ساد في الأوساط التربوية والتعليمية خلال السنين الأخيرة وبشكل مثير للانتباه، الحديث عن الانحراف المنتشر في صفوف التلاميذ والمتمثل في تفشي الغش أثناء إجراء الامتحانات. ولقد كثر الكلام عن الاستياء الذي طال جل الأساتذة من جراء المعاناة التي يعانونها أثناء فترة المراقبة أو ما يسمى بـ”الحراسة”!.
بل لوحظ على مستوى الصحافة المهتمة بالشؤون التربوية وضمن الملحقات المخصصة لمثل هذه الأمور، كتابات عديدة لمربين ومدرسين ومشرفين تربويين.. تتحدث عن الموضوع، بل أنجزت بحوث في نفس المضمار.. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على بلوغ السيل الزبى في هذه القضية والانعكاسات التي خلفتها الملابسات والحيثيات المرتبطة بهذه البلية!
ومن الأشياء الملاحظة في جل المقالات هو تسمية هذا الانحراف بـ”ظاهرة”.. فنجد مثلا العناوين التالية : “ظاهرة الغش في الامتحانات…”، “أسباب ظاهرة الغش في الامتحانات..” …الخ.
في حين أن المتأمل في الواقع التربوي سيستنتج الحقيقة التالية : وهي أن الانحراف -وأنا أسميه انحرافا لأن الغش يسير في الاتجاه المضاد لمكارم الأخلاق والآداب الإنسانية النبيلة- الذي أصاب شباب اليوم في كل ما يتعلق بحياتهم اليومية عموما، والدراسية على وجه الخصوص، ليس بظاهرة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة.. وإنما هو مصيبة أصيب بها الجسم التربوي والأخلاقي لمجتمعنا وطال الناشئة والشباب -عمدة المستقبل واحسرتاه!- في أحوالهم ودراستهم.
ولكي نكون منصفين في حكمنا وتحليلنا لهذا الأمر بشيء من الموضوعية، ولكي لا نتسرع في الحكم على شبابنا ويؤول بنا الحال إلى الظلم الذي حرمه الله تعالى على نفسه وجعله بين عباده محرما.. سنتناول القضية موضوع هذه الورقة بشيء من التمحيص والتدقيق والتبين حتى لا نصيب قوما بجهالة فنصبح على ما فعلنا نادمين..
أولا- تفشي الغش في المجتمع : الواقع المر.. :
ونحن أمام هذه المعضلة التربوية الخطيرة، نتساءل في حيرة وذهول : ما الذي تغير في واقع التربية والتعليم؟ ما هي الدوافع المؤدية إلى الغش والتدليس في الامتحانات؟ ما هي التحولات المرافقة داخل المجتمع والتي ولدت مثل هذا الانحراف المشين..؟
أتذكر وأنا تلميذ في الصف الأول من التعليم الثانوي (الأولى علوم حاليا)، أننا كنا لا نتجرأ حتى أثناء الحصص العادية للدرس أو التمارين التطبيقية على الاعتماد على الغير في تحديد الإجابة للأسئلة المطروحة إيمانا منا بأن ذلك لا يليق بمن أراد بناء شخصية مسؤولة ومكتسبة للثقة في النفس… هذا كان يقع في الظروف العادية للدراسة فما بالك بأجواء الامتحانات التي كانت لها هيبة وأيما هيبة!..
وأنا اليوم أباشر عملية التربية والتعليم، ألاحظ الفرق الصارخ بين الأمس واليوم، وأقول في نفسي : لا بد لهذه التحول من أسباب حقيقية وجب التنقيب عليها وتحليلها والنظر في الروابط التي تربطها مع بعضها عسى أن نضع الأيدي على مكمن الداء ونتمكن من وصف العلاج الشافي لهذه المصيبة..
ليس غريبا على مجتمع ينتج الغش صباحا ومساء، أن يكون أبناؤه في منأى عن الإصابة بهذا الوباء السرطاني المدمر..
