يعتبر يوم الجمعة من خيرة أيام الدنيا، وفيه قال النبي : >خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، وفيه خلق آدم عليه السلام، وفيه أدخل إلى الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة<(1).
ولما كان لهذا اليوم هذا الفضل العظيم، فإن الناس تتفاوت درجاتهم في الأجر بحسب تبكريهم إلى صلاة الجمعة، كما ورد ذلك في الأثر، فقد روى إمامنا مالك في الموطأ عن أبي هريرة ] أن رسول الله قال : >من اغتسل يوم الجمعة غُسْلَ الجنابة، ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام، حضرت الملائكة يستمعون الذكر<(2).
هذا وقد وردت أحاديث كثيرة فيفضائل هذا اليوم، نورد منها ما رواه الإمام البخاري في صحيحه، عن سلمان الفارسي قال : قال النبي : >لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدّهِن من دهنه أويمسُّ من طيب بيته، تم يخرج، فلا يُفَرِّقُ بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى<(3).
وقد ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله بعضا من خواص هذا اليوم فقال : “صلاة الجمعة هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظم من كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضه سوى مجمع عرفة، ومن تركها تهاونا بها، طبع الله على قلبه، قرب أهل الجنة يوم القيامة، وسبقهم إلى الزيادة يوم المزيد بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة وتبكيرهم”(4).
فلا غرو إن ورد الأمر الإلهي بوجبها في قوله تعالى : {يَا أيُّها الذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِي للصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلىذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البيع ذلكم خير لكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون، فإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وابْتغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ واذْكُرُوا اللَّهَ كِثِيراً لعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(5).
من أجل ذلك بات في حكم المندوب إن لم نقل الواجب على الخطباء أن يقدموا للمؤمنين في خطبهم في هذا اليوم، ما ينفعهم في دينهم، ويشد بتلابيب عقولهم.
غير أنه لكامل الأسف، فقد ظهر في الآونة الأخيرة من بعض الخطباء ما غير المنحى الغائي من الخطبة، الذي هو استقطاب أكبر عدد من جموع المسلمين، وجعلهم أقدر على أن ينهلوا من تعاليم دينهم الحنيف، ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم.
حيث غالوا في تطويل الخطبة، بشكل يبعث على الملل والنفور، غير آبهين بأحوال الناس، ولا سيما حين تضيق رحاب جنبات المسجد بالمصلين، فيضطرهم ذلك إلى المتابعة خارجه، وهم بين حر الشمس أو قر البرد.
ولازلت أذكر كيف كان المصلون يقعون في حرج أيام رمضان، حين كان بعض الخطباء ينهون خطبهم في وقت متأخر، فيخرج المصلون يهرولون للالتحاق بالمؤسسات التعليمية، وربما كان من بينهم من تفوته الحصة الدراسية الأولى زوالا، بحكم طبيعة التوقيت المدرسي الخاص برمضان.
وأعتقد أن مثل هؤلاء الخطباء قد نسوا أو تناسوا حديث رسول الله ، حيث سأله رجل قائلا : >والله يا رسول الله إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا فما رأيت رسول الله في موعظة أشد غضبا منه يومئذ، ثم قال : إن منكم منضرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذو الحاجة(6)، وفي رواية أخرى عن أبي هريرة أنه قال عليه السلام : >إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء<(7).
فإذا كانت هذه الأحاديث الشريفة تنكر عمن يطيل بالناس في الصلاة، فإن النهي عن الإطالة أنكر في خطبة الجمعة من باب أولى وأحرى، إذا أخذنا بعين الاعتبار الحالة الصحية لأولئك الذين يبكرون إلى المسجد، وأغلبهم من الشيوخ والعجزة.
هذا عن التطويل في الخطبة، فإذا انضاف إليه الكلام المنمق، الذي يحفل بالرنة الموسيقية التي تحدثها تلك النبرات الصوتية، المترتبة عن الحرص الشديد على تحقيق السجع في الكلام، فإن ذلك ربما يخل بالمقصود، حين يجعل السامع مشدوها وحريصا على تتبع تلك التفاسيم الصوتية، عله يلحظ فيها سقوطا في الميزان، أكثر من حرصه على مضامين الموضوع الذي تعالجه الخطبة.
