المقصود بالذات : الذات الإسلامية، إِذْ الذاتُ حقيقةً في كل شرع أو عُرف إنساني مُعْتَبَر ليست عبارة عن أرطال من اللحم والدَّم، أو أطنان من التراب، أوآلاف من الكيلومترات يعمُرها أناس لا رابطة بينهم، ولكن الذات عبارة عن مجموعة من الناس تربطهم روابطُ معنوية بها يتعايشون، وبها يتميزون عن غيرهم، وعنها يُنافحون، وإلى مبادئها وحضارتها يَدْعُون.
والأمة الإسلامية لم توجد إلا حين جاء الإسلام، فهو الذي أخرجها للوجود بمبادئها المتميزة عن حضارة العرب قبل الإسلام، وحضارة الفرس واليونان والروم والهنود وغير هؤلاء من الأمم البائدة، فالأمة الإسلامية بالإسلام كانت، وبالإسلام تحَضَّرَتْ، وبالإسلام تميزتْ، وبالإسلام عاشت، وبالإسلام ستعيش إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أما بدون إسلام فلم تكن ولن تكون لأنها ستكون ذائبة في غيرها أو مجردَ ظل دائر في فلكه، والمَعَاوِلُ الكثيرة التي تسعى لهدم الأمة تريد مَحْوَ شخصية الأمة من الوجود وجَعْلها مجرَّد شَبَحٍ يسْتَجْدِي قوت الوجود من الأسياد الظالمين.
وعناصر البقاء لأي أمة هي محافظتها على الأخلاق التي بها يتعايش الإنسان مع أخيه محترما مصون الكرامة، فإذا ما جار الإنسان على أخيه جورا أفقده حرية المعتقد وحرية الجهر بالرأي وحرية التكسب والتملك، وحرية التعبد، وحرية الدفاع عن الرأي والعبادة والمعتقد… وصار الإنسان يستعبد أخاه الإنسان، إذا ما فعل كل ذلك، فقد حقت عليه كلمة الله {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَ أَهْلُهَأ ظَالِمُون}(القصص : 59). {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمُهْلَكِهِمْ مَوْعِداً}(الكهف : 59).
ولقد كان رسول الله يعلم أن سنة الله الربانية لا تحابي أحدا، وكان يعلم أن ما أُنْزِلَ عليه هو الحق المبين الذي لا حق فَوْقَهُ، والذي لا يَصْلُحُ للإنسانية غَيْرُه، وكان يرى الظُّلم النازل بالأمم من حَوْلِهِ، فكان يُخْبِر أصحابه بقرب زوال هذه الأمم، وقرب استظلالها بظلال الإسلام، كما قال ذات مرة لتميم الداري ] : “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأمْرُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ ولاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ هذا الدِّينَ يُعِزُّ عَزِيزاً ويُذِلُّ ذَلِيلاً، عِزاًّ يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإسلامَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ” ـ مسند أحمدـ
وفي رواية أخرى، قال له : “فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هذا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بالبَيْتِ مِنْ غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُز”. قلتُ : كسرى بن هرمز؟ ـ قال : “نَعَمْ كِسْرَى بْن هُرْمُز، ولَيُبْذَلَنَّ المالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ”.
قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينةُ تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت، ولقد كنتُ فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونَنَّ الثالثةُ لأن رسول الله قد قالها ـ مسند أحمد.
هذا الحديث قاله الرسول لرجُلٍ كان يرى نفسه على دين، بل كان رأسا في النصرانية، وكان ينظر إلى العرب من عَلُ، إلا أنه كان ساذَجا في الفهم عن الله تعالى لأنه لم يعرف من الدين إلا قشوره وأشكاله ـ كما يفهمُه المتنطعون في عصرناـ ففتح رسول الله عينيه على الدين الصحيح والسنن الربانية، المتجلية في قوله تعالى: {هُوَ الذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشرِكُونَ}(التوبة : 31).
والظَهُورُ ظُهُوران : ظَهُورُ حُجَّةٍ وبُرهان، وظَهُورُ تَمَكُّنٍ وسلطان، حينما يوجد المومنون الأقوياء الأوفياء الذين يُجْرِي الله عز وجل على أيديهم الفتح للبلدان وقلوب الإنسان، إلا أن ظهور الحجة والبرهان هو في كل زمان ومكان، وآية ذلك ما يبذله المعاندون في هذا العصر من تقتيل وتشريد للمسلمين، ومن تشويه للإسلام والمسلمين، ومن كيد للمرجعية الإسلامية : قرآنا وسنة… ومع ذلك فالإسلام شامخ بإذن الله تعالى، يقزِّم المتطاول عليه، ويَبْتُرُ أيدي المستهزئين به، ويُسوِّدُ وجوه كل من يزحف على إِسْتِهِ لتبييض وجهه على أعتاب العُتاة المجرمين، ظانين أن الله غافل عما يعمل الظالمون أو عاجز عن طيِّهم طيا كما طوى الأكاسرة والفراعنة والأباطرة في بُحُور الخزي والهوان!!