فالطفل الذي يفتح عينيه على أبوين غارقين في الغش لا يمكنه أن يعرف الأمانة وأداء الواجب..
فهو ينظر إلى أبيه في تعامله مع الناس فيلحظ الغش والتدليس، الغش في القيام بعمله فلا يلتحق به إلا متأخراً أو متهاونا، وإذا كلم في الموضوع نطق بسيل وابل من الاتهامات للجهات المسؤولة.. وينظر إليه في مواعيده وعهوده فيرى الكذب والتستر والخيانة.. ويرافقه إلى البقالة أو المتجر فيلاحظ تماطله في أداء واجبات الناس.. وإذا وجه نظره تلقاء أمه رأى العجب العجاب فمن علاقتها مع الجيران والمبنية على التدليس والغش والأنانية.. إلى علاقتها مع زوجها/أبيه التي حكمها التوجس والحذر والعواطف الخادعة والكلام المنمق..
هذا الخرق الذي أصاب فضاء الأسرة أدى إلى افتقاد الأطفال واليافعين للإطار الموجه والحصن الحامي، فأصبحت ثقافة الغش هي السائدة وأمسى التمرد والعصيان قاعدة..
الغش واقعة اجتماعية لا يمكن إنكارها فهو ليس معزولا عنا، فالعلاقات الاجتماعية عموما مبنية على الغش والنفاق وتحري المصلحة الآنية والمنفعة الدنوية. والمجتمع الذي يعيش فيه تلاميذنا غارق في الغش وخرق القانون، من قانون السير إلى أسمى قانون البلاد..
من هنا لا يعقل أن نطالب أبناءنا باللاغش وسط محيط من الغش المؤسسي وغير المؤسسي.. بل إن الدفع في اتجاه محاربة الغش داخل المؤسسات التعليمية وحدها، وحصر الأمر في هذا النطاق وحده، هو نوع البناء على الرمل أو الكتابة على الماء..
ثانيا- أجواء المؤسسة التعليمية:
عندما يلتحق التلميذ بالمؤسسة يلحظ جملة من الخروقات التي ترسخ في ذهنه صورة غير سليمة عن المؤسسة المكان الذي كان من المفروض أن تسود فيه أجواء الأمانة وأداء الواجب والعدالة والتربية السليمة والأخلاق النبيلة، هذا المكان الذي وإن أصيب المجتمع بأكمله بالتردي التربوي يبقى هو المنقطة المحررة والبعيدة عن كل تشوه تربوي أو خدوش أخلاقية..
< فمنذ اليوم الأول في الدراسة يبدأ خرق القواعد والأنظمة الإدارية :
- عدم احترام تاريخ الالتحاق بالدراسة، رغم الإعلانات والملصقات والمثبتة أمام المؤسسات التعليمية.. والتلاميذ يعلمون علم اليقين أن الإعلان إنما هو من باب تبرئة الذمة وعدم تحمل الإدارة للمسؤولية!..
- المحسوبية والوجاهة التي ترافق عملية التسجيل تخلف آثارا بليغة في نفوس التلاميذ..
< عندما تبدأ عملية إعطاء الدروس، تبدأ معاناة التلميذ مع أجواء الغش :
- توزيع الكتاب المدرسي (حال وجود مكتبة مدرسية) حيث يمنح لأصحاب الوسائط ويضطر المعوزون لشرائه..
- طريقة إعطاء الدروس وما يرافقها من غش، فيجد التلميذ بعض الأساتذة الذين لا يؤدون واجباتهم في التدريس لا من حيث ما يقدمون من دروس أو ما يشرحونه من مضامين وأفكار..
