 41).. فهي التي كتبت التاريخ، وليس في كل يوم يكتب التاريخ.. إنما تكتب منه سطور إثر سطور!
وفيما عدا هذه الخارقة التي اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسول ، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية، من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض. لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هي دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل، لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وجَّهَنا في كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية، ودراسة التاريخ -الذي هو في الحقيقة مجرى السنن في عالم الواقع- فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هادياً لنا في كل تحرك نقوم به، ومحكاً لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه.
-2 النشأة الأولى ومسيرتنا الحالية :
وقد استوقفني فى أمر النشأة الأولى عدة أمور، زاد من رغبتي في تدبرها وتأملها ما أراه بين الحين والحين من مخالفة لمقتضياتها في مسيرتها الحالية، وما أراه قد ترتب على هذه المخالفة من نتائج معوقة للمسيرة، فأحببت أن أعرض بعض هذه الأمور في هذه الصفحات، داعياً الله أن يجنبنا الزلل دائماً وأن يهدينا إلى سواء السبيل.
أ- مرحلة التربية : {:فوا أيديكم} :
من أشد ما استوقفني في مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفّوا أيديهم في مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في قوله تعالى : مذكراً به : {ألم تر إلى الذين قيل لهم كُفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزّكاة}(النساء : 77).
وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسول حين اشتد الأذى بالمؤمنين : ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : >ما أمرنا بقتالهم<(1).
ولم يرد في النصوص -لا في الكتاب ولا في السنة- بيان لحكمة هذاالأمر الرباني، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته، أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا في معركة مع قريش في ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التي تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا في معركة في ذلك الوقت.
أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المكافئة، أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهي أمر الدعوة الجديدة في معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار.
ونفترض أن المعركة -على الرغم من عدم تكافئها- لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجري من أحداث في وقتنا الحاضر.
لمن كانت الشرعية في تلك المرحلة في مكة؟ لقد كانت في حس الناس جميعاً لقريش..!
وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية..!
ومن حق صاحب الشرعية -ولاشك- أن يؤدب الخارجين عليه!
وصحيح أن قريشاً تشتد في “التأديب” إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته -أو جواره- على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر في حس الناس -من حيث المبدأ- أن قريشاً هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذ في معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!
كلا بالطبع!
والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الرباني وكفوا أيديهم.
لقد تمت أموركثيرة في الحقيقة.
ب- من نتائج {كفوا أيديكم} :
ففي البيئة العربية المعروفة “بإباء الضيم”، والتي تحدث فيها المعارك الضارية، لأسباب نرى نحن اليوم أنها تافهة، لا تستحق أن تُراق فيها قطرة دم واحدة، وقد تطول تلك المعارك سنوات عديدة، ويفنى فيها كثير من الخلق كمعركة داحس والغبراء(2).. في البيئة التي يمتشق فيها الرجل الحُسام لأدنى إهانة توجه إليه، والتي يقول فيها عنترة :
ولقد خشيتُ بأن أموت ولم تدر
للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
والناذرين إذا لم القهما دمى!
ويقول غيره :
ألا لا يجهلنّ أحد علينا
فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا!
في تلك البيئة، يؤذى رجال ذوو حسب ونسب،منهم من هو من أشراف قريش ذاتها، ثم لا يرُدُّون!
شيء يلفت النظر ولا شك، لأنه مخالف مخالفة تامة لأعراف البيئة..
بعبارة أخرى، شيء ليس من صنع البيئة.. فلا بد أن يكون من صنع شيء آخر خلاف البيئة!
ثم يشتد الأذى ويستمر وهم صابرون!
هنا معنى جديد ليس من صنع البيئة كذلك، ففي سبيل أي شيء يحتمل هؤلاء ما يقع عليهم من الأذى، ثم يظلون مصرين على التمسك بما يعرضهم للأذى؟
أفي سبيل شرف القبيلة؟ أفي سبيل مغنم من مغانم الأرض؟ أفي سبيل شهوة من شهوات الأرض؟
لا شيء من ذلك كله.. إنما هو في سبيل “عقيدة” يعتقدونها.
وقد تفهم هذه البيئة أن تكون العقيدة أعرافاً وتقاليد، يستمسك الناس بها، وقد يقاتلون من أجلها، أما أن يتحملوا الأذى في سبيلها -وهم لا يردون- فأمر جديد كل الجدة على هذه البيئة، بيئة الأعراف والتقاليد!
ثم نمضي شوطاً آخر، فيتضح أمر جديد.
إن الأذى يشتد حتى يصبح مقاطعة اقتصادية واجتماعية، ويصل إلى حد التجويع، بل يصل ببعض الناس حتى الموت، ولا يتخلون عن عقيدتهم!
لا يمكن -في عُرف البيئة، ولا في عرف البشر عامة- أن يتحمل الناس مثل هذا الأذى من أجل باطل.. إنما لابد أن يكون حقاّ يعتقده صاحبه، ويحتمل الأذى من أجله، ويموت من أجله.