إن المؤمن المتالِّم لما عليه الأمة الإسلامية من تقاطع وتدابر، ومن تمزُّق وتشرذم، لَيَرْثِي لقُطعانِها وشعوبها ومفكريها وقادتها الذين يُغَنُّون خارج السِّرب، فهُم بَدَلَ أن يَسْمُوا ويرتفعوا إلى السماء بمبادئهم وأخلاقهم وعبادتهم وأهدافهم وطموحاتهم هبطوا للأرض مُقَلِّدين من لم يرزقهم الله تعالى دينا صحيحا يرفعُهم للسماء، فتركوا رسالة السماء، وتَلِفُوا عن الطريق الصحيح لاستثمار خيرات الأرض، فلاهم بالسماء فازوا وأفلحوا، ولاهم بالأرض سعدوا.
ولقد جاءهم التلف والتيهان من عَدَم وعيهم بالذات وجهلهم بالواقع والسنن الربانية الجارية على كل الجهلاء بأحوالهم وأحوال غيرهم من الأمم المعايشة لهم, وهكذا :
- فالذين لا يفقهون دينهم، ولا يفقهون التديُّن الصحيح به، ولا يفقهون كيفية عرض سلعته على الناس الجاهلين به، ولا يفقهون كيفية فتح الآفاق المسدودة به، هؤلاء يعيشون خارج الوعي الذاتي.
- والذين ما زالوا يعيشون في أسْر الأيديولوجية البائرة، مذهبيّة التأليه للإنسان، وللعقل، وللطبيعة، وللهوى الكفري الذي اخترع “خرافة الدين” و”الحياة مادة” “والإنسان آلة مُسَخَّرة يُقادُ من بَطْنِهِ وفَرجه”، بقية هؤلاء يعيشون خارج الوعي الذاتي، لأنهم يحاولون نفخ الروح في نظرية ماتت، وهال عليها أصحابها التراب.
- الأحزاب التي تعيش بدون مبادئ، أو بمبادئ عَفَّى عليها الزمن، أو بمبادئ تقبل المساومة عليها بالترهيب أو الترغيب… تعيش خارج الوعي الذاتي .
- الذين يضحكون على الشعوب بالشعارات البراقة، والفتوحات الموهومة، والديمقراطية المزيفة لاستدامة الوصاية والاستبداد عقودا وأجيالا يعيشون خارج الوعي الذاتي.
- الذين ما زالوا لم يفهموا أن طريق التقدم يكمُن في شيء واحد هو إطلاق الحرية للشعوب لتختار من ترتضيه للتمثيل والتكلم والحكم باسمها خلال فترات مرصودة مُراقبة… هؤلاء ما زالوا نائمين في وَحَل الإقطاع السياسي والفكري،. خارجين عن الوعي الذاتي بالتحولات المتسارعة في كل ميدان.
إن الذين يغنون خارج السرب ويعيشون غائبين عن الوعي الذاتي كثيرون جداً، ولكن أقبح هؤلاء وأبشعهم هو من يكرِّسُ في الأمة روح التخلف والاستسلام له، وروح الهزيمة والاستسلام لها، ويقتل فيها روح المبادرة لتجاوز العقبات، ومجابهة التحديات، بما تملكه من مبادئ إذا تحصنتْ بها، وأحْسَنَتْ تنزيلها قفزت قفزات سريعة على دروب التقدم والازدهار.
فروح الأمة دينُها، والذين يعيشون على هامش الحياة الحية يمارسون صناعة التيئيس من إعادة النور إلى العُمْي، وإعادة الحياة للأموات، ظانين أنهم غَيْرُ مسبوقين في ميادين الخيانة والخِسَّة والعمالة، مع أن التاريخ مليئ بالمثبِّطين للهمم، العاجزين عن صعود القمم، إلا أن عشاق الحق ـ وإن كانوا قلة ـ أعمقُ تجذُّرا في الفطرة، وأرسخُ ثباتاً في الأرض الإيمانية، وأبرك نُمُوا في النفوس الشريفة.
{الِذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالذِين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وآمَنُوا بِمَأ نُزِّلَ عَلََى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفََّرَ عَنْهُمْ سَيِّآتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ للِنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} (محمد : 1- 3).