ثالثا- وللتلميذ نصيب معلوم في القضية! :
لا جرم أن للتلميذ نصيباً في الحالة التي آل إليها اليوم، ذلك أن الغش الذي أصبح جزء لا يتجزأ من حياته الدراسية مرده إلى مجموعة من الأسباب نذكر منها :
< فقدان جل التلاميذ للمنهجية الصحيحة في الدراسة، فنجد أن الأجواء الأولى للموسم الدراسي تكون عندهم مطبوعة بالتراخي والكسل واللامبالاة، ويبقى التلاميذ على هذه الوتيرة إلى حين اقتراب الامتحانات حيث يحاولون لملمة الجهود واستدراك ما فات دفعة واحدة الشيء الذي يؤول في نهاية المطاف إلى التفكير في إنقاذ الموقف واجتياز عقبة الامتحان بشتى الوسائل ومنها الالتجاء للغش والتدليس..
وكان الأولى والأصوب أن يعوا بأن الاستعداد للامتحانات يبدأ منذ اللحظة الأولى للدراسة ومنذ كتابة أول سطر على الكراسة..
< عدم وجود تدبير صحي وحقيقي للوقت.. فنجد أن جل التلاميذ يمضون أوقاتهم في اللهو واللعب وإضاعة الأوقات فيما لا يفيد ولا ينفع.. خاصة إذا استحضرنا التطور الذي عرفته وسائل الاتصال وفي مقدمتها الصحون المقعرة التي ضلت وأضلت، وأصبح شبابنا يتعامل معها بسلبية عمياء واستهلاك أجوف..
< عدم وجود وعي حقيقي لدى معظم التلاميذ حول الدراسة وأهمية تحصيل العلم والمعرفة..
وقد تم إنجاز استطلاع في إحدى الثانويات حول هذا الموضوع فتبين أن التلاميذ بنسبة 90 في المائة ينظرون إلى التعليم بمنظور مادي صرف (الحصول على وظيفة). وإذا كان لهذا الوضع أسبابه الموضوعية المرتبطة بالمستوى الاقتصادي للمجتمع فإنه يعكس إلى حد ما الدواعي المولدة للغش في الامتحانات والمتمثلة بالأساس في البحث عن الخلاص الفردي من الأزمة..
ربعا- هذا هو الواقع. فما هو البديل؟ :
إن استقصاء كل الجوانب المتعلقة بالموضوع غير ممكنة ضمن هذه الورقة التحسيسية.. ذلك لأن رقعة المشكلة واسعة ومكمن الداء ليس وحيدا وسبب الأزمة/المصيبة ليس منفردا.. ولكن حسبنا في هذه العجالة تحديد السبيل إلى العلاج، ووصف البديل العملي لهذه المعضلة..
وما سأثيره هنا لا يعدو أن يكون سوى عناوين كبرى يمكنها أن تشكل انطلاقة لمواضيع مفصلة ودراسات ميدانية عميقة تحيط بحجم القضية وملابساتها وتمثل مشاريع للبحث المتأني الدقيق..
وفي هذا الصدد يمكن رصد النقط التالية :
< إعادة الاعتبار للأسرة وللدور الريادي الذي يمكن أن تلعبه في ضبط التوازن التربوي للمجتمع، وذلك بوعي الآباء والأمهات وتحصيل الفقه الضروري لممارسة الواجب التربوي المنوط بهم..
وقد سبق أن نشرنا على صفحات جريدة المحجة هذا الموضوع (أنظر موضوع : تربية الآباء والأمهات ضرورة لتربية الأبناء -العدد 129).
ونحن نعلم علم اليقين أنه إذا افتقدنا تأثير هذه المؤسسة المركزية في المجتمع فلنأذن بخراب وضياع ودمار.. وهذا لعمري ما نعيشه أو نكاد!!
< العمل على إصباغ وسائل الإعلام في فترة الاستعداد للامتحانات -على الأقل- بصبغة الجدية وتجنب كل ما من شأنه أن يشتت ذهن التلاميذ من نقل المباريات المختلفة وعرض الأفلام المثيرة وغيرها.. وحري بإعلامنها أن يخصص شهرا كاملا لعرض دروس وتمارين للتلاميذ في مختلف المواد بهدف المراجعة والإسهام في التحصيل السليم اقتداء بقنوات أخرى عربية وغير عربية تسير على هذا النهج الإنساني القويم!