فمثل هذا النسيج من الخطب لا يحقق المقاصد والغايات الموجوة منه، لأنه يجعل الخطيب حبيس تراكيب معينة، ولا يحرر الآراء والأفكار لتنطلق لملامسة الواقع المعيش للناس.
وهذا التكلف لعمري يبعد الخطبة عن هدفها الذي هو تداول وعرض لمجموعة من المستجدات التي شهدها المسلم في أسبوعه، والتي تبقى في حاجة إلى تسليط الضوء عليها من منظور شرعي للحكم عليها بالصحة أو البطلان، أو لتقويمها وتوجيهها على الأقل.
لقد كنت من المحظوظين صبيحة يوم الجمعة من العطلة الربيعية المنصرمة لهذه السنة، حين جلست لأستمع على الهواء -مباشرة- لخطبة شيخنا الجليل فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، حيث تحدث في الخطبة الأولى عن آفة الكذب بأسلوب مبسط سهل يفهمه الجميع، مع تركيز في العبارة، وربط لكل ذلك بواقع المسلمين، ينتقل في الخطبة الثانية لقضيتين بارزتين شهدهم الأسبوع المنصرم على الخطبة، تتعلق الأولى : بزيارة البابا للأرض المقدسة، والثانية : باحتفال الشعب الفلسطيني بيوم الأرض، منبها إلى واجب المسلمين جميعا لنصرة إخوانهم الفلسطينيين المشردين، وأنه حري بهم أن يحتفلوا بهذا اليوم في كل أنحاء المعمور. فكانت بحق خطبة جامعة مانعة، عظيمة الفائدة كبيرة الوقع في النفوس، قصيرة الوقت، خالية من الملل والكل.
فيا خطباءنا الأجلاء رفقا بالمصلين، وخاطبوا الناس بما يفهمون، ولا تحملوهم من الأمر ما لا يطيقون، خاصة في هذا الوقت الذي فتن فيه الناس عن دينهم، لكثرة انشغالاتهم.
إن الإقبال على المساجد أو الإدبار عنها، والإقدام على الإستماع لخطبة الجمعة أو الإحجام عنها، أصبح رهينا بمدى حجم الوقع والتأثير الذي تتركه الخطبة في نفوس المصلين، وهو ما يدعو إلى وقفة تأمل اتجاهها، لمراجعتها بغية إخراجها من الرتابة التي باتت صبغتها الرئيسية، والمتمثلة في تلاوة خطب جاهزة -مرتبة ترتيبا مناسباتيا- في سبيل المضي لها إلى معالجة حصيلة ما تراكم داخل أسبوع المسلم من مستجدات، وأحداث، لتقويمها بمنظار الشرع، حتى يعود لمساجدنا دورها الريادي كما كان الأمر على عهد سلفنا الصالح، يوم كانت المساجد تغص بالمصلين، وكانت تتجاوز حدود كونها موضعا للصلاة فقط، إلى اعتبارها جامعة لمجمع المسلمين، فيها يأخذون ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وبها يسترشدون، وعلى هديها تتآلف قلوبهم، وتتوحد صفوفهم، فيتناصحون، ويزول ما بيهم من تمرات عرقية، أو نزعات جاهلية، فيتحقق فيهم بذلك قول الله عز وجل : {كُنْتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرِجَتْ للنَّاسِ تَامُرُونَ بالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤمِنُونَ باللَّهِ}(8).
—–
-1 صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب : فضل يوم الجمعة، ج 585/2.
-2 الموطأ، كتاب الجمعة، باب : العمل في غسل يوم الجمعة، ص : 85.
-3 صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الدهن للجمعة، ج 412/2.
-4 زاد المعاد، ج 283/1.
-5 الجمعة : -9 10.
-6 صحيح البخاري، كتاب الآذان، باب : تخفيف الإمام في القيام.. ج 340/1.
-7 المصدر السابق، نفس الكتاب، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء.
-8 آل عمران : 110.