بل إن هذا الحق الذي يعتقده هو أغلى عليه من أمنه وراحته ومكانته وكرامته.. وحتى من نفسه، حتى من حياته.
تلك المعاني كلها، التي برزت للوجود من خلال {كفوا أيديكم} هي التي أتت بالأنصار من المدينة، حتى وإن لم تغير كثيراً من الأحوال في مكة!
نستطيع أن نقول في عبارة موجزة : إن أهل مكة اصطلوا النار، ولكن أهل المدينة استضاءوا بها عن بعد، فاهتدوا إلى الحق الذي شاء الله لهم أن يهتدوا إليه.
ولم يكن هذا وحده هو الذي اتضح للأنصار، من خلال {كفوا أيديكم}.. لقد اتضح أمر آخر له أهميته البالغة في خط سير الدعوة، وهو قضية “الشريعة”.
-3 استنابة طريق المجرمين والمؤمنين على أساس “لا إله إلا الله” :
يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنعام، وهي سورة مكية : {وكذلك نُفصل الآيات ولتستبين سبيل المُجرمين}(الأنعام : 55).
وكأن المعنى : نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين.
وورود هذا المعنى في آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغي أن تكون واضحة، فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل في قوله تعالى : {ولتستبين}. ونزول هذه الآية في الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هي من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة في الفترة الأولى التي يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة.
فما الذي تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين : أولا : بيان من هم المجرمون؟ وثانيا : بيان السبيل الذي يسلكونه، والذي من أجله أصبحوا مجرمين.
فمن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانةسبيلهم؟
لقد فصْلت الآيات قضية الألوهية، وهي القضية الأولى والكبرى في القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة.
فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولايمكن أن يكون له شركاء في الخلق ولا في التدبير، ولا في أي شأن من الشئون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفي عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحاً تماماً، سواء لمن آمن أو لمن كفر، فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول الله أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيءٌ عُجاب}(ص : 5).
ولما تبين أنه إله واحد لا شريك له، طُلب من الناس أن يعبدوه وحده بلا شريك؛ لأنه وحده الحقيق بالعبادة، وأن ينبذوا ما يدعون من الآلهة الزائفة، وأن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، ولا يتبعوا من دونه أولياء {اتّبعوا ما أُنزل إليكم من ربّكم ولاتتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذّكّرون}(الأعراف : 3).
وعلى هذا فقد انقسم الناس فريقين اثنين : فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوه وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم.
وإذن، فأين تقع قريش في هذا التقسيم؟
لقد كانت قبل تفصيل الآيات هي صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون في نظر قريش، وفي نظر الناس أيضا، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعدما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتعبده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هي صاحبة الشرعية، وبقي المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!
إنها نقلة هائلة في خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا في المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق.
ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذي يعظمه العرب جميعاً، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذي ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.. فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمراً هيناً، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال ولا سند من أحد من ذوي السلطان!
لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هي التي يمكن أن تُجْليَهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم، وهي أنهم مجرمون لا شرعية لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله.
وهنا نسأل : لو أن المؤمنين في مكة دخلوا في معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفي حس الناس أن قريشاً هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر في خلد أحد -كما استقر في خلَد الأنصار- أن القضية لها معيار آخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو : لا إله إلا الله.. هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذي لا شيء بعده إلا الضلال، وأن هذه هي القضية الكبرى التي يُقاس بها كل شيء، وينبني عليها كل شيء؟
هل كان يمكن أن يصل الحق الذي يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية “لا إله إلا الله” على هامش الصورة، إن بقي لها في حس الناس وجود على الإطلاق؟!
أظن الصورة واضحة..
لقد كانت {كفوا أيديكم} هي سر الموقف كله!
كانت هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله -وهي قضية الرسل جميعاً من لدن آدم إلى محمد – أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التي أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيه الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التي لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفراً لا شبهة فيه، كفراً غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار، إنما هو الرفض الصريح الواضح لـ”لا إله إلا الله”.. وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية {ليَهلك من هلك عن بيّنة ويحْيى من حيّ عن بيّنة}(الأنفال : 42).
هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية {كفوا أيديكم}، هو من مستلزمات الدعوة.. فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس “لا إله إلا الله”، واستبانة سبيل المؤمنين في المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول في الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب.
وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال {كفوا أيديكم}، جاء الأنصار!
وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول في التاريخ!
في العدد القادم بحول الله : الأنصار واختلال ميزان القوى لصالح معسكر الإيمان.
——-
(ü) ملاحظة : العناوين الفرعية من وضع الجريدة.
(1) انظر كتب السيرة.
(2) معركة نشبت في أواخر العصر الجاهلي بين قبيلتي عبس وذبيان، بسبب سباق أجرياه على فرسين إحداهما تسمى داحس والأخرى تسمى الغبراء، فاختلفت القبيلتان على نتيجة السباق، فقامت بينهما الحرب، وانضم لكل قبيلة حلفاؤها، وطالت الحرب وقتل فيها خلق كثير، حتى تدخل من تدخل للصلح بينهما، فوضعت الحرب أوزارها.