< ترشيد المناهج والبرامج التعليمية، لأن جل المشاكل المرتبطة بالعملية التعليمية والتعلمية مردها إلى عدم استقرار قرارات وزارة التربية والتعليم على منوال واضح ومنهجية موجهة.. فكل مرة تطالعناالوزارة بـ”إصلاحات” جديدة وتغييرات متنوعة على مستوى المقررات والمناهج والبرامج.. مما يصيب العملية جملة بنوع من الفوضى وعدم المردودية..
فنحن مع إصلاح التعليم في المناهج والبرامج ومع تطوير الأساليب والطرق.. ولكن في الاتجاه الصحيح المتماشي مع منطلقاتنا الحضارية وهويتنا الإسلامية الأصيلة..
< إشاعة روح المسؤولية في صفوف الأطر العاملة داخل المؤسسة الواحدة من مدرسين وإداريين في أفق تحقيق مردودية أكبر وتجنب كل الخروقات التي سبق الحديث عنها واستحضار معية الله تعالى الذي سيسأل كل مسؤول عما استرعاه من رعية.. فالواجب أن يعد كل منا للسؤال جوابا وللجواب تفسيرا وبيانا.. ويوم القيامة سيعلم المسؤولون أي منقلب سينقلبون..
< حرص الأساتذة على أداء واجب المراقبة في أكمل وجه وأجمل صورة، وضرورة تعاون الإدارة معهم وذلك باتخاذ كل الإجراءات الضرورية واللازمة ضد كل من تسول له نفسه اقتراف رذيلة الغش أو المساعدة عليها أثناء الإمتحان..
وفي هذا الصدد نشير إلى أن جل التلاميذ المقترفين للغش ينطلقون من أمرين :
> الأول، أنه إذا ما وفق في قضاء مأربه باستعمال وسائل الغش والتدليس، فهذا هو المبتغى وذلك هو الهدف..
> الثاني، أنه إذا ضبط متلبسا فلن يصيبه مكروه ولن يؤذيه أحد! ذلك أن الأستاذ لن ينال منه بسوء ولن يكتب عنه تقريرا يؤدّى به إلى الضياع.. بل إنه يعلم علم اليقين أن التقارير المكتوبة في مثل هذه الأوضاع لا تؤخذ بعين الاعتبار وأن وساطة بسيطة تجعله في مهب الريح وبدون جدوى!!..
من هنا يجدر بنا أن نعطي للإجراءات المرافقة للامتحانات مصداقية على مستوى الواقع، ونفهم التلاميذ أنها ليست حبرا على ورق أو شعارات جوفاء..
< توعية التلاميذ بأن الغش وما يرتبط به من طرق الاحتيال والتدليس سبيل غير صحي، وأنه وإن كان يبدو نافعا في فترة من الأوقات فهو يشكل معول هدم لحياتهم ومستقبلهم حيث سيعيشون على هذا النهج المشين وستنطلي حياتهم كلها بالغش سواء في أعمالهم، أو في علاقاتهم أو مع الناس، أو في أسرهم ومع أبنائهم.. وهذا هو الخراب بعينه في الدنيا قبل الآخرة..
خاتمة :
إن إصلاح المجتمع يبدأ من أداء كل فرد لواجبه المنوط به في أبسط صور الواجب، من صدق النية مع الله في الأعمال إلى إماطة الأذى عن الطريق.
وحين يعي كل فرد هذه الحقيقة فإن شؤوننا ستعرف الإصلاح، ومجتمعنا سيعرف التغيير ولن يغير الله ما بقوم {حتى يغيروا ما بأنفسهم}.(الرعد : 12).